عبدالرحيم التدلاوي - دين الحب، قراءة في مجموعة "كتاب الحب" لمحمد الشرادي.. الجزء الثاني والأخير

رحلة مع النصوص:
هي مجموعة من ثلاثة عشر نصا، تحمل العناوين التالية:
دموع الفرح سكر.
موقع استراتيجي.
Naja Naja
صنعتك لنفسي.
كيمياء الحب.
على كل شيء قدير.
دعه يمر، عده يعمل.
جبل التوباد.
أنوار موطئي القدمين.
زهرة الجوري.
طين بهي، نور سني.
أراه، فأراني.
نور أنّى تراه.

هي قصص بمثابة حبات ماس منظومة في خيط الحب المقدس، تشكل عقد لؤلؤ وهاج، يزين طوق الإنسان فيرفعه درجات.
يمكن تقسيم شخصيات المجموعة إلى قسمين اثنين؛ قسم المحبين، وقسم الكارهين، اعتمادا على لوني كتاب الحب في الغلاف. تدخل تلك الشخصيات في صراع ينتهي بغلبة المحبين، لتؤكد، بذلك، ما جاء في ظهر من رغبة في الانتصار للمحبة وربطها بالفرح والإقبال على الحياة البهيجة.

والصراع يكون مع طرف خارج الذات أو من داخلها. والغلبة تكون لصالح المحب، فدون حب لا نساوي شيئا. به نقاوم عتمة قلوب الكراهية. به نقاوم غرور ذواتنا باعتباره عاطفة غيرية. به ننمي خيالنا و نصعد به إلى مراقي الإنسانية الحق. به يتحول الأخر من جحيم إلى خل حميم. فمن لم تدخل قلبه حبة خرذل من الحب لا خير فيه.
وللحب فعل السحر في تحول الفرد من كاره أو غاز إلى عاشق ولهان، يقطر عذوبة، كما هو شأن شخصية قصة "دموع الفرح سكر" ص7، فالرجل لم ير في تلك الأنثى رائعة الجمال، سوى قلعة ينبغي اقتحامها، ورأى نفسه جنرالا حربيا تكسو صدره النياشين؛ وأن من واجبه اقتحامها، بيد أنه فشل، وفشلت أسلحته، فالحب ليس ميدان حرب، بل هو تعبير عن خلجات النفس، وسمو الروح. وحين تطهر من أدران فكره الحربي، وسكن قلبه نور الحب، تغير، وتغيرت تعابيره، وانساق وراء النور. لقد غيره الحب، وقبلته الغادة، ومنحته قلبها؛ فالحب كالتوبة يجب ما قبله ص12.
وقد تكون الإعاقة جسدية، تمنع المحب من خلق التواصل مع المحبوب، نتيجة إحساس بالدونية، كما في نص "دعه يمر، دعه يفعل" ص44، مما يدفعه إلى التفكير في الانتحار، لكن الأم، تقف ضد السوداوية، تضخ الطاقة الإيجابية في نفس ابنها، قائلة له؛ وهي تحذره من مغبة ما قد يقدم عليه: ويحك، الحب حياة. لو كانت تريد موتك ما أحبتك...ص48. وتضيف من أجل إقناعه: كتمان الحب إثم كبير، وعقابه عند الله عظيم.
وإذا كانت الإعاقة الجسدية حاجزا، فإن البحر، هو الآخر، لعب دور المعيق، لكن الأم لعبت دورا إيجابيا في تغيير موقف ابنها، كما الحب الذي شفاه، وأعاد إليه حيوية رجليه.
من هنا، يتبين لنا أن القاص يسعى إلى إقناع قارئه بالطاقة السحرية التي يمتلكها الحب، وقدرته على شفاء الأجساد والنفوس العليلة.
بخلاف من سكن فؤاده الكره، وصار له دينا، فإنه غير قادر على الحب والعطاء، وهذا الصنف من البشر هو من تقاومه النصوص، وتقف ضد فكره السوداوي، وتسعى إلى إزاحته بعيدا حتى لا يلوث صفاء المحبة، ويكدر نقاءها. كما في نص "أراه فأراني" ص76. القوم الذين صدئت قلوبهم، وامتلأ جوفهم بالكره، لم يقبلوا قصة الحب المشرقة التي جمعت بين شخصين، وخافوا أن تشفى قلوب الناس بالحب، وتنار العقول به، فيكون من نتائج ذلك اهتزاز عروش الحقد وهدم أسلاك العزل، ويفقدون جراء ذلك وصايتهم...ص80، فأرسلوا من يقتل الحب، قبل أن يستفحل أمره؛ ولكون الحب ربانيا، فقد عادت جماعة الكره خائبة، تجر ذيول الهزيمة: عاد الشباب بوجوه مسكونة بالفزع، كأنهم رأوا مشاهد من عذاب القبر مرأى العين. فما سبب نكوصهم؟ قولهم: بيت... تطعمه...الملائكة...بيت... تحرسه...الملائكة !ص81. وتكسير الكلام دليل على ما اعترى الشباب من خوف وهلع.
الفرق بين الخصم الداخلي والخصم الخارجي، أن الأول يشفى من كرهه بالحب، فيما الثاني، يظل حبيس ظلام قلبه.
العجائبي:
إذا كان العجائبي يتمثل في خرق منطق السببية بين الأحداث، ويعبث بنظام الأشياء، ويشترط فيه القلة والخروج عن المألوف أو المعتاد عليه.
إنه شكل من أشكال القص ، تعترض فيه الشخصيات بقوانين جديدة تعارض قوانين الواقع التجريبي ، وتقر الشخصيات فيه ببقاء قوانين الواقع كما هي . فهذا النوع من السرد يكون بعيداً عن الواقع بطريقة تسمح نوعاً ما للاقتراب من حدود اللامعقول .
وقد أشار تودوروف إلى أنه: (( التردد الذي يحس به كائن لا يعرف غير قوانين الطبيعة فيما يواجه حدثاً غير طبيعي حسب الظاهر )) ؛ بمعنى أن ثمة قوانين جديدة غير مألوفة يجب قبولها في تفسير الظواهر الطبيعية ، يستند السرد فيه ((إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السببية وتوظيف الامتساخ والتحويل والتشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التصور والوهم والتخييل. فهذه الحيرة هي التي توقع المتقبل بين حالتي التوقع المنطقي والاستغراب غير الطبيعي أمام حادث خارق للعادة لا يخضع لأعراف العقل والطبيعة وقوانينهما)).2 _
فإن النص؛ وهو يستلهم البعد الصوفي، قد وظف الخارق والعجيب؛ لأنه يدخل ضمن نسقه، ويعد أحد أبرز مكوناته، لذا، يدعونا السارد إلى التصديق، بدل الشك.
هناك جدلية العلاقة بين التراث بوصفه حضارة الأمة وركنها الثقافي المميز، والسرد العجائبي بوصفه نسقاً من أنساق السرد العربي وشكلاً من أشكال تلاعبه السردي – في حضوره وغيابه- داخل النص القصصي .
ووجود العجائبي في النص السردي (( يترك أثراً خاصاً في القارىء خوفاً أوهولاً، أو مجرد حبّ استطلاع ، والعجائبي يخدم السرد ويحتفظ بالتوتر : إذ إن حضور العناصر العجائبية يتيح تنظيماً للحبكة مكثفاً بصورة خاصة 3_ المرجع السابق.
ففي قصة "طين بهي، طين سني" ص70، نجد عتبته تؤكد البعد العجائبي كضرورة من ضرورة الحياة، إذ استدعاء السماء، كفاعل مشارك لنا في هذا الكون.
والقصة تتحدث عن ملاك التي تحب، باستمرار، ودون كلل، أن تشهد كيف يخرج الله الليل من النهار، مشاهدة لا تخمد وهج سحر اللحظة وعظمتها. لتجد نفسها أمام قطرة عجيبة من السماء، ستكبر ليخرج من رحمها كائن على هيأة لا تمت بصلة لأعيان الأرض، يتألق بنور مهيب يهز وجدان من وقع بصره على إشراقه. ص71.
قطرة خلخلت نظام الأشياء، وخرقت منطقها، لكنها بدت عادية كما لو أنها استمرار طبيعي لتتابع أحداث الواقع، لا يثير الاسغراب. ذلك الكائن النوراني الذي سيتحول عاشقا لملاك بعد سيرورة أحداث وحوار، وحيرة. ملاك الطاهرة والفاتنة، سيكون جزاؤها هذا النازل من السماء هدية لطهرها، وروحها الثانية التي ظلت تبحث عنها في مشهد توالد الليل والنهار. وستتكفل بتعليمه فنون عشق النساء كمرحلة أسمى في محراب تبتله وعبادته.
أما في نص "نور أنّى تراه" ص 82، فنجد العتبة معبرة عن حضور وهج العجائبي في ثراتنا العربي، من خلال ما جاء في كتاب الحب والمحبة الإلهية من كلام الشيخ الأكبر، حيث ذوبان المحب لصير بركة ماء.
وليأتي النص في مفتتحه بتنبيه إلى ضرورة التصديق بقبول أحداثه، وتجنب التشكيك فيها بالتكذيب والتعجب؛ إنه تحذير يدعونا إلى قبول العجائبي كجزء أساسي، وركن مهم من أركان القصة، يعادل الواقع إن لم نقل إنه عماد هذا الواقع.
والقصة تتحدث عن قلب ظل، بعد فناء صاحبه، يترنح من شدة الحرارة، يعطس نفسه في الماء، فيغلي الماء ويفيض عن إنائه. يدس نفسه تحت الثلج ويسيل حمما حارقة...ص83، فالعجائبي والمبالغة ليسا إلا من أجل الإقناع بتبيين درجة العشق التي بلغها القلب كشاهد على محبة صاحبه الذي أفناه ما كان يحمله من عشق.
من هنا، نقول: إن وجود العجائبي في القصة القصيرة (( يمنحها قوة حالمة ودلالات قادرة على استيلاد الواقع والحقيقة بأكثر من شكل دون الوقوف على الشكل التقليدي ، وهو الوقوف المرعب أمام حقيقة عارية شوهاء . كما أن السرد العجائبي يملك مرونة تعز في السرد التقليدي تمكنه من حمل الكثير من المغازي وصهر الأسطوري والحكائي والخرافي في بنية جديدة تعرض الحقيقة كما يراها الكاتب أو كما يشعرها أو كما تلقاها لا كما وقعت. 4_ المرجع السابق.
الأسطوري:
تندرج الأسطورة ضمن الجنس الأدبي الميتافيزيقي الذي يتواشج و العجائبي والفانتاستيكي تحت اسم متقارب.
و تعد شريانا من شرايينهما.
وتروي حدثا وقع في عصور ممعنة في القدم. وهي، بذلك، تعيدنا إلى نلك العصور، لكونها تروي تاريخا مقدسا للإنسان الأول، ومعتقداته وطقوسه الأولى. و تعد مظهرا لمحاولته الأولى كي ينظم تجربة حياته في وجود غامض.
الأسطورة هي تلك الحكاية المقدسة المرتبطة بذلك الزمن البدائي، ذلك الزمن الذي حاول فيه الإنسان فهم كونه فهما صحيحا.
فالأسطورة بمثابة تفسير يقوم به الإنسان للأسرار التي لا يفهمها، أي للأسطورة وظيفة تفسيرية دون أن تنفي الوظائف الأخرى: الأخلاقية والتعليمية والتعويضية؛ وهي كقصة مليئة بالمغامرات الشائقة والجذابة والتي تنتهي نهاية سعيدة.
وأبرز نص حضرت فيه الأسطورة بغاية تأكيد قوة الحب، وسحريته، قصة "Naja Naja" ص20؛ وهي قصة تتحدث عن ثلاث شخصيات، هي: أكاش، وبوجا، والحية.
التناص:
يعد التناص قانون النصوص جميعا. و النص الإبداعي ينتمي إلى عدد كبير من المرجعيات التي تشكله، فتصير، جراء ذلك، نصا مركزيا جديدا يتضمن معنى إضافيا متفردا ومتميزا على كل المرجعبات التي انبثق منها. إن التناص يؤكد أن كل ما يقال ،الآن، قد قيل قبل الآن بأشكال مختلفة .

وقد يأتي التناص عفويا اعتباطيا أو توارديا غير مقصود، أو قصديا ذا مرام. فلا وجود للنصوص البريئة أو الصافية.
إن أغلب التناصات المقصودة الواعية تقوم إما على نصوص تحفظها الذاكرة الثقافية وموروثها الجمعي وإما على نصوص متميزة ومتفردة على بقية نصوص زمانها، يكون القارئ على علم بها غالبا.

وإذا كان من الضرورة بمكان أن يشير الكاتب إلى مصدر تناصه ليجنب القارئ والناقد والباحث مشقة تتبع أوجه التشابه والمقارنة والسرقة الأدبية. ويتيح له فرصة تناول الجوانب الإبداعية للنص الجديد. فإن القاص الشرادي قد مكن القارئ من مصادر تناصه بذكر الكتب التي استفاد منها على الهامش، مؤكدا بذلك مدى تشعب مطالعاته وغنى مرجعياته، وتنوعها، لكن أهم رافد له كان الرافد الصوفي، فقد استفاد من هذه التجربة الروحية، وجعلها أس عمله، وأهم خاصية فنية تتميز بها مجموعته. ومعظم نصوص العمل ذيلت بالمراجع المستفاد منها، لدرجة يقربها من البحث العلمي، أو الدراسات النقدية. من ذلك، النصوص التالية، "دموع الفرح سكر" ص7 و"على كل شيء قدير" ص39، والفت للانتباه، أن العناوين بنفسها ذات رجع، تشير إلى نصوص أو أقوال سابقة، كما النص الأخير، الذي يتناص مع القرآن الكريم، و نص "دعه يمر، دعه يفعل" الذي يذكرنا بمبدأ اقتصادي ينص على أن اقتصاديات السوق تعمل بكفاءة مثلى في غياب التنظيم الحكومي؛ لذلك يعارض متبنو هذا المبدأ كل أشكال الرقابة الحكومية وأي نوع من التشريعات أو ضرائب الشركات، بل إن بعضهم يرى أن الضرائب تعتبر بمنزلة عقوبة على الإنتاج، لكن عنوان القصة قلب التركيب، من جهة، واعتمد كلمة: يفعل، بدل، يعمل؛ وهو تحوير يتماشى ورهان النص.
والمطلع على العمل، سيدرك بسهولة مدى حضور النص المقدس، وأقصد بذلك القرآن والحديث، ثم النص الصوفي بتجليات مختلفة، فضلا عن الشعر، وكلها منابع تصب في النصوص لتغنيها، وتخصبها.
ختاما:
كتاب الحب كتاب لتهذيب النفوس، ولتطهير الأرواح، وحث الناس على محبة الآخرين بغاية خلق عالم يسوده السلام، بدل الكراهية التي تقتل الحياة. كتاب الحب كتاب كتب بفنية عالية وبلغة تقترب من صفاء الصوفية؛ كتاب هو بمثابة رواية ذات فصول متنوعة رابطها المهم، وروحها الأساس، هو الحب؛ هذا الشعور النبيل الذي عمده الله وباركه.
**
كتاب الحب، مجموعة قصصية، محمد الشرادي، وراقة ومطبعة بلال، الطبعة الأولى، سنة 2018
2_ د.سوسن البياتي:السرد العجائبي وأثره في بناء الفن القصصـي
3 و4_ نفسه.
تمت الاستفادة، أيضا، من كتاب: استراتيجية التناص، لمحمد مفتاح.



محمد الشرادي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى