سيف شمس الدين الالوسي - عش الطير.. قصة قصيرة

الرؤى تكاد أن تتلاشى، لا اعرف أين ومتى وكيف وقفت أمام موظفة استقبال اللاجئين بإحدى الدول المجهولة، ربما كانت خارج حدود كوكبنا الأم، المهم وقفت أمام امرأة جميلة، رغم أني لا أتذكر ملامحها لكن يخيل إلي بأنها كانت جميلة، ولا اعرف بأي لغة تكلمت معها، أكيد تكلمنا بلغة غير العربية.

– مرحبا.

– أهلا بك تفضل بالجلوس.

– وهل علي أن اجلس؟

– طبعا عليك أن تجلس قبالتي لأطرح عليك عدة أسئلة.

– الأسئلة !؟ أتوجد أسئلة؟؟

– طبعا ما بالك يا رجل، أتتقدم لطلب اللجوء وتمنح من دون أسئلة؟ انك حقا غريب.

– ظننت تمنحونا اللجوء من دون أسئلة.

– يبدو أنك ستتعبني كثيرا.

– لا عليك لا تقلقي.

– قل لي أولا ما اسمك؟

– أيمكن أن لا أدلي به؟

– ولماذا؟

– أخاف أن أقوله فهو يوحي لطائفة ما، وأخشى أن تكوني أنت أحداهم ولم تمنحيني اللجوء أو ربما أتعرض للقتل.

– أنت تضحكني، يا لك من ساذج، هنا لا يوجد أي شيء مما تقوله، لا تخف وقل ما اسمك.

لا اعرف ماذا قلت لها وماذا سميت نفسي، كل ما اعرفه هو أني كذبت عليها باسمي، لم اقل اسمي الصحيح خفت منه، كم هو سخيف أن نخاف من أسماءنا، هنالك الكثير من الأنواع كامنة في الخوف، يمكنك أن تخاف من كل شيء حتى من نفسك، لكنك تخاف من اسم تحمله هذا ما لا يعقل، سابقا كنا نفكر بأجمل الأسماء التي تكون خفيفة على مسامعنا، نشعر بها نغمة موسيقية عند لفظها أو سماعها، أما الآن نفكر أولا بأسماء تكون أكثر حيادية، تخلص حاملها من مشاكل كثيرة.

– من أي بلد أنت؟

– من بلاد بعيدة جدا، بلاد بأطراف الأرض، على حافتها.

– أتوجد حافة للأرض؟

– نعم توجد….. بلادي هي على حافة الأرض.

– وكيف ذلك يا رجل؟

– الم نتساقط منها، الم اسقط منها لأجد نفسي فجأة هنا، لا يسقط الشيء إلا إذا كان على الحافة،… أو الهاوية، ولهذا بلدنا على حافة الأرض.

– فهمتك، تقصد أنت من بلاد العرب.

– الحمد لله، لقد فهمتي ما اقصده.

– لا توجد أوطان يتساقط منها أبنائها سوا بلاد العرب، وما هو جنسك…. ذكر…. أنثى… أم الثالث.

– أنا الجنس الرابع.

– لا يوجد جنس رابع، هنالك ثلاثة أجناس، من أين لك الجنس الرابع.

– عليكم أن تضعوا في استمارات طلب اللجوء للعرب جنس رابع، هو…… ميت.

– سأكتب ذكر.

وبعد صمت لا اعرف ما كانت مدته، فالأزمان لا تقاس بالوقت والثواني، بل تقاس بالحالة التي نعيشها فيه، الزمن عندي هو نفسه عند انشتاين تعتمد مدته كالذي جالس مع فتاة جميلة أو على موقد نار، في كلا الحالتين ستتلاشى الثواني، ستنعدم الساعة، وستكتشف أن اكبر كذبة ما زلنا نسير عليها هي الساعة، كل ثانية تكذب علينا، وأسوء الاختراعات، يجب ابتكار ساعات تتماشى مع حالاتنا، تعتمد سرعتها مع الشخص الذي يحملها، هي لا تفيدنا بالطبع لان لو لبسناها ستتوقف عن العمل أو ربما تعود إلى الوراء، نكبر ونشيخ لكن الزمن عندنا متوقف.

– الديك عائلة؟

– نعم لدي أب وأم وأخوة وأخوات.

– تحبهم؟

– بالطبع.

– فلماذا أذن تركتهم؟

– تركتهم، لأني أحبهم، نحن لا نستطيع رؤية من نحب يتعذبون أمامنا، ربما نلتجئ إلى الاختباء لكي لا نرى معاناتهم، الهروب هو طريقنا الأوحد، الذي يدفعنا إلى الهروب، نعم هروب إلى هروب، نحن لا نستطيع مواجهة أي شيء حتى ظلنا، فهو يخيفنا باستمرار، ولا يغيب عنا، منذ شروق الشمس وحتى شروقها مرة أخرى يبقى ملازما لنا.

– الديك منزل؟

– لا اعرف، لم أفكر يوما بهل عندي منزل أم لا، أو أسعى للحصول عليه.

– لا يوجد إنسان لا يسعى في الحصول على منزل، فهو وطن داخل الأوطان، بل أهم منه في بعض الأحيان.

– هنا في أوطانكم تكون البيوت مأوى، لكن هنالك على حافة الأرض لا، هي سبب التشرد والضياع والتهجير، نحن كالطيور المهاجرة، لا ترغب في الحصول على أعشاش مبنية من الخرسانة، جل همها بناء عشا بسيطا من القش، سرعان ما يتهاوى، لأنها غير مستقرة فيه، ستتركه عما قريب، لا تريد أن تبقى بأعشاشها لكي لا يكتشف فعندها ستتعرض للهجوم والإبادة، فتضطر إلى بناء أعشاش في منتهى الصغر وفي الخفاء، عشها هو فقط لممارسة حياة الأبوة، تربي أبناء ليست لها، ما أن يتعلم الطيران حتى يهجر أبويه، فها نحن أيضا، عندما نتعلم الطيران سنتخلى عن كل شيء حتى عن أبوينا، لا تنظري إلي بنظرة لائمة، لا تلوميني على أي شيء، فانا طائر ولي جناحان، ومن حقي أن أطير واهجر كل شيء، سابني لي عشا وأعيش فيه لفترة قصيرة جدا، سأربي أولاد لهم جناحان ليتركوني في وقت أحتاج إليهم.

– الديك حبيبة؟

وضعت يدي على قلبي، شعرت بفراغ مظلم، فراغ ليس له حدود، امتد من وطني إلى هنا، سحبت نفسا عميقا وبنفسي هذا جلبت صورة حبيبتي من أوطاني لتحضر أمامي، نظرت إليها بكل خجل وشوق، مددت يدي إلى شعرها ولعبت بخصلاته وقلت لها متأسفا.

– نعم، لماذا تتأسف؟ قالت لي موظفة الاستقبال مستغربة.

– عفوا، ليس معك لقد كنت اكلمها.

– حبيبتك؟

– نعم.

– جميلة؟

– جدا.

– صفها لي؟

– روح جميلة، ناصعة البياض، لها ضحكة كسيمفونية بتهوفن ( فور اليس)، هادئة وطيبة، لها دفئ كشمس تموز في الشتاء، كدفء حضن أمي في طفولتي، لم التق بواحدة مثلها، مسامحة وطيبة، كثيرا ما تمردت عليها، وكثيرا ما قسوت عليها، سمعت مني آلاف الحماقات والتفاهات، رغم كل ذلك كانت تسامحني، جميل أن تحبي شخص يسامحك باستمرار.

– وهي تحبك؟

– لا، لا اعتقد هي تحبني، كل ما عرفه هو أنا أحبها حد الثمالة.

– غريب أنت، كيف تكون لك حبيبة وهي لا تحبك، اهو حب من طرف واحد.

– بل حب من قلب واحد، من روح واحدة، من جنون واحد، من ضياع واحد، حب لا يوصف، ليس له معنى وله معان كثيرة، حب عاقل ويعيش بمستشفيات الجنون، ليس له شكل ولا قالب، ليس له روح ولا معنى، خالي من الأجساد والمسميات.

– ولم تقل لي ما شكلها؟

– طلبت مني أن أوصفها، لا أن أحدثك عن شكلها.

– وهل يفرق ذلك؟

– نعم، بالطبع هنالك فرق كبير بين شكل الإنسان وشكله.

– بحق الله ماذا تقول؟ كيف هنالك فرق بين الشكل والشكل؟

– كل شخص يحمل وجهان، هنالك وجه للجسد ووجه للروح، أنا كلمتك عن روحها، التي طالما عشت معها وتناغمت معها، آوتني في الأمطار، حمتني من خوفي، كنت دائما التجئ إليها في الأزمات لتنتشلني، لا احد يسمعني سواها، لا يوجد شخص ممكن أن ارتمي عليه كما ترتمي جثة منتحر قافزا من مكان مرتفع على الأرض.

– أريدك أن تصف لي شكلها.

– في الحقيقة لا استطيع.

– لماذا؟

– لأني لم أرها في حياتي.

– أنت إنسان لست على ما يرام، يمكن تهذي أو بك شيء، أو ربما أنت إنسان ثائر؟

– أنا باختصار الغريب عند كامو، واللا منتمي عند كولن ولسن والمراهق والمقامر عند ديستويلوفسكي، انا فرناندينو عند ماركيز، النبي عند جبران وزرادشت عند نيتشه.

– أكل هذه الآداب تجمعها.

– بل كلها جمعتني، كنت أشلاء مبعثرة لتصنع مني أنسانا له أشكال مختلفة ولألتقي فجأة بحبيبتي، جمعت مني هذه الإشكال ونحتت منها شكلا واحدا لأخرج أنا إلى هذه الدنيا، أنا كنت في بيضة لا اعرف من الذي طرحني في هذه الدنيا حتى خرجت منها لأجد أمامي حبيبتي، سرعان ما انتميت لها، نحن كالطيور، ينتمون إلى من يفقسون بدفئهم، ضعي بيضة أي طائر تحت دجاجة، سينتمي إليها ويكون ابنها، فانا أيضا تعلمت الحياة على يد حبيبتي.

– يا لك من مسكين، ولماذا هي لا تحبك؟

– لأننا متشابهان يمكن في نظرها هي، الأقطاب لا تتجاذب إذا كانت من نفس الاتجاه، هي وجهي الآخر، رغم أني حاولت تغيير أقطابي، إلا هي فلا، لم تتعلم بعد كيف يمكنها تغيير الأقطاب، ليس كل ما تتمنيه ستحصلين عليه، الحب لا يمكن شرائه حتى لو كانت فداء في الأرواح، نحن نهب الحب بدون أن نشعر أو بدون أن نقرر.

– لا اعرف ماذا اقول لك، لكن في النهاية لا يسعني إلا أن أقول لك…. نحن متأسفون، لا نستطيع استقبال أناس يحملون صبغة تشاؤمية، تستطيع مغادرة وطننا وتعود إلى حافة الأرض، ربما عشك ما زال بخير، وربما حبيبتك ستشعر بك في يوم من الأيام. كدت أن اصرخ وأقول لا، جدوا لي مأوى هنا، فأوطاني لا تريدني، لم يعد لي وطن ولا حبيبة، ولا عش استطيع الرجوع إليه، مددت يدي أكثر فأكثر حتى امتدت لآلاف الأمتار ولتمتد إلى صوت المنبه الذي أيقظني صباحا معلنا بداية يوم لا أعرف بماذا سيبدأ وعلى أي شيء سينتهي، كان حلما مزعجا تفوهت بتفاهات كثيرة، تذكرت بأن ليلة أمس قد نمت نومة مقلقة، وكان نتيجتها هذا الكابوس.



* عن الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى