رسائل من الحبيب الدايم ربي

الى س.ع

1

ما عاد البريد في السنوات الأخيرة يحمل إليّ خطابات من الأصدقاء، وما عدت أكتب ـ تقريبا ـ لأحد ؛ حتى كدت أفقد حاسة التراسل عبر الكتابة رغم أن الكتابة جزء من الهواء الذي به أحيا. لقد صار بريدي موحشا أو يكاد ، وصرت ، مع التقدم في السن ، أقرب إلى جنرال غابرييل غارسيا ماركيز الذي ما عاد يراسله أحد. والمشكلة اليوم ليست في قلة ما أتوصل به من رسائل بل في طبيعة هذه الرسائل نفسها حيث أنها من فرط كثرتها أجدها باردة : أصدقاء يبعثون إلي بكتب جديدة ، مجلات من المغرب وخارجه ، دعوات للقاءات وأنشطة ثقافية إلخ… لكن ولا رسالة واحدة ترفع الكلفة أو توقظ في القلب الذكريات الهاجعة. من هنا تأتي أهمية رسالتك عندي إلى جانب مزايا أخرى لا أعرف كيف أترجمها إلى كلمات سوى القول بأنني سعيد بذلك كما أنت سعيدة في الحقيقة والمجاز. ثم هل لابد من الرجوع إلى الوراء في كل مرة نريد فيها ربط قطيعة والتخلص من صمت؟ ليس بالضرورة. رغم أنه لا فكاك لنا من الانشداد إلى "الذي كان". وإن كان لهذا الانشداد ، أحيانا ، بعض العيوب منها أنه قد يعوق العيش تحت سماء وفوق أرض الواقع . والسؤال الذي بالوسع طرحه في مفتتح الكتابة هو : هل يمكننا أن نكون أحسن مما كنا عليه؟ ولمَ لا؟ طبعا هذا يتوقف على مدى جرأتنا في التخلص من أوهام الماضي والحاضر والمستقبل على السواء. قد تكون ميزة الرسائل ، على ما عداها من وسائل لاتصال الأخرى ، أنها دافئة ، حميمية ، شخصية أكثر، فضلا عن كونها تسمح بفسحة معقولة من الحديث والبوح والاستطراد. بخلاف الهاتف الذي يوحي لنا كما لو أن هناك " أخا أكبر Big Brother يتلصص على خصوصياتنا .

من الطباع المغروزة في داخلي ، وهي طباع وراثية وتربوية فيما أظن، أنني كتوم بخصوص التعبير عن مشاعري . لهذا لاتقلقي حينما لاتجدين ، في رسائلي كلاما يتجاوز حدود طباعي البدوية .ومع ذلك لا أجد حرجا في التنويه بلطفك ونباهتك، وكلماتك المجنحة التي حين أقرأها أكاد أطير بأجنحة الفرح .
منذ ما لاأدري من الوقت لم أخط رسالة لأنثى ، ولا لرجل . حتى أوشكت على نسيان أصول هذه المهارة. وعندما تجرّيني إلى الحلبة من جديد ، أشعر كأنني جبليّ يمارس هواية العوم في المحيط وسط دهشة الأطفال بغير قليل من الغبطة والحبور. سأجرب العوم معك في بحر الكلام من جديد بكامل ثيابي !
سأحاول الكتابة إليك ، برغبة ، كلما كانت الكتابة سبيلا للحوار والتقارب. لـشَـدّ ما أخشى أن تصبح الكتابة بديلا عن التواصل الحقيقي ، خاصة عندما ترسم صورا لاعلاقة لها أحيانا بالواقع في بساطته وتلقائيته. وبدل أن يتلاقى الأشخاص تتلاقى الكلمات. لاأدري إن نجحت في توضيح الفكرة . لكنني أراهن على ذكائك في فهم الكلام والصمت معا ، الجهر والأخفى.
لن أسترسل في الكلام طالما أن "جلسة الافتتاح " تقتضي ما قـلّ و….قلّ !.
شكرا لك على التعابير الحلوة والصورة الأحلى.
مودتي


***



إلى ع.ب6


القاهرة

فبراير2004



لأن المخططات ما نجحت في جعل التلاقي ممكنا فقد كان لابد من اختلاق الذرائع كي نلتقي. لكننا -رغم الذرائع- ما التقينا: هي ذرائع تقف في وجه ذرائع، ضدا على الرغبات. كانت قصائد درويش فرصة نادرة للإنصات معا إلى خرير النبع بكامل حواسنا. لكن… "ياخسارة الحلو ما يكملش". هكذا عقبت على شهادة قدمتها ليانة بدر في مؤتمر الرواية.
لكم أشتاق إلى سكرة من طل القصيدة مع …شاعرة. تحملني بسحر همسها إلى خلجان الروح.
مرّ طيف الشاعر الفلسطيني من العاصمة ومررتِ دون أن ألمس أناملك الناعمة. كأن مؤامرة قررت أن تقلع الطائرة نحو الرواية تماما مع تنزّل القصيدة من عليائها. هكذا حملتك - أنا- تميمة في السفر والحل. صديقة ما مثلها ثانية.تعددت الوجوه والأمكنة، تنوعت المشاهد والأطعمة وظللتِ في الركن القصي من الفؤاد… مفردة. ليثك كنتِ معي هناك كي أفرجك على مآثر القاهرة في هدأة الليل. فليل القاهرة مختلف، وأهلها لا ينامون.
النيل وديع . من غرفتي في الدور السابع من فندق بيراميزا – وعلى بعد أمتار معدودة- كنت أرقب العمارات والأبراج و العبّارات منعكسة على أمواهه العكرة. كانت تنقصني رفقتك كي أرسم المشهد في نظيمة شقشاقة. كي أتوغل عميقا في التفاصيل الدقيقة. لقد كانت القاهرة هذه المرة مختلفة: لأنني وأنا أزورها كما لو أزورها للمرة الأولي. فقط لأنني أعرفك. من قبل كان الجو المغبر واكتظاظ الساحات وريح الخماسين و… مجرد فوضى عارمة. غير أن القاهرة كانت استثناء بما أتاحته لي من فرص للغوص في الشرايين. ياليثك كنت معي في خان الخليلي مع منتصف الليل وسط هرج الباعة والسهرات التي لا تنتهي. لا تظني سوءا فشوارع القاهرة محتشمة جدا ومقاهيها "دوغري أوي". المصريون قوم مبدعون . الفاقة عندهم أم الإبداع . والحاجة أم الاختراع: يعدون مشروبات من كل ما لايخطر على البال: القرفة والسحلب والينسون والكركدي والقصب . لا شيء يعدل المانجا والجوافة. في المأكل يبدو الطعام فقيرا قياسا إلى الولائم المغربية: كشري وقمر الدين ، البامية والبسبوسة .والعيش (الفطير ) في الأقفاص تحفه أسراب الناموس والأغبرة. سيدنا الحسين والست زينت هما ملاذ الغلابة. الناس يمسكون بشباك الشهيد ويبكون. هناك صليت - رفقة صديق - ركعتين واسترحنا قليلا في جو مطبوع بروحانية لا نظير لها: دعونا لأنفسنا ولذوينا وللأصدقاء باليمن والفلاح. بالقرب منا كان رجل يتوجه نحو السماء متضرعا بصوت مسموع كي يُرفع عنه الضيم.لربما كان مظلوما ولا أحد أنصفه. وحده سيدنا الحسين له الغوث.
قهوة الفيشاوي متفردة : مرايا أثرية بتعاشيق من نحاس. صور على الجدران لأشخاص عبروا المكان. مقهى صغير يخترقه الباعة المتجولون ليعرضوا بضاعتهم المغشوشة قاطعين على الزبناء خيوط التأمل والحديث. مقهى صغير لكنه معتق في الذاكرة. هو كمقهى موريطانيا في حي الأحباس بالدار البيضاء. ملتقى الزائرين وسرة المدينة القديمة. أواسط الليل من النادر أن يجد المرء مكانا بهذا الفضاء الصغير الدافئ الناطق بأصالة متجددة.مازار عظيم القاهرة دون أن يؤم هذا الركن الدافئ. نجيب محفوظ كان أحد رواده الدائمين ذات عنفوان.
شوارع القاهرة سعير. أسطول متهالك من السيارات في رالي مجنون. لا ممرات للعابرين. علي الراجلين تدبر شؤونهم كي يجتازوا الطريق بغير قليل من المخاطرة.ومع ذلك لم نر خلال الرحلة ولا حادثة . سحب الأدخنة ممتدة في عنان السماء وزمامير العربات تصم الآذان. وسواق الطاكسيات يغالون في الأثمنة ويقسمون ألا يتنازلوا عن ثلاثين جنيها ليوصلوك – مثلا- من الدقي إلى الهرم(المسافة حقا بعيدة. والجنيه يصل بالكاد درهما ونصفا) أساوم أحدهم بلهجة معجونة من عربية فصحى ودارجة مصرية. وحينما أخبره بأنني مغربي يرد: أحسن ناس. من يصدقه فقد يقولها للجميع . يخصم جنيهين: لك بس والله ياأستاذ . بلؤم أعطيه ثلاث جنيهات فيصطنع تذمرا لولا أنني لا أتزحزح له عن الثمن . عشرة جنيهات يقول. على خيرة الله أقول. لكنه في الطريق يشكو لك من الظروف والمعيشة ووو. عند الوصول أمنحة خمسة وثلاثين جنيها. يكاد الرجل يطير من الفرح. مصر منورة ياباشا. الناس متآلفون مع الفقر. مليونا شخص يعيشون في القرافة(مدينة الموتى) وسط القبور والأضرحة في تآلف غريب. والفوارق صارخة بين ناس الفوق وناس التحت.
لكن القاهرة متوترة. العساكر في كل مكان. وأجهزة الترصد تشد الأنفاس: الدخول إلى الفندق يقتضي العبور من تحت أجهزة الرصد . ولوج قاعات العرض يتطلب الخضوع للكشف. زيارة الأهرامات لا بد لها من مرور عبر صراط الكشف. قال لي أحد الحراس في مدخل نفق هرم خوفو: هل معك سلاح؟ قلت له : أي نعم معي سلاح… أبيض… ممكن أدخله معي؟ !. ذهل الحارس وقبل أن يفيق من ذهوله أبرزت له أسناني : أصله سلاح غير حاد .قلت مازحا . فانخرط في ضحكة حقيقية. كان صعود النفق الخانق امتحانا لصلابتي.نفق بدرجات من خشب يتعرج نحو المجهول لينتهي إلى قاعة ثقيلة التهوية. ربما كانت مثوى الفرعون. صديقي المغربي ما استطاع خوض التجربة. خاف أن يغمى عليه ولا أحد يسعفه. خشي كذلك لعنة الفراعنة التي قد تصيب كل من دخل الهرم من دون خشوع. الهرم الأكبر إحدى عجائب الدنيا. والمقابر الفرعونية منتشرة في فضاء شاسع من الفيافي . استأجرنا من صعيدي لطيف حصانين أعجفين وطفنا الأمكنة حتى وصلنا إلى تمثال أبي الهول. المصريون مثلنا لا يبالون كثيرا بنظافة الأمكنة السياحية. قال سائق الطاكسي حين العودة : عليكم أن تكتبوا عن الأشياء الجميلة. لا تكترثوا بالنشالين والمفترين وسواق الطاكسيات والأوساخ. ففي القاهرة- عدا ذلك- أمور كويسة. كان عليه أن يطوف القاهرة عبر الطريق الدائري تجنبا للاكتظاظ وربما لتبرير الثلاثين جنيها.أشار إلى بناية من حوالي خمسة طوابق قائلا: ده للمرحوم متولي شعراوي. المصريون نشيطون جدا وميالون إلى المبالغة. .يوسف القعيد أخبر نجيب محفوظ- وهو يقدمني له- بحكايتي مع الجمارك: ده أكبر ناقد في شمال إفريقيا. أخذوه ثلاث ساعات عشان اسمه يشابه اسما آخر قد يكون مطلوبا. لم أشأ تصحيح الحكاية . الأمر كله مجرد خمس عشرة دقيقة. معلهش يا أستاذ . متأسفين على الإزعاج .تقول لجنة الاستقبال حينما استوقفوني قليلا في حواجز العبور. لكن الفراعنة يروق لهم المغالاة: ده روائي حداثي فظيع يقولون للعم نجيب المسربل في شيخوخته. دول مغاربة جاوا يشوفوك. يامرحبا يامرحبا يرد. نشرب شايا ونأخذ صورا للذكرى.وقبل أن نغادر يلتحق بنا الجراح السوري خليل النعيمي والروائي الجزائري واسيني الأعرج وزوجته الشاعرة زينب الأعوج(حكاية الأعرج والأعوج قد أحدثك عنها فيما بعد). بدت زينب متأثرة. عانقت الأستاذ قبلت وجنتيه ويديه . بعد قليل دخل المترجم الأمريكي روجر ألن خفيفا شفافا. الزيارات بالمواعيد. صحة الأستاذ لم تعد تحتمل. هو يتضايق من الفلاشات. مساء كل ثلاثاء بعبّارة "فرح بوت" يجالس نجيب محفوظ ثلة من أصفيائه وعلى رأسهم جمال الغيطاني ويوسف القعيد. العوّامة ملك خاص لأحد أصدقاء صاحب نوبل من رجال الأعمال. لولوجها يلزم النزول عبر سلالم خشبية وبوابات وموافقة المسؤولين. منظر نجيب محفوظ في لحيته الخفيفة وعمره المتقدم يوحي بالشرود. الصور الملتقطة معه تبعث على الإحساس بالذنب ، بالحرج تلك ضريبة الشهرة. نجيب صار أيقونة. تمثالا. فرعونا آخر. رمزا. ذكرى.
لا أدري لم تسلل اثنان من الزملاء المغاربة ذاك الصباح، من دوني ، لزيارة مؤسسة أخبار الأدب. كان الغيطاني في استقبالهم. سألهم عني . لربما لامهم على انسلالهم . أبلغهم برغبته في لقائي. لم يسبق لي مقابلة الغيطاني. قال وهو يصافحني بباب العوامة: طلعتَ كما تخيلتك تماما. ضربنا موعدا. وفي الغد كان السائق بباب الأوبرا ينتظرني . السائق رجل لطيف ومثقف وتلقائي. مر الوقت سريعا. لنجد أنفسنا أمام عمارة قديمة. تكفل أحد الفراشين بالمصعد العائد إلى فترة عبد الناصر. فوق في البهو استقبلني جمال الغيطاني بالأحضان. كان يرتدي بلغة مغربية ويزين مكتبه بصورة للفنان عبد الكريم الرايس. بدا رائق المزاج وهو يفرجني على رسائل – وضعها في إطارات من زجاج - يعتز بها . واحدة كانت من جاك شيراك بمناسبة قراءته للترجمة الفرنسية للزيني بركات. وقصيدة مهداة إلى الغيطاني كتبها عبد الوهاب البياتي بخط يده بين القاهرة وعمان … أبلّغ الغيطاني سلام أصدقاء من المغرب.أعطيه صورة تقريبة عن التلقي النقدي بالمغرب لكتاباته. نتحدث سوية عن الطرق الصوفية والعمارة والمدن المغربية والأدب والنقد. حواليه كتب عديدة مكدسة: خذ منها ما أنت عايزه.قال لي. أنفة ما – وعدم القدرة على حمل الأثقال- جعلتني أكتفي بأربعة كتب: مجلدان لطه حسين حول التعليم وكتاب للقرضاوي وترجمة إنجليزية لرواية عمارة يعقوبيان للأسواني التي ماتزال تثير هناك ضجة كبيرة. اغتنمت الفرصة فيما بعد لزيارة العمارة موضوع الرواية يشارع التحرير.شربت شايا واستأذنت الغيطاني رغم أنه ألح علي في البقاء.العروض متواصلة في أكثر من قاعة والمدعوون أكثر من خمسمائة شخص من القارات الخمس كما أكد فاروق حسني وزير الثقافة في افتتاح واختتام الملتقى. كان حضور المغاربة لافتا. جلسات الشيشة كانت تخرج الهادئين مثلي عن أطوارهم لينطلقوا في ليل القاهرة بفرح غامر لاكتشاف المعالم الباذخة الموزعة في كل الميادين . طلعت حرب فوق جواده ( نصحنا أحد العابرين بعدم التقاط صورة معه تفاديا للنحس) أم كلثوم بشموخها قرب دار الأوبرا. أحمد عرابي باشا. تماثيل عملاقة من البرونز تحرس الفضاءات.
قبل يومين من انفضاض عكاظ الرواية سرت التكهنات حول من سيفوز بجائزة الرواية: بهاء طاهر؟ نبيل سليمان؟ إبراهيم الكوني؟ في جلسة الافتتاح أوصى نجيب محفوظ في رسالة قرأها القعيد أن تمنح الجائزة لمصري. الصحفيون يوقظون الضيوف من نومهم ليسألوهم عمن يستحق الجائزة. لكن فوز الطيب صالح أراح الجميع . علما بأنه في كلمته الطويلة والماتعة ترك التشويق حتى النهاية وظلت لجنة التحكيم - التي كان ضمنها محمد برادة- متخوفة من أن يتكرر سيناريو صنع الله إبراهيم الذي أعلن من المنصة أنه يرفض الجائزة. الطيب صالح قال أخيرا: سيكون من الحمق رفض رزق ساقه الله إلي. سوق الأزبكية يشبه الجوطية حيث يباع كل شيء بدءا من الكتب المستعملة إلى ما لايخطر على البال. ومطاردة الباعة من قبل رجال الأمن تؤكد على أننا أمة واحدة ضد العدو حتى آخر… مصري. كما تقول إحدى النكات. الطريف في الأمر أن الباعة يفرون بسلعهم ويتركون طاولاتهم بالميدان كي يعودوا بعد لحظة. لا أحد من رجال الأمن كان يعبأ بالطاولات المهجورة.
على ضفاف النيل عشاق يتأبطون خليلاتهم في خفر تحت ضوء القمر والمصابيح الشحيحة. وفي البال أغنية لا تجيد لحنها سوى فتاة مثلك… رائعة.
محبتي….



***

إلى ع.ب 5



سيدي بنور في 22/12/2004

ع.

هكذا سأناديك هذه المرة إمعانا في النزق. دونما ألقاب إضافية عدا "ع". إنه اسم جميل يختزل مزايا الألقاب مجتمعة. ولئن كان يحيل، فعلا، على مطربة حفرت محبتها على الأفئدة فإنه حابل بتدليل التصغير. أتعلمين ياصديقة، أن مؤنت هذا التصغير هو أنتِ، أعني هو اسمك بما يعنيه من علو وشموخ. ورغم أن علاقة الأسماء بمسمياتها واهية فإنها، من فرط هذه الاعتباطية، واقرة في عمق المسام. أحيانا تكون دميمة لها في النفس جروح راعفة (بالمناسبة لدي سلسلة من المقالات المنشورة بعنوان "جروح الأسماء" تعالج تداعيات الأسماء على حامليها)، وأحيانا تكون "حلوة" لها مذاق الشهد ، نتلمظها بكامل حواسنا كـ"اسمك".

علية
وصلني في الصيف الذي مضى ، على بريدي الإلكتروني، "إميل" رقيق منك.علما بأنه لم يسبق لي أن زودتك بعنواني ولا أنت حدثتني عن هذا الخطاب اليتيم. أتراه كان الخطاب خطابك أم لأخرى رغم أني لا أعرف من "ذوات القلم المرهف " إلا إياك؟
بعد الصيف جاء الخريف بجحافل من التقلبات، بحيث أنني حين أستعرض تاريخي أفشل في تذكر أي خريف َمرّ علي من دون أن يتركني مزكوما كالطيور في أندونيسيا ! فما أن أنهض من نزلة برد حتى أتعثر بأخرى. عيبي أنني لا أعرف كيف أحتاط من البرد كما لاأعرف كيف أحتاط في الكلام معك. كائن خريفي لا يحتمل البرد ولا الحر. لكنه يتعايش معهما ندا للند. وبلا احتياطات تقريبا.

عليه
عام جديد على الأعتاب. ماذا أهديك غير الكلام؟ لست شاعرا كي أجترح لك من النثر قصيدة. وليس من عادتي كـ"ابن بلد" أن أتبادل الهدايا مع الأصدقاء خلا التحايا العطرات. وبانتظار حلول العام دوّني رغبتك في رسالة فلربما قد تدفعني شهامة لا أدعيها كي أحقق لك أمنيتك…. بالحرف الذي لا أملك دونه سوى فيض من المحبة!


***


إلى ع.ب 4




08/12/2004

صغيرتي
مرحى


قد لا يروقك النداء هكذا، وأنت، برغم الشغب الطفولي، أنثى كاملة الإيهاب . لربما في ذلك إحالة ما إلى فارق العمر الذي يحفر بيننا للكتابة سراديب غاصة بالغواية. لربما هي نزعة ما لاحتضان الطفلة فيك بغير قليل من الفضول. ولربما هي مودـ مني ـ قاسية لا تجاريها الكلمات. ولربما هي أيضا فلتة لسان !
أما ما تسأليني عنه (بلغة عبد المنعم رمضان) فالبحر يناجي كدرته ، ومازغان /(الجديدة) تستعد لشتاء من الهدير. لاشيء يضاهي شتاء الجديدة ليلا عدا صيفها البهي : اصطخاب الموج يمشـّط القلاع ويدغدع أحلام الذين ينامون متحاضنين. وما تبقى يرسم مجازاته الشعراء !
أحاول مساء ، كلما داهمني همّ الغروب أمام المحيط، تذكر قسماتك فلا أنجح سوى في استعادة أطياف لطفلةٍ لصوتها رنة العصفورة. طفلة من دون ملامح حتى ، تشاكس خيالي الناشط أبدا بقصيدة.
هكذا صرت عندي، من فرط القرب، بعيدة، ومن فرط البعد قريبة. أقرأ رسائلك بحواسي كاملة، متلصصا - كمراهق -على ما قد تخبئينه بين السطور. فأعثر أحيانا على قارورة عطرك شاردة، على شريط كان يشد جديلتك، على شعرة أفحص خيمياءها على ضوء الأباجورة. ليس في هذا تحرش يستحق منك ردة شعر (بكسر الشين وفتحها معا).
قد لا يكون في رسائلك غير علية. لكن قراءاتي لها تحاول التنقيب عن التفاصيل الصغيرة بحماس لايقاس. أحاول جهدي أن أفك شفراتك البسيطة المعقدة، أن أهتدي إلى خرائطك السرية عبر الكلمات، فلا أفلح إلا قليلا. فقط لأنك واضحة حد الغموض، كالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها….
ومع ذلك فأنا أحاول أن أحتفظ بك خارج الرسائل كي تبقي طفلة من عنفوان. فبهذا أصونك في الذاكرة الحية بعيدا عن شطط الخيال.
أسمع عنك كل خير. مودتي


***

إلى ع.ب 2



سيدي بنور في 30/11/2004



العزيزة

سلام
ليس هناك من مبرر لعدم الكتابة إليك، اليوم، بخط اليد سوى استدراج "خصام " بيننا، كي نبدو شبه مختلفين
" وأول من قاد المودة بيننا خصام" قال جميل
أهي مجازفة مني قد تدفع بالصداقة نحو شد وجذب؟
من المؤكد أن الحكاية كلها مجرد مزحة … خفيفة. قد تخرج الحديث من ورطة العادة. والواقع أنك لو ألححتِ علي لأعود إلى النص المسطور فربما لن أعصى لك أمرا
هذه واحدة
أما الثانية، فقد بدأت أكتشف من خلال الرسائل أنك ، برغم الاختلافات العميقة بيننا، تشبهيني كثيرا حدّ التآخي: فوراء المظهر السعيد عوالم شجن، وخلف الانخراط في الحياة عزلة ما… جارحة
لكأنّ قدر المكتوين بنار الحرف أن يكونوا حزانى مهمومين على الدوام. بدون همّ لا تستقيم كتابة ولا إبداع
منذ عرفتك لم تخدعني غبطة الطفلة فيك ولا تلقائية النزق الذي يرسم فرحا مزيفا على الوجه الصبوح. قصائدك كانت ، وما تزال ، تفضح حزنك. وحزنك مثل حزني واقر في قاع الروح. هو حزن أنطولوجي (وجودي) يحرك الأسئلة المرعبة. به تحتمي الذات من صدإ اليقين
شخصيا لا أبغي تضخيم حزني لأبرر موهبة أفتقر إليها. من ثم فأنا نصف سعيد بحزني … على الأقل. طالما أن في الأفق سنونوات تراود الخيال (لا أعرف ، بالضبط المقصود بهذه العبارة المتحذلقة) وطالما ان المخيلة شغالة
مثلك عشت مؤخرا خمولا أحاول طرده، الآن، بسفرات في الكتب والأمكنة . وها أنا أسترد بالتدريج وتيرة نشاطي الطبيعي. محاولا إشراع نافذة للفرح وسط بؤس المشهد
أرجو أن تكوني، ياصديقة، في أبهى حالاتك الشعرية وما همّ أن تكوني مثلي …شقية أحيانا


***


إلى ع..ب


1- تأخر الرد؟

على غير المتوقع تأخر ردي على كتابك الرقيق . ماكانت الكتابة لدينا مشروطة بردود قط . لكنها ملزمة بأن تظل الطائر الذي يحمل التغريدة متى استطاع إلى الشدو بدا . والخريف كما تعلمين فصل له سلطة كبح التغاريد أحيانا ، حتى أن الراحل صلاح عبد الصبور قال ذات يوم " يحدثني قلبي أنني سأموت هذا الخريف" (معذرة فأنا لا أحفظ البيت في صيغته الشعرية) وكما توقعت النبوءة فقد داهم الموت صاحب "أحلام الفارس القديم" في عز الخريف إن كان للخريف عز.
لعلك تذكرين ما أعلنته لك عن عدم استلطافي للخريف رغم أنني من مواليده . إذ من المفروض أن تكون قنوات التحابّ بيننا سالكة لكنه… غشوم. فمنذ أكثر من أسبوع وأنا أقاوم صهدا رهيبا – وقاك الله- لعله من ضربة شمس ما انفككت أحتاط لها طوال الصيف .أو لعله من صلب الكينونه المرشحة للعطب. سعيت جاهدا إلى استدراج الحمى بعيدا عبر حيل الأطباء والنطاسيين والعلاجات البديلة ، بيد أنها من فرط تمسكها بالأصول، وعداوتها للمتنبي ! ، فضلت ألا تبيت إلا بين الضلوع . قد يكون لها من المبررات ما يسمح بكتابة قصيدة . إذ لا أجمل من النوم بين الضلوع ! من أسف أنني لحد الآن لم
أستجمع قواي كاملة ولم أغنم كتابة


.2- جاء الرد

نعم أنا منحاز لأصدقائي حتى في نقدي لهم. يهمني كثيرا أن أرى مزاياهم . فالسفهاء وحدهم هم من لاينظرون في كوى الضوء سوى العتمة ، إذا ما حرفنا قليلا قولة شهيرة لأوسكار وايلد . الجالسون على الجروف يحسنون النقد والسباحة والمبدعون الخلاقون هم من يترجلون على الصفائح اللاهبة . شخصيا لست أورتودوكسيا بخصوص قواعد النحو والصرف والإملاء والعروض - ولو أنني بحكم التكوين أزعم لنفسي الكتابة بقليل من الأخطاء القاصمة- أفضل الكتابة المتمسكة بالشاعرية أكثر مما أميل إلى تلك المتمسكة بجفاف القاعدة ( أقصد قاعدة الكتابة لا قاعدة أخرى). قد يكون جيدا أن تلتقي الشاعرية بالقاعدية ، وإلا فأنا أنتصر للإبداع. صحيح أنني أبدي ظاهريا تمسكا بالضوابط لكنني في العمق شخص لا يرى في القواعد سوى علامات ينبغي أن تخرق عند الضرورة . والإبداع ضرورة. لكن هذا لا يعني أنني أستخف بالقواعد !
أيضا لفت انتباهي أنك بدورك لم تفلحي في التخلص من "شرط الصداقة" وأنت تقولين كلاما طيبا عن " زريعة البلاد". فكلانا ذاك الصديق
لكن هذا لا يعني أن صداقتك قد تحول دوني وقول آرائي في ما تكتبين وبقسوة أحيانا. ذات عام تضايق محمود درويش من التقاريظ التي ظل النقاد يتحدثون بها عنه باعتباره رمزا للمقاومة الفلسطينية ، فكتب مقالة شهيرة بعنوان "أنقذونا من هذا الحب القاسي " طلب فيها من قرائه أن يقوموا تجربته كشاعر لا كفلسطيني مقاوم . ولربما كان هذا المبرر هو الذي جعل الشاعر هناك يرفض حمل حقيبة وزارة الثقافة لأن حقيبة الوزارة ت- بالطبع – أخف وزنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى