صلاح حسن السيلاوي - فخاخ مزدحمة بالجواهر..

[SIZE=6]غواية الشعر في الثقافة العربية[/SIZE]

لغواية الشعر أثرها المحفوف بالسحر، تلك الغواية التي كثيراً ما وطأت صحارى القول بأقدام منذورة للجنان مرة ، ومحاطة بوهم المجد والخلود في ذاكرة التواريخ مرات عديدة ، إنها الغواية التي طالما أثرت سلبا وإيجابا على المثقفين والأدباء ، فأظهرت لنا شعراء كباراً ، مثل المتنبي والسياب والجواهري، وفي ذات الوقت ، أسهمت بتشويه تجارب بعض المعنيين بالنقد والفكر والسرد ، وذلك من خلال تأثرهم السلبي بشخصية الشاعر ، هذه الشخصية ، التي تحمل رمزية عالية ، ويُلصق بها الكثير من الروايات التاريخية والتراثية والاسطورية ، بمعنى أن ثمة مخيلة مسحورة ، تتسع في ذهنية المجتمع ، معتمدة على ما تملكه من مرتكزات وأرث ، يوصل الشاعر الى حد التأليه والنبوة أحيانا .

لذا يجد الكثير من المختصين ، أن غواية الشعر مثلما أسهمت بتطوير تجارب معينة كما أسلفنا، نقلت انظار وجهد مثقفين ومبدعين من مناطق اشتغالهم المهمة ، إلى الشعر ، وهذا ما جعل الأخير يتسيد الثقافة العربية والعراقية .
لماذا يحدث ذلك ؟، ما الذي يجعل بعض النقاد والروائيين والفنانين التشكيليين، يحاولون بكل السبل، ان يكونوا شعراء على الرغم من كونهم متميزين في مجالاتهم الاولى، اكثر مما يحاولونه في الشعر ؟ .
أيمكن أن نتهم غواية الشعر هذه، انها أسهمت بتراجع المواهب العلمية في البلاد ؟، وجعلت هوس الشهرة في المجتمع محصورا، في ذهنية الناس في أطر الشعر والفن ؟، أيمكن أن نرفع هذا الاتهام بوجه الشعر ، بما يمكن أن نعده دليلا ، وهو عدم وجود شخصيات علمية مشهورة ، في المجتمعات العربية بمستوى شهرة الشخصيات الشعرية ، ألا يشير ذلك إلى تراجع في نظم الحياة الاجتماعية المدنية ؟

غواية سقراط ونيتشه

الدكتور الشاعر سعد ياسين يوسف تكلم عن غواية الشعر على مر العصور ، مشيرا إلى أن الشعر ، كثيرا ما كان يمثل جواز مرور للمناصب العليا في الدولة الأموية، والعباسية ، والدولة العربية في الاندلس أيضا، لافتا إلى وجود أسماء كثيرة تدل على ذلك.. مؤكدا انه – أي الشعر - ليس مجرد تراص للصور، بل هو استكناه للمعانى البعيدة، التي تحملها تلك الصور، بوصفها طريقة للتعبير عن الفكر ، فيمكننا على حد وصفه أن نقول إن غواية بهذا الوصف قد أصابت حتى سقراط و نيتشه .
وأضاف: هناك من يرى ، أن لجوء السارد والناقد ، الى عالم الشعر ، ما هو إلا تعبير عن حاجة نفسية ، بما يعني أنّ الاولوية في الخطاب الشّعريّ - خلافاً للخطاب السّرديّ – للأنا , لا للأنت، أو الهو, أي للذّات لا للموضوع , للموجود , لا لعالم الوجود , ولأنّ الأوّليّة , في الخطاب الشّعريّ , للذّات , لا للموضوع , فهذا يعني أنّ الذّات أو وضعها الّسوسيو-أنطولوجيّ في إطار علاقتها بالآخرين (كذوات وكموضوعات) هو الأساس المنفيّ للتّخيّل في خطاب الشّعر, في حين الأوليّة في الخطاب السّرديّ للعالم السّرديّ , وليس لذات السّارد. .. ومن هنا تنشأ الرغبة لدى السارد في التعبير عن ذاته بلا أقنعة الآخر .. وكثيرا ما يفشل السارد في كتابة الشعر وان كتب السرد بلغة شعرية ... ولذلك فأن لجوء السارد الى الشعر قد يسلبه الكثير من تألقه كسارد ويسيء لمنجزه الحقيقي .
وقال يوسف أيضا : قد يكون الامر منعكسا، حينما يلجأ الشاعر الى كتابة القصة او الرواية، فإنه ليس بالضرورة يكون ناجحا ، كما كان في الشعر ، وهذا ما حصل للشاعر سعدي يوسف، الذي كتب رواية بعنوان «مثلث الدائرة» لم تحظَ باهتمام النقاد. لذلك فان ابرز المبدعين والمجددين ، هم أولئك الذين بقوا أوفياء للجنس الابداعي الذي ابدعوا فيه .

عقل نظم وصياغة

الكاتب باسم محمد حبيب يجد أن هناك أكثر من سبب ، لانتشار غواية الشعر إلا أنه يعتقد أن للأمر علاقة بالعقل في منطقتنا العربية، الذي يعده،عقل نظم وصياغة ، لا عقل ابتكار وإبداع، ويعلل حبيب ذلك بأن مجتمعاتنا قد خضعت ومنذ القدم لحكم شمولي، قسم الدولة بين حكام ورعية ، وفي هذا النوع من الحكم يغدو الإبداع جزءا من منظومة السلطة ، لأنها هي التي تكافئ وترقي وتقرب وتبعد وتثيب وتعاقب، ولفت إلى أن ما يقدمه كل من الشاعر والمثقف السردي ليس متساويا بنظر السلطة، فالسلطة يمكنها أن تستفيد من الشاعر الذي يمدحها ويهجو خصومها، فيما لا يمكنها أن تستفيد كثيرا من المثقف السردي الذي يمكنه على العكس من ذلك ، أن يؤلب الناس ويفتح شهيتهم للنقد ، الأمر الذي جعل العقل ميال للنظم ، إذ لا حاجة له لأن يبدع أو يفكر مادام هناك من يبدع ويفكر بالنيابة عنه ، على حد تعبيره .
وأشار حبيب إلى أن هذا لا يعني بالطبع أن العقل أخذ قالبا شعريا لا فكاك منه، بل أنه أستهل هذا الأمر ووجده أجدى وانفع من سواه، فإذا كان الشعر هو الذي يمنح الحظوة ويعطي المكانة والمنزلة فليس هناك داع لأن يبحث المثقف عن بديل له أو يتعب نفسه بما لا يقدم الكثير له، لذا لا غرابة ان يتسيد الشعراء مجالس الخلفاء والسلاطين والولاة فيما لم يحظَ نظراؤهم من المثقفين السرديين بما حظوا به، ومن ثم فإن للدافع السياسي الأثر الأكبر في ذلك ، لأن كل شيء في منطقتنا هو سياسي بامتياز، على حد وصفه.

نسقية مهيمنة

الشاعر الدكتور محمد البجاري يرى ان غواية الشعر تشكل مهيمنة نسقية في المشهد الثقافي العربي المعاصر.. فعلى الرغم من تعالي بعض الصيحات بمقولة موت الشعر والتبشير بعصر الرواية فإن الشعر مازال في منافسته القوية للاجناس الأدبية – حسب البجاري - حتى أن روائيا بارزا مثل الطيب وطار فاز بأكبر جائزة شعرية في بلاده.
مشيرا إلى أن انتاج غابات من المتشاعرين هو جزء من هذه الغواية ، فالكل يكتب الشعر اليوم، ثمة فوضى انتاجية عارمة وغياب في التلقي الجاد ، على حد قوله .
وأضاف البجاري قائلا : تحدثت شخصيا عن غواية الشعر في مقدمة كتابي الشعري انزياحات أخرى بقدر من التفصيل ووقفت على تفاصيل ذلك . والتباساته الكثيرة للخروج بنظرية شعرية عربية قسمت فيها مآل خطاب المغايرة العربي إلى الغنائيات والنصانيات وقد صدر في عمان عام 2011 .

الشعر واستبداده

لم يستغرب الكاتب عباس الصباغ من طغيان غواية الشعر على الانتلجنسيا العراقية، او العربية ، كما لم يستغرب ايضا تسيدها على المخيال الشعبوي ، والذائقة الادبية لعموم المتلقين ، فضلا عن المبدعين وذلك لان الشعر كما قيل هو ديوان العرب او مرتكز الذائقة الادبية العربية والاقرب سايكلوجيا من غيره، الى ذلك المخيال المكتظ بالقصائد والقوافي والصور الشعرية الدفاقة المتغلغلة في جميع ثنايا الحياة على حد وصفه.
ويعتقد الصباغ ان في الشعر ثمة وجاهة ما وقبولا اجتماعيا وقومانيا كبيرا ، فضلا عن شهرة و مقبولية في جميع الاوساط خاصة الادبية منها، ويصف الشعر بحصان طروادة، لمن يروم البحث عن موضع قدم في سجل الشخصيات، التي يرطن بإنتاجها الناس، ويسجل لهم التاريخ ارشيف حضورهم المبهر على صفحات الحياة بفخر وامتياز .
لافتا إلى أن هذا هو أحد الأسباب ، التي تجعل بعض النقاد والروائيين والفنانين التشكيليين، يحاولون بكل السبل ان يكونوا شعراء ، على الرغم من كونهم متميزين في مجالاتهم الاولى ، بما هو أفضل مما يحققونه في الشعر ، وقد يلاحظ تميزهم بذات الفاعلية الدافقة التي يحظى بها الشعراء .
وهذا ما يجعل للشعر غواية عظمى، لا يستطيع أي أحد من الانفكاك من أسرها وسحرها.. الغواية التي انتجت لنا رموزا أدبية فاخرة، على مر العصور مثل المتنبي وأبي تمام والبحتري وغيرهم المئات، هي ذات الغواية ، التي اثرت سلبا ، على تجارب بعض المثقفين، المعنيين بالنقد والفكر والسرد، بفعل الكاريزما الهائلة التي يحملها الشاعر، بالاعتماد على مرتكزات مجتمعية ، توصله الى حد التأليه أحيانا، لذا لم يكن غريبا ايضا، أن تسهم غواية الشعر بنقل سعي الكثير من المثقفين والمبدعين، من مناطق اهتماماتهم الأولى، في الفكر والسرد والفن إلى الشعر، وهذا ما جعله يتسيد ساحة الثقافة العربية والعراقية، ويفرض نفسه لقرون طوال على طبقة الانتلجنسيا، وعلى جميع اشتغالاتها وعموم الذائقة الشعبوية ، وعلى جميع مشاربها ، التي تشكل المخيال الجمعي الذي تأسره غواية الشعر الى حد الافراط .

هجرة بين الاجناس

القاص انمار رحمة الله أشار إلى أن غواية الشعر لا تقتصر على التأثر بشخصية الشاعر وحسب ، بل هي حاجة ، ووسيلة لعرض البواعث العاطفية عن طريق الخيال ، على حد تعبير (جون رسكن ) . ويجد رحمة الله أن لا ضير في الهجرة المتبادلة بين الأجناس الأدبية مادامت هجرة شرعية كما يصفها ،فالتجربة لا تفسد على حساب تجربة أخرى ، كتجارب العديد من العباقرة الذين أبدعوا في مجالات عديدة ، كـ (إدغار ألـن بـو) و(فيكتـور هيجو) و (ميخائـل نعـيمة) و(جبران خليل جبران) و(غـادة السمان) وغيرهم. عاداً ذلك من باب تأصيل التجربة في مجالين مختلفين .. وعلى الجانب الآخر يلفت رحمة الله إلى وجود الكثير ممن هرولـوا فـي ماراثون (التجريب) مشيرا إلـى أن ذلك حـقهم ، لأن الكتابة ليست مسيجة ، الكتابة منصة يطرح فيها أي كاتب نتـاجه ، وعـلى المتلقي والزمـن وفرن النقد إبـداء الـرأي (معاً أو ضداً).
وأضاف قائلا: كلنا يعرف أن السفر بين الأجناس عكسي منذ أن اجتاحت الفنون السردية وطننا العربي. فظاهرة الهجرة بين الشعر والرواية والقصة القصيرة حالة طبيعية و(عكسية). ولا تدخل من باب (الفشل) بل من باب (العجز) عن إيصال بعض الأفكار التي بحاجة إلى فضاء أوسع.
وهذا ما عبر عنه الروائي الأميركي (وليم فوكنر) حين قال (حين يعجز الشاعر يكتب قصة وحين يعجز القاص يكتب رواية).
فالانتقال من البوح والانحياز إلى الذات (الشعر)،إلى البناء وخلق العوالم (السرد) حالة صحية للكاتب والمتلقي مادامت تسير بخطى ثابتة، وتثمر تجارب جميلة تمازجت فيها اللغتان (الشعرية والسردية) في كثير من الأعمال الخالـدة.
في النهاية نحن مقبلون على عصر تهديم الأسيجة والقوالب، فترى السرد قد دخل في الشعر والعكس أيضاً. (إذا) كان المبدع عبقرياً ، يسافر بينهن واضعاً في حقيبته (المقدرة والشرارة والعبقرية).



استطلاع


* نقلا عن صحيفة الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى