عبد القادر وساط - مات المستبد بالله.... عاش المستبد بالله

حدثنا كامل بن أحمر الكناني ، عن الشيخ عوف بن مالك الجُشَمي ، قال :
لم يكن للمستبد بالله ابنٌ ذكَر يرث الملك من بعده ، و إنما كان له أخٌ توأم ، يشبهه تمام الشبه ، فلم نكن نستطيع التمييز بينهما إلا بلباس المُلك و تاج الطغيان . و كنا نظن أن الطاغية سيجعل أخاه ذاك وليا لعهده و يأخذ له البيعة ، لكنه لم يفعل شيئا من ذلك ، و إنْ كان يكلفه بين حين و آخر ببعض أمور الدولة الجسام .
و كان المستبد بالله يطلق على أخيه التوأم - من باب التعظيم - لقبَ " سليل الطغاة " ، فلم نعرف له لقباً آخر غيره ، على مر السنوات . و كان " سليل الطغاة " عالما باللغة و الأدب ، و له شعر رقيق ، رائق الألفاظ ، لكنه كان في القسوة مثل أخيه المستبد أو أشَدّ ، فكنا نعجب في مجالسنا الخاصة - حين تطمئن الأنفس و تنطلق الألسن - كيف يجمع رجل بين رقة الشاعرية و غلظة القلب .و كان " سليل الطغاة " هذا مولعا بصيد الأرانب ، في مفاوز نجدان ، فبلغه يوما أن الفقيه الأجلّ ، الشيخ الأسعد بن عطية ، قد عاب عليه ذلك و أنه تمثل بقول الشاعر عبدالله بن همام السلولي :
لقد ضاعت رعيتكم و أنتم
تَصيدون الأرانبَ غافلينا
فاستشاط سليلُ الطغاة غضبا عندما سمع بذلك ، و أمرَ رجالَه أنْ يجيئوه بالشيخ الأسعد في القيود ، فلما جيء به إليه ، خاطبه قائلا : " نحن مولعون بصيد الأرانب ، أيها الشيخ الضال ، و لكننا لسنا غافلين عنك و عن أمثالك . و لو كنا كذلك لما بلغَنا ما تنطق به من قبيح الكلام في مجالسك الخاصة، مع من تحسبهم خلصاءك و أصفياءك ." فلما انتهى من كلامه ذاك ، أمرَ بحرمان الشيخ الجليل من الطعام و الشراب سبعة أيام ، ثم بتسييره بعد ذلك إلى سجن الكثيب .
قال الشيخ عوف بن مالك الجُشَمي :
ثم إن المستبد بالله مرضَ بعد ذلك و طال مرضه - و هو يومئذ في الستين من العمر- فلم يعد يستقبل الناسَ في قصره العامر، أو يشرف على مجالس الوزراء، فأرْجَفَ الناس و تكلموا. فلما طال احتجابه ، انتشر الخبر بأنه قد انتقل إلى جوار خالقه ، فاضطربَ أهل نجدان و خافوا أن تحل الفتنة محل الطغيان ، ثم سمعنا بعد ذلك أن الطاغية قد تعافى و أن مجالسه ستعود للانعقاد ، و كان أن حضرتُ أولَ هذه المجالس ، فإذا الطاغية كعهدي به ، لا يبدو عليه مرض أو تعب ، و إذا الوزراء من حوله وأكابر الدولة ، و إذا القصر هو القصر و الدنيا هي الدنيا ، فلما انفضّ المجلس ، مال عليّ صديقي الشيخ فيروز بن عُلْبَة ، الملقب بفراشة النار، و قال لي : " تعال إليّ بعد صلاة العشاء في بيتي ، فإني منتظرك هناك ."
فلما وافيتُه في الوقت المحدد ، وجدتُ عنده جماعة من أصحابنا ، منهم عالم علماء نجدان ، الخبير بأنساب و أيام العرب ، الشيخ كعب بن أبي عاصية التيمي ، و منهم العالم الأديب الطبيب ، واحد عصره و فريد دهره، الشيخ عقبة بن مسعود المُزني ، مؤلف كتاب" مسرة النفوس و صحة الأبدان " ، و منهم أعشى نجدان ، الشاعر حُصَيْن بن أوفى ، صاحب القوافي البديعة و المقطعات الغزلية الرفيعة . فلما دخلتُ و سلمت ، تحدثنا في أمور مختلفة ، ثم توجه إلينا الشيخ فيروز بن علبة، قائلا بصوت أقرب ما يكون إلى الهمس :
- إياكم أن تظنوا أن المستبد بالله هو الذي كان يجلس اليوم على سرير الملك ، فإنما هو أخوه التوأم " سليل الطغاة "، قد تزيّا بزيّه و استلمَ التاج و الصولجان ، و أصبحَ ملكاً على نجدان . أما المستبد فقد مات و دُفن ليلا في ساحة القصر .
قال الشيخ عوف بن مالك :
فبهتنا و الله عند سماع ذلك الكلام ، و بقينا صامتين إلى أن تساءل أعشى نجدان قائلا :
- أوَ لم يفطن أحد من الوزراء و الأعيان و كبار الجند لذلك ؟
فأجابه الشيخ فيروز :
- بلى ، و لكن ما حيلتهم ؟ فالظلم واحد و الاستبداد واحد، مهما اختلف الطغاة و تعاقبوا . و رحم الله الشاعر السلولي الذي قال ( إذا ما مات كسرى قام كسرى)
ثم أشرنا إلى بعضنا بالصمت ، لأن الجدران لها آذان في حاضرة نجدان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى