البشير الأزمي - دموع سليمة

أحرقت مراكبي وجلست إلى شاطئ واقعي أتأمله..
أجهدت نفسي في انتزاع الفرح من بين تلابيب الحزن، حاولت ارتداء قشيبَ ثوب الفرح لأستر به عورة معاناتي وآلامي. ما سََتَرَتْ محاولاتي معاناتي ولا قَصَمَت ظهر آلامي. لم تكن مراكبي قادرة على الصمود في وجه أمواج بحر انكساري. لفَّتْني أمواجه، قيدتني، رمتني إلى شاطئ الضياع. وحيدةً، بئيسةًً، شرسةً غدوتُ. بتوجيه من أُسَرهن تفادت فتيات القرية مصاحبتي بل حتى اللعب معي أو الاقتراب مني.
- لا تقتربن من حليمة.. لا تلعبن معها.
هي ذي اللازمة التي كانت تخدش أذني كل لحظة وحين، كلما هممت بالاقتراب من الفتيات وهن يلعبن. نداء الطفولة كان يشدني إلى عالم اللعب؛ عالم الاحتفاء بهذه المرحلة البريئة من عمري المُسَيَّج بقيود الحرمان من تحقيق ذاتي؛ ذات البراءة كما كانت تنعتها أمي.
لم أستوعب بعد لِمَ أعاقب بهذا الجفاء. لم أرتكب ذنباً ولا جرماً حتى أعاقب. كمرض معد أضحت الفتيات يتجنبنني، يشحن وجوههن عني كلما التقين بي في الزقاق أو في ساحة القرية؛ محراب الفرح، حيث كانت الطفلات والأطفال ينعمون بلحظات دفء الطفولة. وإن صادف مروري وإحداهن تطل من النافذة ، يصل إلى أذني صوت الاصطفاق بعنف يعقبه صياح و وعيد أم أو أخت مبشراً بعقاب و حرمان من اللعب يوماً كاملاً. بدأتْ، مبكراً طيور الأسئلة تحلق فوق رأسي: "ما الذنب الذي اقترفته يا حليمة؟"، "أية لعنة حطَّت بمرفأ ذاتك؟"
تتكاثر الأسئلة، تتناسل. تقيدني.. تسيجني. أسرع في خطاي. أعود إلى المنزل، أصعد السلالم بسرعة دون خشية أن أقع. أصل إلى سطح المنزل. أنزوي إلى الزاوية القصوى من السطح قرب بيت التنظيف المهمل، ألجه وأبحث بين بقايا المهملات عن "سليمة"؛ دميتي، هذا كان اسمها. كنت أطلقت عليها اسم "سليمة"، لا أدري لمَ سميتها سليمة. راقني هذا الاسم، وقر في مخيلتي وتدحرج على صفحة لساني. شغلت "سليمة" الفراغ الذي أحدثه ابتعاد الفتيات عني، بل نبذي. كنت أجد وأنا إلى جانبها حبل أمل أنشر عليه غسيل آلامي. أقضي اليوم كله جالسة إلى دميتي أحدثها عن معاناتي، عن شعوري و إحساسي. تظل "سليمة" محدقة فيَّ دون أن ترمش أو تنبس بكلمة. أشد بقوة على يديها الصغيرتين، أضمها إلى صدري وأرسم على خدها قبلة حارة. أحس بدقات قلبينا تتوحد. تسقط دموع على ظهر يدي اليمنى، لا أميز بين دموعي ودموع "سليمة". أمسحها بكَمِّ قميصي. أضع "سليمة" في مكانها ببيت التنظيف المهمل. أرسم قبلة على خدها الذي أحسست أنه لا يزال مبللاً بالدمع. ألملم ذاتي وأعود إلى عالمي مستعدة لسماع اللازمة التي كانت تخدش أذني.

تطوان/المغرب 27/07/2010

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى