العلاقة الجمالية بين كرة القدم والأدب : أمجد ناصر - كلُّ شاعر لاعب كرة قدم سابق!

هذا صحيح، فالعلاقة بين الشعر وكرة القدم أوثق مما تظنون، مع أنَّ لا علاقة فعلية بينهما! فكـُرَةُ القدم نشاط رياضي صرف، بدني صرف، على الرغم من اعتماده على شغف (=عاطفة) وتكتيكات ومهارات
1f642.png
(= عمليات ذهنية)، ولكن، من دون أداته الرئيسية (الجسد) لا وجود لهذا النشاط. لا يلعب لاعب كرة القدم بعاطفته وذهنه، بل بجسده الذي ينبغي أن يتوفر على مستوى لياقة معين، حتى يمكنه الانخراط في "المستطيل الأخضر"، نحو ساعة ونصف الساعة من الحركة البدنية المتواصلة. لذلك، هناك عمر معين للاعب كرة القدم. ليس ذهنه الذي يشيخ، ولا عاطفته التي تتراجع، بل جسده الذي لا يعود قادراً على الخدمة.
ولكن، ما علاقة هذا كله بالشعر؟
هناك علاقة.
واسمحوا لي بالبرهنة عليها.

***
كرة القدم والشعر نشاطان متلازمان في عمر البشر المعاصرين (دعوني أقول الذكور). ولكن، في سنٍّ معينة بعد ذلك، يفترقان، ربما، إلى الأبد. كلّ مراهق لَعِبَ كرة قدم. ليست هناك مدرسة، على الأغلب، ليس فيها فريق كرة قدم. وليست هناك حارة لا تتحول شوارعها، ساحاتها، مناطقها الخلاء، إلى ملاعب كرة قدم. قد لا تكون كرةً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل لفافات قماش يسميها المصريون "كرة شراب" (قماش محشوّ بجرابات/ شراب)، وقدَّم عادل إمام أفضل أدواره السينمائية في فيلم يتناول هذه اللعبة "الحرّيف".
الآن، وفَّر البلاستيك أشكالاً عديدة من الكـُرات، وبأسعار مقدور عليها.
كنا أبناء حارات شعبية، والتحقنا بالمدارس الحكومية. لا أذكر أحداً من أبناء الحارة لم يلعب "كرة" قدم. لا أتحدث عن المهووسين بهذه اللعبة (وهم كثر)، ولكن، حتى عمّن لم يهتموا بالرياضة والأنشطة البدنية، فإن لم تلعب كرة قدم في حي شعبي، ماذا عساك تفعل بفوران جسدك؟ ففي تلك الحارات التي لم تكن فيها شوارع معبَّدة، لا وجود لـ "مرفق" لتصريف النشاط البدني، هناك "الزعرنة" والعصابات وسكاكين الكبّاس. وهناك كرة القدم، أقصد الكرات القماشية التي كانت مناسبة جداً لأقدامنا الحافية.
كانت هناك نوادٍ رياضية في مركز المدينة، لها فرق "محترفة"، ولكن هذا الطور من العلاقة بكرة القدم يحدث بعد افتراق الكرة عن الشعر، ولنخبة محدودة جداً من الشبان، أولئك الذين كنا نحسدهم على انتمائهم إلى نادٍ له شعاره وقميصه الخاصّان، أولئك الذين سيرتدون شورتات وأحذية رياضية حقيقية، و"يشوطون" كرة قدم حقيقية أيضاً.

***
وبما أن "كرة" قدم الأحياء الشعبية ليست حقيقية، وقلة هم الذين توصلهم أقدامهم الحافية إلى النوادي الرياضية، فإن "الشعر" الملازم لها ليس حقيقيا كذلك، أعني ذلك التعبير المنثال، الذي يجهد لتقليد شعر المنهاج المدرسي، أو تلك "العبرات" المتفجّعة التي تضمها رسالة تحمل قلباً مطعوناً بسهم. فمَنْ، في فترة المراهقة، ذات الانقلابات الجسدية والنفسية، لم "يحب"؟ لا أظن أن هناك مَنْ لم يخفق قلبه، تضطرب نفسه، تتسارع دورته الدموية، تتعرّق يداه، عندما يطلُّ طيف "الحبيبة" المعبود. وبما أن هذه الحالة تحتاج إلى تعبير غير جسدي (على الأقل في بلادنا، على الأقل في زمني)، فإن التعبير المتاح عن فوران الروح والجسد هو الكلمات، سواء انتظمت في شكل "قصيدة"، تقلّد ما تعرفه من شعر، أو رسالة تنهل من مجازات الشعر ووطأة عاطفة المراهقة ومبالغاتها.
فمثلما كلُّ مراهق "لاعب كرة قدم" (على النحو الذي بسطناه)، فإن كل مراهق "شاعر" وليس رساماً، شاعر وليس قصّاصاً، شاعر وليس موسيقياً، لأنَّ "الشعر" هو، على ما يبدو، الشكل الأقدر على التعبير عن "الحب". هناك خانة شعرية خاصة، تسمى "قصائد حب". فهل هناك لوحة اسمها "لوحة حب"؟ من يعرف لوحة (حتى لأعظم الرسامين) يمكن وصفها كذلك؟ هناك رسامون عديدون رسموا حبيباتهم (بيكاسو أشهرهم)، غير أنَّ تلك الأعمال التي عبَّرت عن تصورات نفسية واجتماعية وجسدية وفنية لا تستطيع، حسب ظني، أن تحدث عند المتلقي الهزَّة الجمالية التي بمقدور قصيدة الحب (الناجحة فنياً وشعورياً) أن تحدثها.
ليست كلّ الأقدام الغضَّة قادرةً على الوصول إلى فرق النوادي، قلة تتمكن من ذلك. وهذا حال الشعر، فـ "الشعر صعبٌ وطويلٌ سلَّمه"، على حد تعبير الحطيئة، ومن بين كلِّ "شعراء" المراهقة لا يواصل درب الشعر، إلى أن تنضب مياهه، إلاَّ الراسخون في أحلام اليقظة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى