صفوت فوزى - مبتدأ الأوجاع

خلع عنها ملابسها . خلع ملابسه .اتخذ مكانه على الكرسى المجاور للطاولة الصغيرة . بقايا مأكولات، علب سجائر مختلفة الماركات ، مناديل ورقية ،كتب ، اسطوانات موسيقى ، صور لنساء بملابس البحر مقصوصة بعناية من مجلات قديمة ، وفى الركن تستقر أدوات القهوة .

أشعل الموقد الكحولى ، وضع فوقه الكنكة الملآنة بالماء ، أضاف ملعقة البن ، وراح يرنو مترقباً لحظة الفوران . فى اللحظة المناسبة يخطفها من فوق النار ويصبها فى الفنجان .

أشعل سيجارة ، نفث دخانها بعمق فيما راح – على مهل – يرشف قهوته ، يستحلب طعمها العبقرى . مرارتها تذوب فى سكرها وتسرح فى كيانه كالسرور.

ضغط زر التشغيل . انسابت الموسيقى عذبة ناعمة تتسلق الجدران ، تعانق مئات الملابس النسائية المعلقة فى مشاجبها تدلك روحه المتعبة .

الحاجة الحارقة للتواصل الجسدى ، والاحتياج الممض للاحتضان والدفء يغدوان الآن ألماً واخزاً كاوياً لا يطاق .

تعلو الموسيقى فى ايقاع متسارع . خدر لذيذ يسرى فى أوصاله ، يلمس منابت العصب . ينهض من مكانه ، ببطء يتحرك نحوها ، يده اليسرى ترقد حانية فوق خصرها النحيل ، واليمنى تتشابك مع يدها اليسرى . منتشياً يدور ، ويدور ، ويدور .

هنا فقط يعرف معنى أن يكون حراً ، على راحته ، يحاول أن يفك شفرات شفتيه ، يعالج اختناق الكلمات وتلعثم الحروف . يلقى وراءه أرق الليالى ، ملوحة أيامه ، وظمأ الروح .

هنا كان ينسل من شرنقة الوحدة كاملة الغزل ، يقضى الساعات فى حوار طويل صامت ، مع الستائر ، والأضواء ، والأكواب ، وعلب السجائر ، والصور، والأغانى ، والوقت المتمدد فى لزوجة على الجدران ، والأبواب ، وساعة الحائط .

ضجيج المارة ، وغبار الطريق ، وبقايا اليوم المتصاعدة من المدينة الراقدة فى الظلام ، يأخذونه جميعاً فى رحلة عبر مكانه وزمانه ، رحلة مكررة من الكشف المحبط والتحقق المستحيل .

هنا فقط كان يمكن أن يغمض عينيه ، لكى يحتفظ بلذة الانتصار على مكامن

خوفه واحساسه الباهظ بالألم .

• • •

اليوم، وقد خلا البيت منها . أتقلب فى فراشى للمرة الألف ، تختلط اليقظة بالحلم ، فى فمى طعم صابون رخيص ، القلب مهجور كبئر جف منها الماء . انظر كل مرة الى الفراغ المجاور لسريرى ، آملاً أن تكتحل عيناى برؤية وجهها الطيب ، فلا أرى سوى الفراغ والوحشة والحزن المقيم .

كانت تملأ البيت أنساً ودفئاً ، بهجة وحضوراً . كان حضورها طاغياً ، والآن لا شيء . صار البيت مجرد جدران جهمة تخنقنى .

متثاقلاً مكرهاً أنهض من مكانى ، أجرجر قدماى الى المطبخ . هنا كانت جلستها المفضلة . تنسل فى لطف من تحت الغطاء . تعد فنجان القهوة ينضج على نار هادئة ، والصبح يسند خده على الشباك . واذ تشرب قهوتها ، تشيع فى ملامحها رقة وأسى .

لقد ماتت السيدة . هذا شيء تقوله كل طوبة هنا . كل الفناجين الفارغة ، وأوانى الطبخ المتروكة . صار البيت خانقاً ، ليس فيه مكان يأوى اليه القلب .قهر صامت ناعم لا يقيم حولى سوراً ولا يغلق على باباً بل يسرى فى روحى كالمرض .

" عييييييب . غمض عينيك . تقولها مداعبة وأنا أدفع الباب برفق فأراها جالسة فى الطست على كرسى تغتسل . جلست قبالتها وهى واصلت استحمامها . أحببت جسمها . الحمام يشيع فى سماره وردية يانعة ، وهى تحممه باعتناء وحنان . وعندما انتهت جففت نفسها متأنية . قلت فى نفسى أن المرأة كائن نبيل . من يومها صارت أنثاى "

مهزوم أنا حتى النخاع . وحيداً فى عراء الكون . فى قلبى ذات الفراغ الذى تعانيه الدار بعدما عرفت طويلاً صخب الحياة وثراءها .

صار الحنين اليها خبزى اليومى وقهوتى الصباحية . أرتدى ملابسى . أذرع شوارع المدينة وطرقاتها . أبحث عن وجهها بين العابرين .

وجه أمى حنون كما لم يكن وجه أم . وحده ثوبها ، لا يشبه أى ثوب آخر ، ابتسامتها لا تشبهها ابتسامة . وحدها أمى المرأة الناحلة بالجديلة المحناة التى تنفلت من تحت ايشاربها ، أروع النساء .

تنكرنى الطرقات . تقفر الشوارع والميادين ، تنسحب الأصوات والأضواء . الخيبة تخرج لسانها لى وتفر .

آلاف من علامات الاستفهام تركت لى غموضها وحيرتها ، أذرع مكانى معكر الخاطر ، مدججاً بسؤالاتى وشكوكى , مثخناً بأوجاعى وهمومى . فراغ لا يدفع ، انه اليتم الذى اذا أصاب القلب استقر هناك ولم يبرح .

تقودنى الأسئلة المراوغة الى رجل الدين : هل صحيح ما علمونا اياه من أننا سنبعث احياء بعد الموت ونلقى احباءنا الراحلين ؟

يرد الرجل : هذه حقيقة مطلقة . ويقول ، ويقول ، ويقول .

ترتفع قبة الكنيسة ، تكبر وتتسع حتى تتلاشى فى الظلام . تباعدت الجدران والأعمدة . تبهت الألوان والأضواء وتتمازج حتى تذوب . ثم رأيتنى المصلوب والصليب تتطاول أذرعه نحو اللانهايات الأربع ، وأنا فى نقطة التقاطع .

•••

عندما كسروا الباب عنوة ، كان المشهد مروعاً . تماثيل العارضات معراة وقد ثقب ما بين أفخاذهن . جسده الناحل الممصوص مكوم على الأرض وقد انثنت ركبتاه حتى لامستا ذقنه ، وخيط دم قان ينسال من رسغ اليد . غير بعيد كانت بقع متفرقة من سائل أبيض لزج تتناثر على الأرض ، فيما كانت موسيقى صاخبة تملأ المكان

-----------------------------

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى