حسن إمامي - الحداثة بين مداخل الاشتغال وعوائق التحديث

1 ـ (طَرْقُ باب الحداثة الشرعية)

يحاول هذا العنوان الإلمام بالملف المقترح للاشتغال عليه كمحور للعدد الجديد من مجلة الثقافة المغربية. ولعله إلمام لا يدعي الإحاطة بقدر ما يتوخى الاقتراب من التناول الموضوعي المناسب والمضيف بملاحظاته من أجل تحقيق المطلوب في معالجة قضايا مجتمعية مرتبطة بالتاريخ والواقع ومستقبل الثقافة والفكر والحضارة...

وإذا كانت الحداثة هي كل أشكال الإضافات النوعية التي تحتاجها الأمة من أجل تطورها ومن أجل مواكبتها للعصر واندماجها في مشروع الحضارة والوعي والتنظيم الحياتي الإنساني، فإن مقارنة حاجيات التطور مع واقع الحال تجعلنا نسجل أن الحداثة أنواع متعددة وحقول متنوعة، تختلف معها طرق الوصف والمعالجة والتغيير، سواء فيما يتعلق بالماديات أو المعنويات المرتبطة بالأفكار والثقافت والقناعات وأساليب التعبير والتنفيذ...

وهنا ستكون الحقول ميادين الحياة المجتمعية، اجتماعية وتربوية، اقتصادية وتدبيرية، حقوقية وسياسية مدنية وسلطات تدبيرية، ثقافية وإبداعية، علاقات مجتمعية في حاجة إلى تغيير منطق ومواصفات ارتباطاتها ووفائها يعهودها بين الحقوق الواجبات، علمية وصناعية وتكنولوجية...

كما أن التجارب التنموية التي عرفتها بلادنا على الأقل أو لاحظناها عند شعوب أخرى، تبين أن التنمية مرتبطة بمشروع الحداثة، ما داما يشتركان في تحقيق التطور المنشود للأمة وتغيير حالها الحاضر إلى ما هو أفضل في المستقبل. هكذا سنقول إن تحقق الحداثة متداخل بين حقول وميادين، وعرقلة واحد منها عرقلة لباقي الطرق وباقي الميادين. وسيصبح الإشكال بنيويا في التعامل مع موضوع الحداثة والتحديث.

إن مواكبة العصر تعني وجود إرادة مجتمعية تسير بالقرارات وأشكال التنفيذ إلى تحقيقها. لذلك سنبحث عن هذه الإرادة ومدى حضورها ورغبتها في المواكبة وفي التطور. ومادامت المصالح الطبقية والفئوية والفردية لا تعني الاتحاد والاتفاق على الرغبة في هذه المواكبة فإننا نسجل أن هناك من سيعرقل التطور لأن مصالحه تتعارض معه. هكذا تتجزأ الإرادة وتضعف وتصبح صراعا يعرقل السير الطبيعي للتطور. هكذا يمكننا أن نرجع القهقرى بدل المضي قدما في مصاف الدول المتقدمة.

وعبر التاريخ ظهرت مشاريع سياسية واقتصادية وثقافية وفلسفية متطورة في عصرها، لكنها وجدت أورتودوكسيات كثيرة حاربتها وفوّتت على الشعوب فرص التطور وعلى الإنسانية فرص الاستفادة.

وبالعودة إلى عنوان هذا المقال يمكننا الحديث عن مستوى تنظيري منشود، وآخر تطبيقي معاين. حديث عن الحداثة وما نريده معها وعن مداخلها الأساسية، وعن التحديث كممارسة وما نلاحظه داخلها من عراقل أو درجات تحقيق.

وكل معالجة ما لم تراع التداخل البنيوي بين المداخل وبين جماعات الضغط الحاضرة داخله سواء كانت تقليدية معارضة أو حداثية مسايرة ومؤيدة، فإنها لن تنجح لا في تشخيص ولا طرح حلول ومفاتيح تحديث مرغوب، وسيصبح أسلوب التحليل سياسيا ما دام يحتاج إلى إيجاد وسائط وإمكانيات تحقيق وتطبيق.

لهذا نلاحظ أن اختلاف المقاربات حول مشروع الحداثة وراءه فئات اجتماعية وحمولات ثقافية ومصالح سوسيو اقتصادية تؤثر فيه كمشروع وكمبتغى. ولهذا نجد الصراعات السياسية هي العمود الفقري الأشكال الصراع الأخرى دون أن تكون هي الموجّه الأساس، لكون الوعي ودرجات الاقتناع هي التي توجه القرارات السياسية في نهاية المطاف. فهل يمكن الحديث والقول بأن فرصنا في التحديث هي تدخلات سياسية أكثر منها تدخلات ثقافية وفكرية وقناعاتية؟

نسبية الجواب تجعله منفلتا زئبقيا، ذلك أن التداخل موجود بين الفكري والثقافي والسياسي. ذلك أن المصالح قد تجعل الفرد يعارض أفكاره حتى يحافظ على مصالحه. أو قد يعيش منفصما بين خطاب وسياسة رافضة للحداثة والتحديث وسلوك فردي مستفيد من الحداثة ومعطياتها الحضارية والتكنولوجية والممارساتية...

تستحضرني مداخل عدة للاشتغال عليها. أرجأت الكتابة حولها حتى أستبين التداخل الممكن والمنجز الممكن لأجلها. لكنها مشروع أمة ورسالة حضارة وثورة ثقافة. هذا ما نحتاج إليه لأجلها.

أبدأ بموضوع شائك، وهو ملف تحديث الشرع أو الحاجة إلى حداثة شرعية. وسيكون منطلق سلسلة مقالات يشارك فيها كل مهتم بموضوع الحداثة والتحديث. أستحضر الفكر والخطاب المعارض لأسلوب المعالجة هاته، وأضع في عين الاعتبار حاجة كل تحليل إلى تعديل أسلوبه وحجاجه وتوقفه من أجل الحوار والإقناع قبل المضيّ في ما يريده كفكرة وكمصب سنسبح ممن خلال الارتماء فيه في بحر الحداثة والذي ربما يمتنع البعض عن العوم فيه بشتى المبررات والأحكام، ولعل أخطرها مبرر التحريم الشرعي. لذلك ستكون البداية بتناول الحداثة الشرعية والحاجة إليها.

في الحداثة الشرعية:

كلمة الشرع مرتبطة بالنص الديني وأحاكمه ومقارباته التي غطت حياة شعوب وأمم عبر قرون عدة فأنتجت حضارة عربية إسلامية بحكم الدين واللغة بالأساس لا بحكم العرق والنسب. ومع هذه البداية نسجل الحاجة الحداثية لرؤية المصطلحات والمفاهيم وتصور العلاقات، لأننا خندقنا كلمة العربية داخل اللغة وألغينا بعد القبيلة وعصبيتها ومراوغات تقديسهما. وطبعا سندخل لعبة السياسة في معالجة هذه النقطة الأخيرة حتى يستبين بأن التزمت مع وعي معين مرتبط بمصالح تاريخية نتجت عن فكر خاطئ دينيا وحقوقيا.

وكلمة الشرع مرتبطة بطبقة الفقهاء الذين مارسوا سلطة الاجتهاد والتنفيذ والمراقبة للسلوك الفردي والجماعي، ولعبة التوافق والتعارض مع النظام الحاكم في كل عصر وعملية التبرير أو إعطاء الشرعية... ولا ننسى موضوعية الحكم التي تسجل بعض المواقف المشرفة لاجتهاد الفقهاء. لكن الحاجة لا ترتبط بهذا التشريف فقط بقدر ما ترتبط بما نحتاجه لأجل التطور التاريخي المواكب لتطور الحضارة الإنسانية.

إن سقف الفقهاء الذي يرسمونه للأمة يجعلها لا تفكر خارجه وبالتبع يفوت عليها فرص الوعي المتعددة التي يمكنها أن تمارسها وتساهم بفضلها في التطور والتقدم. وكإشارة فقط نلاحظ عصر الظلمات والدفاع عن عقيدة السلف والخوف من كل بدعة وجعل كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. في حين نجد حديثا نبويا شريفا يتحدث عن السنة الحسنة والسنة السيئة، فيشجع الأولى ويمقت الثانية. ما يعني أن الاجتهاد الإجابي يدخل في السنة الحسنة, ما يعني العقل يجب أن يشتغل على الجديد. فأي قوقعة هذه التي خلقت فوبيا من كل جديد ومن كل اجتهاد؟ أي لعبة هاته التي جعلت اللعبة محكَمة القبض في يد السلطة السياسية وسلطة الفقهاء، فدخل الكل في علبة تجميد تاريخية أعطت رائحة نتانتها يوم شقت فاقتحمها نور التاريخ الذي تطور خارج جهلها وداخل علمه وقوته الجديدين؟ أربعة قرون من التخلف الحضاري نعيش نتائجها اليوم كما نعيش رجعتها اليوم في راهننا أكثر مع عقول تطرف وتعصب.

لقد تشكلت عقد كثيرة تجاه الحداثة اليوم، وسببها تداخل الواقع التاريخي المرير بين الحركة الاستعمارية والحركة الاستيطانية الصهيونية، وبين استمرار هيمنة ونفوذ واستغلال الدول الغربية المتقدمة لبلداننا وخضوعنا لقراراتها ومصالحها وبالتبع تبعيتنا المفروضة علينا كأنظمة بالأساس لها. كما تشكلت العقدة من جوهر الارتباط الوجداني والروحي الذي تجعله كل جماعة لذاتها في مقابل الأخرى. فما زلنا نجتر نحن والغرب صراع القرون الوسطى المرتبط بالعقيدة والتضاد بين الأديان السماوية، في حين لم يقدنا الحوار بينها بعدُ إلى المطلوب في علاقات تسامح وكرامة وعادلة جديدة اليوم.

إن الرفض الذي نشاهده اليوم لمشروع الحداثة يتبناه حاملو فكر سلفي مرهون بفهم شرعي يبرر المواقف والقرارات. لكن هذا الفهم الذي ينسب للشرع ليس الوحيد الممكن. هكذا سنقول إننا يمكننا أن نحدث حداثة شرعية ويمكننا تحديث الشرع حتى يلائم مشروع حداثة. وما هو إلا مشروع أمة من أجل التطور الحضاري والمدني والثقافي. يمكننا أن نعطي اجتهادا عقليا يحترم كما يحافظ على كرامة الدين ودوره الإيجابي في الحياة دون مساس أو عرقلة لمشروع التحديث الذي هو تربية للإنسان وتوعية للعقل وتمدين للسلوك والمعاملة قبل أن يكون استعمالا للمادة واستفادة منها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى