حسن المسعود - حيوية الخط العربي

استوحت تقاليد تعليم الخط العربي في البداية، الكثير من طرق تعليم الخطوط القديمة في الشرق الأوسط، أي منذ العصر السومري والحضارة المصرية القديمة. إن ما وصل إلينا من الكتابة المسمارية كان قد عمل على الطين، أما الحضارة المصرية القديمة فتركت لنا الكثير من أوراق البردي المخطوطة بالقلم وبالحبر الأسود، وهذه الصفحات القريبة الشبه لمظهر الكتابة العربية، تتوزع اليوم بين المتاحف العالمية.

وعند التمعن في مظهر خطوط هذه الصفحات نجدها تـقـترب تقـنيا من الخط العربي. وقد تكرر عندي احساس وأنا أزور المتاحف وأرى من بعيد بعض الصفحات المخطوطة، كنت أتصور ذلك للوهلة الأولى بأن ما أراه هو خط عربي بأسلوب النسخ، ولكن عند اقترابي من الكتابة أكتشف أنها أحد الكتابات المصرية القديمة.

إن زاوية وضع منقار القلم على الورقة للخطوط المصرية القديمة كان بحدود 45 درجة، وهو المعدل الوسطي لما يستعمله الخطاطين العرب حتى يومنا الحاضر. كذلك أن نسب وقياسات الكلمات على السطر تكون متقاربة أيضا.
إن وصفات تحضير الحبر القديمة لازالت هي نفسها، وتستعمل حاليا ً من قبل الخطاطين حول البحر الأبيض المتوسط.

وقد عُــثر على نصوص مصرية قديمة تمجد مهنة الخطاط ودوره في المجتمع، وهي تشابه النظرة المحترمة لهذه المهنة خلال كل القرون الماضية في البلدان العربية الإسلامية.


كان التدريس فيما مضى يتضمن شكل الحروف، أي الخط ومعنى الكتابة في آن واحد، بينما في عصرنا الحالي أهمل تدريس الخط تماما ً في المدارس.

أهمية تعليم الخط، تكمن في كونها تعمل على خلق النظام والجمال في داخل الإنسان قبل البدء بالخط على الورق. وإن كان مفهوم الجمال متطورا ومتغيرا جغرافيا وزمنيا على مر القرون، فأن المواد والتقنيات لم تتغير كثيرا ، ولازال الخطاط يستعمل مثلا ً قلم القصب لمطاوعته وبساطة تحضيره، ويمكن الحصول عليه بسهولة لوجوده بكثرة في الطبيعة.

عند ولادة الكتابة العربية قبل حوالي خمسة عشر قرنا كانت أشكال الحروف بسيطة وبدائية، ولكن ابتكار الخط الكوفي في بداية الإسلام مهد لظهور حركة فنية متعددة في الخط العربي، تتمثل في إعادة رسم الحروف بحسب تأثيرات متعددة منها دينية واقتصادية وفنية وأدبية وسياسية.
ما بين القرن التاسع والقرن التاسع عشر وُلدت أساليب وتكوينات خطية لا حصر لها. ويمكن أن تكون هذه التركة الثرية للخطاطين القدماء أحد روافد الفن العربي المعاصر.

طرق التعليم للخط العربي استمرت على حالها كما كانت سابقاً، حيث يطرق الشاب الهاوي باب شيخ معلم، يتلقى منه المعرفة الادبية والتقنية والفنية في كيفية رسم الحروف وتحضير الحبر وصقل الورق، واستيعاب كل ما يتعلق بهذه المهنة على الصعيد الأنساني والفلسفي.

ومن النصوص الكثيرة التي كان الخطاطون يلقنونها لتلاميذهم اخترت هذه المقاطع البسيطة:

ـ انظر إلى الحروف كيف وُضعت على الطبائع، وإلى الطبائع كيف وُضعت على الحروف، وكيف تنتقل الطبائع إلى الحروف والحروف إلى الطبائع.
جابر بن حيان

ـ حسن التأني لامتطاء الأنامل وإرسال المدة بقدر إشباع الحروف ـ
الحسن بن وهب

ـ إن للخط ديباجة متساوية، وأما وشيه فشكله، وأما التماعه فمشاكلة بياضه لسواده بالتقدير. وأما حلاوته فافتراقه في اجتماعه ـ
العسجدي الخطاط

الحروف العربية ليست ثابتة الأشكال في الخط، بل تتطلب تحولاجديدا في كل مرة تـتغير فيها الكلمات. كل كلمة جديدة تبحث عن تعادل جديد. تعادل بالنسبة لما قبلها من الكلمات وما بعدها. ولهذا السبب يكون تعليم الخط طويلا نسبيا ً بالمقارنة مع الفنون الأخرى. فلابد من استعداد فطري، ومقدرة يدوية على رسم الحروف وإحساسا مرهفا رقيق الشعور، والصبر الطويل.

إن تعلم رسم أشكال الحروف قد يكون يسيرا لكن الصعوبة تكمن في ـ مشاكلة بياضه لسواده ـ كما يذكر العسجدي في العبارة أعلاه. أي كيف يمكن السيطرة على الفضاء المحيط بالكلمات ، وهذا الفضاء هو تجريدي غير محدد ولا يمكن تدريسه. وأن الممارسة الطويلة للخط وحدها يمكن أن تجعل الوعي بالفضاء ممكنا.

وفي نص جميل يقول لنا الصولي:

ـ إذا كان الخط حسن الوصف، مليح الرصف، مفتح العيون، أملس المتون، كثير الائتلاف، قليل الاختلاف هشت إليه النفوس واشتهته الأرواح، حتى أن الإنسان ليقرؤه ولو كان فيه كلام دنيء ومعنى رديء، مستزيدا ً منه ولو كثر من سآمة تلحقه. وإذا كان الخط قبيحا، مجته الإفهام ولفظته العيون والأفكار، وسئم قارئه، وإن كان فيه من الحكمة عجائبها ومن الألفاظ غرائبها ـ

الخطاط العربي هو كالفنان التشكيلي في العصر الحديث يتطلب منه عمله، الخلق الفني الجديد لكل مساحة جديدة. ابتكار في وضع الحروف في الكلمات والكلمات في السطر والسطور على الورقة.
أو في مجال آخر وعند العمل مع المهني حيث يضطر الخطاط لإقحام الحروف في المساحات التي تفرضها أشكال الحاجيات والديكور الذي ابتكره المهني. تارة يكون الشكل مستطيلا ًوتارة أخرى دائريا، محدبا أو مقعراً. ولابد من قوة وتعبير في الخط، قوة تكمن في كل مليمتر واحد من أجزائه. ابتداء من أصغر الحركات حتى نهاية الكلمات.

بالإضافة إلى الجوانب الفطرية والموهبة عند الخطاط. يحتاج هذا الفن إلى تمرين طويل، ودراسة للتقنيات المعقدة. فالتمرين على أشكال الحروف يجب أن يكون بشكل مستمر وسابق للتمرين قبل الخط يوميا. وهكذا لطيلة الحياة. كما يجب أن يحفظ الخطاط على ظهر قلب كل أشكال الحروف، وأن تكون لديه القدرة على إمكانية تحويرها في لحظة الخط إن تطلبت الضرورة لذلك. فالحروف العربية منها العمودية ومنها الأفقية، وتعاقبها يولد تكراراً مختلفاً لأجسام الحروف والفراغات.
إن الكلمة في الخط العربي هي كالإناء الفارغ، ولابد من موازنة الفراغات داخل الكلمة نفسها وداخل السطر بأكمله. وموازنة الإيقاعات للحروف هي كما في الإيقاعات الموسيقية. وبالتالي تمنح هذه الإيقاعات المرئية للمشاهد نشوة عند رؤيتها. وهذا التصرف في الفضاء والتحكم فيه قاد الخطاط فيما بعد للصعود بتكويناته في الفضاء كتماثيل ديناميكية.

ومع الادراك لكل القواعد الهندسية والنماذج التي يكررها الخطاط بمهارة ، فأن الوضع النفسي وحالة الجسم يفرضان تأثيراتهما.
كان الخطاط الحافظ عثمان يقول: لو عُرضت علي الخطوط المختلفة التي كتبتها طوال الأسبوع؛ لعرفت بحاستي الفنية، من بينها. خطوط يوم السبت، لأنها تكون أقل مرونة من خطوط بقية أيام الأسبوع. بسبب توقفي عن الكتابة يوم الجمعة.

سلسلة من أجيال الخطاطين الكبار نقلت لنا تقاليد الخط القديم. من معلم إلى شباب متعلمين. وكل متعلم عليه استيعاب وهضم كل ما تركه الأقدمون من خطوط، وهو بدوره عندما يكبر يحاط بمجموعة من الشباب الهواة ينقل إليهم ما تعلمه.


ومن فترة لأخرى يبرز خطاط مبدع يواصل الابتكار فيضيف شيئا ً جديدا، ابتكاراً لا يشابه ما عمله كل الخطاطين الذين سبقوه. فيكون عمله انعطافا في طريق الخط. وبالتالي يـُسجل كإبداع له.
كان الخط في الماضي فناً معاشاً واستـُعمل في كل جوانب الحياة، وشغل المكان الذي خصصته الشعوب والحضارات الأخرى للصور والتماثيل.

اســتـُعمل الخط للنصوص في الكتب ، ولتزيين الحاجيات المستعملة في الحياة اليومية، واُسـتـُعــمل كذلك في نتاج المهنيين من الخشب والمعادن المختلفة والزجاج ، ولكن الجانب الأكثر حضوراً للجمهور في المدن هو الخطوط التي عملت على جدران المعالم المعمارية. والتي تبقى كمتحف في الهواء الطلق.
ولما كانت بعض المواد تفرض أشكالاً جديدة، فاضطر الخطاط للابتكار دائما. فالخط المحفور على الخشب لا يشابه ما هو على الرخام. فأن الصخر الصلد يدفع الخطاط لعمل كلماته سميكة ومتقاربة كي يقلل من عمل الحفـّـار إلى أقل ما يمكن. وهكذا يمكن أن نجد أمثلة عديدة في تأثير المادة على مظهر الخط. فما عُمل من الخطوط في الفسيفساء لا يشبه ما نـُقش على الطابوق وهكذا.
إن تركة الخط العربي الثرية يمكن أن تكون قاعدة ثـقافية للمســتـقبل، بشرط مواصلة الإبداع نحو تعميق المعرفة والإحساس والفكر. وإن كان مظهر الخط يبدو حياديا ولا يعكس حالة الخطاط النفسية، فأن التعبير والإحساس الفردي يمكن أن يمر عبر الخطوط. كما يشهد أبو حيان التوحيدي في القرن العاشر:

ـ الكُـتـّاب ـ ويقصد الخطاطين ـ وأن نهلوا من شرعة واحدة، وسلكوا في سبيل قاصدة، فلابد لكل منهم أن تميل به نفسه ويسرقه طبعه، إلى معان تخص خطه وتميزه عن غيره ممن يكتب على طريقته، ولو اجتهد في محاكاة خطه، هذا إذا صدق النقد والتمييز، وخلص الكاتب من التكلف والتبديل، لأن أمزجة الناس لم تتماثل بالتطبيق، ولم تتعادل بالتحقيق. فالخط ينسب إلى كاتبه المُجيد.
*
ما الفائدة من التكلم عن تعليم الخط العربي في زمن لم يعد فيه دورالخط كما كان، فأقلام الحبر الجاف سهلة الكتابة وتلائم سرعة العصر. وأن وسائل الكتابة تنوعت، إذ أن الكثيرين يستعملون الآن لوحة الحروف في الأجهزة الإلكترونية. لكنني أؤكد هنا على أن القصد في هذه السطور هو قبل كل شيء فني، والفن يتوجه لتعميق إحساس الإنسان وتوضيح أفكاره نحو جوهر الحياة والعلاقات الإنسانية. إضافة إلى أن الفن هو أقصر الطرق لالتقاء البشر.

الضرب على الآلة الكاتبة هو ضرب عمودي، واستعماله لمدة ساعات طويله يومياً له ضرره النفسي على الإنسان. بينما الكتابة بالقلم هي أفقية، أي أكثر راحة للإنسان نفسيا وجسديا.
يمكن القول: يوجد اتجاهان في الخط العربي ويمكنهما أن يكوّنا استمرارية ثقافية لمجتمعاتنا. وفيهما فائدة لجسم الإنسان واحساساته وذهنه.

الاتجاه الأول وهو تعليم الخط للأطفال في المدارس الابتدائية. أما الاتجاه الثاني فيكون في استعمال الخط كعمل فني يعتمد الخطوط القديمة كقاعدة لتجارب تشكيلية مستقبلية.
في كل القرون الماضية كان الخط في حضور دائم ومتطور في المدينة. ويلخص ابن خلدون في هذا النص الصغير الوجود الحضاري للخط:

ـ إن الخط هو من جملة الصنائع المدنية المعاشة ـ فهو لذلك ضرورة اجتماعية اصطنعها الإنسان ـ وحيث أن الخط والكتابة هما المرتبة الثانية من مراتب الدلالة اللغوية ـ فأنها بذلك تكون تابعة في نموها وتطورها لتقدم العمران ـ شأن كثير من الصناعات المختلفة ـ ولهذا السبب نجد أن الخط والكتابة ينعدمان في القرى والبدو البعيدين عن المدنية، وتكتسب بالتحضّر والمدنية والعمران ـ

ماذا سيقول ابن خلدون لو يرى حقيقة واقعنا الحالي، حيث ينحسر الخط من مدننا ويتقلص وجوده؟ بينما في حضارات أخرى يزداد حضوره كاليابان مثلا. وكنت قد زرت مدرسة أحد الخطاطين اليابانيين، في وسط مدينة اوساكا الكبيرة. وما أدهشني أن المكان نفسه هو بناية إحدى كبريات الصحف، وهذه الصحيفة هي التي تموّل هذه المدرسة ماديا.

*

آلة الخط الأولى هي القلم ـ القصبة المبرية ـ ويسمح القلم بخط عريض، لكن استعماله صعب ومعقد في البداية. إذ يتطلب الخط بقلم القصب إعادة تنظيم التنفس بشكل مدروس. بينما لم يفكر الإنسان قبل ذلك بطريقة تنفسه. فكلنا نتنفس بشكل عفوي منذ الطفولة. أما في الخط فالأمور ليست كذلك.

أولا وقبل التمرين على الخط، لابد من تمرين مسبق للتنفس وحده. وهذا التمرين له فوائده الكثيرة، ويمكن تكراره لفائدة الجسم . نتخيل في هذا التمرين الهواء عند دخوله إلى جسمنا، ومن ثم توجيهه داخليا لينزل إلى أسفل البطن بمقدار أربعة أصابع تحت الصرة، ثم يصعد عاليا ً ليقرع باب الدماغ. يتوقف قليلا، ومن ثم يخرج من الأنف. وبذلك يزداد وعي الخطاط بعملية التنفس وبجسمه.
أما في لحظة الخط فهناك علاقة أخرى للخطاط مع تـنفسه ورئـته. إذاً انه يحبس الهواء في الرئة ويقطع تنفسه عند الخط، ويأخذ النفس من جديد في اللحظة القصيرة جدا بين التوقف والذهاب للمحبرة.
يفرض قلم القصب كذلك تعليم الجسم على البطء الشديد. وهذا البطء يكون أيضا صعبا جدا على البعض في البداية.

ولهذا أوصى القدماء بضرورة تعلم الخط مع خطاط يعرف مهنته جيدا. وذكـّروا بصعوبة تعلمه بدون معلم.
يتطلب الخط تهيؤ جسمي مسبق. ففي البداية لابد من تعلم البطيء في الخط بأكثر من قدرة الجسم الاعتيادية. والتعود على التوقف المتكرر لعدة مرّات عند خط كل حرف، وهذا يكون أيضا منافي لعادات الجسم الاعتيادية في طريقة الكتابة، لأن كل فرد اكتسب منذ الطفولة طريقته في الكتابة، كما أن لكل واحد منا طريقته في المشي، وكل ذلك يجري بشكل عفوي لم نفكر به مسبقا.
بينما في الخط يتوجب إعادة تعلم الكتابة مرة ببطء وأخرى بسرعة حسب الضرورة الفنية لإخراج شكل الحرف. إنها لغة جمالية يصعب التعبير عنها بالكلمات.

من اجل السيطرة على كل الإمكانيات التي يتيحها قلم القصب. لابد للمتعلم من تقسيم الحرف إلى عدة أجزاء والتوقف عند خط كل جزء من الحرف. وهذا ما لا يستطيع تصوره من يريد تعلم الخط وحده وبدون معلم. فأن الكثيرين يتصورون أن الخط يعمل بسرعة ومنذ البداية. بينما لابد من الخط ببطء في البداية لكي نحتويه في داخلنا ، أو كما يقال أن نحفظه على ظهر قلب.

من الضروري الذهاب للمحبرة باستمرار للاستزادة من الحبر والاستفادة لأخذ النفس أيضا. فكما قال القدماء إن الخطاط يحبس نـَفـَسـَه عند خط كل حركة. وحبس النـَفـَس هو ضرورة لإعطاء الحرية للحركة. ولمنح الحياة والقوة لها. وعند حبس النـَفـَس لا يتزود الجسم وخصوصا الدماغ بالأوكسجين. لذلك أن التوقف باستمرار والعودة للمحبرة يصبح أيضا ضرورة للتزود بالأوكسجين.
وهكذا وبسبب كون قلم القصب لا يملك مخزنا للحبر ويجـبر الخطاط للتوقف عدة مرات من اجل الذهاب نحو المحبرة. يكون هذا القلم هو الآلة الأفضل للخط ويكون أيضا ًمساهما في العملية الجمالية. لأن الخطاط سوف يستفيد من هذه اللحظات الضئيلة جدا في العودة للمحبرة، لإيجاد الفكرة القادمة للحركة التالية. وبنفس الوقت كما ذكرنا تكون هذه اللحظات كفرصة لإشباع الدماغ بالأوكسجين. وفي النهاية أن كل هذا الصعوبات والتمرن على تجاوزها، تجعل الخطاط يتطور في الخط.

كم من مبتدئ للخط أراد تعلمه بدون نصائح خطاط، لكنه تراجع أمام صعوبة استعمال قلم القصب، لأنه لم يدرك أن في هذه الصعوبات وتخطيها يكمن سـر تعلم الخط. كم من هاو لا يدرك أن البطء هو ضرورة لتكثيف الطاقة من أجل جمال الحرف.
وان تكن هذه التعاليم قد ولدت مع الخط القديم. فأنها تبقى ضرورية للخط الحديث أيضا. إذ أن البطء يكمن في قلب السرعة في الخط. وبدون البطء في بعض أجزاء الحرف لا يمكن السرعة في الأجزاء الأخرى. بل أن جمال الحرف يكون في تعايش البطء والسرعة في حروف الكلمة. إذ لا يمكن الإسراع في كل الحروف. فعند السرعة المستمرة تظهر الحروف فقيرة جمالياً. كذلك لا يمكن البطء في كل الحروف، لأن ذلك سيفقدها حيويتها.
لابد من تعلم الحوار مع الحروف، فهناك حروف متفتحة ديناميكية كالورود وأخرى متقلصة ومنغلقة كالبراعم.حروف تنظر للأعلى بفخر. وأخرى تحني رأسها خجولة.

*

يمكن دفع آلة الخط ـ القصبة ـ للأمام بقوة أو سحبها بملامسة خفيفة. فيكون القلم وكأنه استطالة وتمدد للأصابع. ولكن لابد من نسيان القلم باليد، آنذاك تـنبع الحروف من الداخل، من الحدس والإحساس معاً. كل هذا يتم في حذر ذهني، وترقب لما هو غير منتظر لمواجهته والسيطرة عليه. فأن أي تردد في خط الحروف سيبدو لعين المشاهد برودة في طاقة الحرف وفقدان للقوة. ومعنى ذلك ايضا ، ان تكرر كثيرا هو نقص في جرأة الخطاط وقدرته الفنية.

*

الكتابة بالقلم الجاف مضرة للأطفال، لأن الطفل سوف يضغط باستمرار على الورقة لكتابة الحروف. بينما ان أدوات الخط القديمة تلامس الورقة برهافة. وفيها تناوب ما بين الضغط والملامسة الخفيفة، وبذلك تعمق هذه الفوارق الرهيفة إحساس الطفل وتهذب ملكاته الجمالية الفطرية.
سبق وأن قلت أعلاه إن الإنسان يحبس نـَفـَسه عند كتابة الحروف ، وتلعب هذه الحالة عند الطفل دوراً أكبر . لذلك فأن الطفل إذا يستعمل القلم الجاف لا يدري أين يتوقف للتنفس من جديد . وأن هذا القلم بين أصابعه يكون مغريا ً للاستمرار ، فيركض لإكمال الكلمة بدون توقف، يستمر بسبب سيولة الكتابة بالقلم الجاف .
إن الاستمرار بالكتابة بلا توقف ودون تنغيم التنفس له مردود سلبي على الإنسان وخصوصا في سن الطفولة. وربما يكون مردود استعمال القلم الجاف هو السبب في تخلف ذوق وحساسية الطفل مدى الحياة. لأن السنوات الأولى هي اللبنة الأولى في تكوين الذوق الفني للإنسان.
إن مردود عواقب حالة سوء الكتابة عند الطفل، وعند الإنسان البالغ أيضا هو ضرر نفسي وجسدي، لأن الطفل سوف يعيش حالات من الاختناق والتوتر بسبب قلة تغذية الجسم والدماغ بالأوكسجين. انه نوع من التعذيب النفسي.

بينما قلم القصب القديم كانت ترافقه معلومات وشروح واسعة لتـنغيم الـتـنفس وبالتالي حسن تزويد الجسم بالأوكسجين، لذا نرى دائما ً الصفاء والهدوء عند متعلمي الخط.
ويأتي التوافق والتآلف سابقا عند الخطاطين القدماء من النسب التي تخط بها الحروف. كهذا النص الذي تركه لنا ـ أخوان الصفا ـ في القرن العاشرالميلادي:

ـ أصل الحروف والكتابات كلها هو الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة، والخط المقوس الذي هو محيطها ـ
أجود الخطوط وأصح الكتابات وأحسن المؤلفات ما كان مقادير حروفها بعضها من بعض على النسبة الأفضل.
ينبغي لمن يريد أن يكون خطه جيدا وكـتابته صحـيحة أن يجعل لها أصلا يبـني عليه حروفه، وقانون يقـيـس عليه خطوطه والمثال: أن يخط الآلف بأي قدر شـاء ويجعل غـلظه مناسـبا لطوله، وهو الثــُمن وأسـفله أدق من أعلاه، ثم يجعـل الألف قـطر الدائرة، ثم يبـني عليه سـائر الحروف.

ما يسميه إخوان الصفا في هذا النص: ـ النسبة الأفضل ـ إنما يعود إلى ما يسمى ـ النسب الفاضلة ـ وهي أفضل العلاقات بين طول وعرض الأشكال. وقد تم الاتفاق عليها منذ القدم ما بين الفنانين والمعماريين والشعراء والموسيقيين...الخ عبر دراسـات لنسـب كل ما هو في الطـبيعة من حيوانات ونباتات. وبالتالي ترجمت هذه النسب إلى حسابات رياضية. وكما يقول في الأعلى نص إخوان الصفا أن حرف الألف يكون غلظه مناسبا لطوله وهو الثمن. و يمكن تصور أن هذه النسبة آتية من نسبة رأس الإنسان إلى طول جسمه.

وهكذا نرى أن الجمال هنا يدرَك قبل كل شيء بالبصيرة لا بالبصر فقط. وقلم القصب القديم كان يجبر المتعلم على البطء وتنغيم الحركات والنـَفـَـس، مما يهب الإنسان في لحظات الخط هدوءا نفسياً، على العكس من استعمال القلم الجاف الذي يولد تصادم في الأفكار ما بين الذهن و بين قدرة اليد على إطاعة الدماغ.

وعند الإيمان والاعتقاد بأهمية هذه الأشياء، أي الجمال والوضع النفسي للإنسان، سوف ندرك أن تعلم الخط ليس شيئا من الأشياء ـ الاستهلاكية ـ والغير ضرورية، إنما حاجة للروح والجسم.
من المؤكد أنه لم يعد اليوم ممكنا تطبيق تعاليم الخطاطين القدماء لطلاب المدارس. ولابد من ابتكار طرق جديدة ميسرة تناسب زماننا الحالي. فقد كانت الطرق القديمة تتطلب أولا تعلم خط الثلث والذي يحتاج إلى سنوات طويلة لإتقانه. لذلك لابد من البدء في زمننا الحالي بخط النسخ مثلا وابتكار طرق مبسـطة لتعليم الأطفال، يمكنها أن تحسن الكتابة وتثري الطفل روحيا.

لا يعني هذا أن نستبدل اليوم كل الأقلام بقلم القصب. إنما يمكن استعماله لمدة ساعة في الأسبوع على الأقل. وبهدف فني بحت يؤدي إلى تطوير الذوق. كما نستعمل في عصرنا الحالي الفرش في دروس الرسم والتصوير التشكيلي. وأن القصب متوفر بكثرة في الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط.

*

رافقتْ مهنة الخط في الماضي تقاليد قديمة، فلم تكن هنالك مدارس بالمعنى المعروف في زماننا الحالي. وإن حصل وأن فتحت في الماضي بعض المدارس فأنها نادرة جدا وصغيرة. والطرق المعروفة التي كانت ولازالت سائدة تتم بطرق الشاب المتعلم باب شيخ معلم. لم يقبل الأستاذ أي طالب وبسهولة، بل كان الأساتذة يختارون تلاميذهم ويخضعونهم للتجارب، لكي يتأكدوا من رغبتهم العميقة في تعلم الخط.
ولم تكن هذه الحالة عند الخطاط العربي فقط. ففي الخطوط الأخرى نجد قصصا توضح لنا صعوبة القبول للهاوي داخل هذه المهنة.
كالشاب الذي أراد تعلم الخط الصيني فأشاروا عليه بالذهاب نحو شيخ قدير في معبد بقلب الغابة. وبعد أيام من المشي وصل أخيرا المعبد. ولكنه وجد أن الباب مقفلة ومهما طرق الباب صارخاً أريد تعلم الخط فلم تفتح له الباب، وعند هبوط الليل نام أمام الباب وفي صباح اليوم الثاني رُميتْ له من الأعلى قطعة خبز. وأمضى النهار أمام الباب يدق ويضرب عليها صارخا أريد تعلم الخط فلم تفتح له. وعند الليل نام مرة أخرى أمام الباب لليلة الثانية، وفي الصباح سقطت عليه قطعة خبزأخرى. واستمرعلى هذا الحال ثلاثة أيام وثلاث ليال قبل أن تفتح له الباب. أي عندما تأكد للمعلم أن هذا الشاب عنده رغبة شديدة وعميقة للتعلم، فوافق آنذاك على أن تفتح له الباب لتعلم الخط.

كان كل خطاط كبير في الماضي محاطاً بمجموعة من التلاميذ، وهؤلاء التلاميذ ينظرون باحترام وتقديرلأستاذهم ويطيعون أوامره. ولا يعطي الأستاذ معلوماته إلا بشكل مقـنن ومن وقت لآخر إلى الطالب الأكثر تقدماً فقط. وهذا الطالب هو بدوره يعطي الآخرين ما تعلمه. لذلك كان على متعلم الخط البقاء لسنين طويلة قرب الشيخ المعلم، من أجل إتقان ستة أساليب إجبارية كي يحصل المتعلم على إجازته. هذه الإجازة التي تقدم له الإمكانية بتدريس الخط. وقبول الطلبات الرسمية والتوقيع باسمه تحت خطوطه.

ولقد يبدو ما يقوله الشاعر في هذا النص مبالغا ً لكنما فيه بعض الحقيقة:

ـ ولابد من شيخ يريك شخوصها يساعد في ارشادها ويعين. ومن لاله شيخ وعاش بعقله فذاك هباء عقله وجنون.

وقال الشيخ محمد السنجاري:ـ قالا جميعا من شروط الكاتب ـ الخطاط ـ يكون ذا حرص ومهنة ثاقـب، ويبذل الأموال في تطلابها فـمهرها يغـلو على خطابها، ابن هلال قال كم أنفقت من ذهب حتى به كتبت.

رأى الخطاط الحافظ عثمان ـ القرن التاسع عشر ـ وهو في عربته أحد تلاميذه وكان متخلفا عن الحضور لدرس الخط. فنزل من مركبته وسأله عن سبب تغيبه، ولما كان العذر مقبولا فأخذ الحافظ عثمان يصلح حروف تلميذه وهم وقوف على الرصيف.
لكل أستاذ طريقة خاصة في التعليم. يقال إن الملا علي الفضلي ـ وهو أكبر خطاط في بغداد عند بداية القرن العشرين ـ كان يعطي تلاميذه كواجب سطر من الخط وعليهم التمرن عليه، وعلى التلميذ أن يأتي في اليوم الثاني بواجبه قبل صلاة الفجر بجامع الفضل. وإن تخلف أحد التلاميذ فأنه لا ينظر إلى سطره ولا يصلحه.
وكان الأساتذة يعطون معلوماتهم بشكل شـفوي. ولهذا نفـقد مع وفاة كل خطاط قدير ثروة من المعلومات الجمالية. ووصلـتنا بعض المعلومات النادرة عن تعليم الخط كهذه السطور:

ـ من لم يحسن الاستمداد، وبري القلم والقط، وإمساك الطومار، وقسمة حركة اليد حال الكتابة، فليس هو من الكتابة بشيء ـ
المقر العلائي

ـ أستمد القلم برشفة ما احتملت ظبته، فحينئذ يظهر به ما أسداه العقل، وألحمه اللسان، وبلته اللهوات، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، وقبلته القلوب ـ
مسلم بن الوليد الأنصاري ـ القرن العاشر

ـ يا هذا إذا حرفت القلم فلا تثقل عليه يدك، وإذا قومته فلا تخففها عنه، وعيب خطك مع حلاوته أن شحمة قلمك زائدة على الحاجة، ولك فيه خطرفة ـ توسع ـ تدل على قلة المبالاة، فلا تفعل، فأن سطرا من التحسين أنفع لك، وأنفق عليك من عشر ورقات من التشمير.

من المدرس بباب الطاق ـ بغداد ـ إلى ابن الخلال الوراق ـ القرن العاشر

وكثيرا ً ما نقرأ عن بخل الخطاطين بمعلوماتهم المهنية. في زمن كانت هذه المعلومات سر صناعتهم. ومن هذا ما يقوله الخطاط الأنصاري:

ـ كنت أخط في ديوان الأحول، فقربت منه وأخذت من خطه وسرقت من دواته قلما من أقلامه، فجاد خطي به، فلاحت منه نظرة إلى دواتي، فرأى القلم فعرفه، فأخذ القلم وأبعدني. وكان إذا أراد أن يقوم من مجلسه أو ينصرف قطع رؤوس أقلامه كلها.

التناسب في الخط يتكلم عنه كل الخطاطين. وهو شغلهم الشاغل. ومن نص قديم محفوظ في المغرب أختار هذه الكلمات:

ـ ومعنى قولنا جودة التقدير، أن يكون ما يفعله من البياض في القرطاس والكاغد على يمين الكتابة وشماله وأعلاه وأسفله على نسب معتدلة ، وأن تكون رؤوس السطور وأعراضها متساوية، فأنه متى خرج بعضها على بعض قبحت وفسدت. وأن يكون تباعد ما بين السطور على نسبة واحدة.

ويشابهه هذا النص الآخر:

ـ فأن الترتيب نصف الخط، وترتيبه استواء حروفه. والفصل المتقارب المتناسب بينهما، ومن ذلك إقامة أشكاله وتبيينها. واستقامة الأسطار والفصل بينها أصل جلل في الخط. واعوجاجها قبيح، ولاسيما اعوجاج أوائل الأسطار إلى أول الكتاب، وأعوجاج أواخرها إلى أواخره. ومما يستحب في الخط قصر ألفاته ولاماته واعتدالها مع أحكام سائر حروفه.
ومن رتبة الخط استواءه وأن يكون أول البطاقة منفسح الخط وأن يكون آخرها دقيقا. وأحسن ما يكتب به الكاغد الأبيض لأنه ضد لون المداد.
الكلاعي ـ احكام صفة الكلام

ويقول الشيخ عماد الدين بن العفيف:

ـ لابد من تناسب الشكل والنقط، وتناسب البياضات في ذلك للحروف.

ومن مقدمة ابن خلدون:

ـ نجد تعليم الخط في هذه الأمصار أبلغ وأسهل وأحسن طريقا ً لاستحكام الصنعة فيها، وأن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين وأحكاما في وضع كل حرف ـ وفق موازين الحروف المعروفة ـ فتجتمع لدى المتعلم رتبتا العلم والحس في التعليم، وتأتي ملكته على أتم الوجوه.



إن من يريد تعلم الخط في يومنا الحالي، يواجه صعوبات أكثرمما كان في الماضي. إذ لا يجد الهاوي من يعلمه الخط لقلة الخطاطين. وحتى أن الخطاطين الموجودين، والذين لديهم الرغبة بالتعليم، لا يستطيعون ذلك. بسبب أن الخط لا يدخل ضمن المواد التعليمية في المدارس. ولا توجد ورش تعليمية كثيرة يسهل فيها لقاء الخطاط ومن يريد تعلم الخط.
لذا أن الحل الأفضل هو أن تساهم الجهات التربوية والثقافية بتنظيم ذلك. كي يسهل الاتصال بين الخطاطين ومحبي هذا الفن.

وأخيرا لنسمع أحمد بن إسماعيل يصف هذه المهنة:

ـ مداد مثل خافية الغراب
وقرطاس كرقراق السراب
وأقلام كمرهفة الحراب
وألفاظ كأيام الشباب ـ

ثم يصف الخط الجيد:

لو كان نباتا ً لكان زهراً
ولو كان معدنا ً لكان تبراً
أو مذاقا ً لكان حلواً
أو شرابا ً لكان صفواً ـ


حسن المسعود ـ نهاية عام 2007


المصدر:
Massoudy Calligraphe

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى