عباس محمود العقاد - الحرية والقنبلة الذرية

ختمت الحرب بالقنبلة الذرية

فعسى أن يبدأ عهد سلم موفور الأمن، مكفول الحرية

ولست ضعيف الأمل في بلوغ الغاية من هذه الطريق المرهوبة، لأن الاستعمار والاستغلال هما آفة هذا العصر في علاقات الدول وعلاقات الأفراد. ولابد أن يتأثر الاستعمار والاستغلال معاً بعد انطلاق قوة المادة من خزائنها التي كانت محبوسة فيها. فنرجو أن يكون التغير المنظور للتحسين لا للتسوئة، فإن التسوئة لا تنفع أحداً من المستعمرين ولا المستغلين، وفيها ضير محقق عليهم أجمعين.

ينشأ الاستعمار من الحاجة إلى الخامات والوقود والأسواق، ومن أجل هذه المطالب تسيطر الدول الكبرى على سبل المواصلات وتحتل المسائح البعيدة وتجور على سيادة الأمم الضعيفة بما تشاء من المعاذير والتعلات

وينشأ الاستغلال من احتكار أصحاب الأموال الوافرة الموارد الصناعة والوقود، وقدرتهم على تسخير الأيدي العاملة في صنع أدوات المعيشة بأرخص الأجور

فإذا استغنت الدول عن النفط والفحم وسائر أنواع الوقود، أو خفت حاجتها إليها، وإذا أمكن تحويل العناصر بالطاقة الهائلة التي تنطلق من خزائن الذرات على اختلافها، وإذا تيسر استبدال بعض المزروعات ببعض المصنوعات، أو تيسر الحصول على المزروعات بجهد قليل ونفقة أهون من نفقتها اليوم، وإذا صحب هذا الانقلاب ما سيصحبه حتما من تغير العلاقات بين الأمم، فهل نغلو في الرجاء إذا قلنا أن الأقوياء يستغنون يومئذ عن التحكم في الضعفاء، وإن الاستعمار ينقضي شيئاً فشيئاً، لأنه عدوان لا تدعو إليه الضرورة ولا يساوي ما فيه من عنت وما يدور حوله من نزاع؟

كذلك نرجو أن يبطل الاستغلال إذا أمكنت إدارة المصانع بغير الحاجة إلى رؤوس الأموال الكبيرة، أو بغير الاعتماد على شركات الاحتكار والاغتصاب. فلا حاجة إذن إلى إرهاق العمال في استخراج الثمرات والمصنوعات، ولا حاجة بالعمال أنفسهم إلى العناء الشديد لاستحقاق الأجور الكافية لتحصيل أسباب المعيشة الرخية، فقد تتيسر الأشياء لطالبيه بأرخص الأثمان وأيسر الوسائل، لأن الطاقة الذرية كفيلة بتيسيرها من غير إرهاق في العمل ولا إغلاء للتكاليف

نعم، أن فلق الذرة لا يزال وديعة مكتومة بين أيدي فئة قليلة من رجال الدولتين الأمريكية والبريطانية، ولكنه سر الحكومات والعلماء وليس بسر المحتكرين وأصحاب الأموال، ولا مصلحة لحكومة من حكومات هذا العهد في تسليم هذا السر إلى شركات الاحتكار لاستخدامه في تسخير الملايين من الصناع والأجراء، وإذا تسرب السر إلى الصناعات السلمية، فلا موجب لانحصاره في أيدي أصحاب الأموال وأنصار الاستغلال، لأنه قد يتاح لأصحاب الأموال القليلة كما يتاح لأصحاب الأموال الكثيرة، وقد ينتفع به الأفراد كما ينتفع به كبار المساهمين في الشركات. ولا شك أن تكاليف العدد والأجهزة التي تستخدم في شق الذرة ستنقص مع الزمن وتدخل في متناول العدد الأكثر فالأكثر من المنتفعين بها، وبخاصة إذا تعدى الأمر معدن الأورانيوم إلى غيره من المعادن التي قد تجدي في توليد الطاقة وإن لم تبلغ في قوتها مبلغ هذا المعدن المنزور

ونود أن نتفاءل ولا نود أن نتشاءم، لأن التشاؤم هنا عبث ضائع على كل حال، فمتى وقعت الطامة الكبرى التي لا طامة مثلها ولا طامة بعدها، فإن غناء الباكيات قليل كما قال الشاعر القديم

وللقنبلة الذرية علاقة أخرى بقضية الحرية غير هذه العلاقة، وهي توكيد العقم الذي تصاب به العقول المنتجة في بلاد الاستبداد، أو في غير البلاد الديمقراطية على الإجمال

فليس أكثر من معامل التجربة في ألمانيا وإيطاليا واليابان وروسيا الشيوعية، وبعض الحكومات التي تخضع للحكومة الإجماعية

وليس في العالم دولة تهتم باختراع الأسلحة الجائحة كما تهتم بها دول المحور ولا سيما الألمان واليابان

كل جهود هذه الدولة منصرفة إلى استكمال العدة بكل وسيلة من وسائل الغلبة وكل حيلة من حيل العلم والصناعة

والعلم الإنساني بين أيديها كما هو بين أيدي الأمم الديمقراطية في الولايات المتحدة أو في بلاد الإنكليز وربما استطاعوا أن يحيطوه بالأسرار ويهيئوا له جو البحث في أمان من عيون التجسس والاستطلاع، ولم يتيسر ذلك بمثل هذه السهولة في بلاد البحث الحر والصحافة المطلقة والمناقشات التي لا تنقطع في الأندية العامة والمجالس النيابية

وكان قلق الذرة عند الألمان واليابان مسألة حياة أو موت، لأنهم لا ينتصرون بغيره كما ظهر من وقائع الحرب التي يشهدوها قبل أن نشهدها، ولم يكن فلق الذرة مسألة حياة أو موت عند الديمقراطيين، لأنهم قد انتصروا بغيره أو انتصروا قبل القنبلة الذرية وتلقوا عروض الصلح من اليابان قبل استخدام القنبلة الأولى ببضعة أسابيع

ومع هذه الضرورة الملحة، وهذه العناية البالغة، وهذه اللهفة العاجلة، حضرت العقول في بلاد الاستبداد فلم تصنع شيئاً في هذا الباب ولا قريبا من شيء، وعمل الديمقراطيون للحرب بعدهم بسنوات، فإذا بهم يستعدون لها بهذا السلاح ويشهرونه على أعدائهم وهو عندهم فضول وعند أولئك الأعداء طريق النصر - بل طريق النجاة الوحيد.

لم خابت عقول المخترعين في بلاد الاستبداد وأقحلت في بلاد الحرية؟ الاختلاف في طبائع العقول؟ أهناك تفاوت في مواهب الأجناس؟

كلا، لأن العلماء الذين عملوا لفلق الذرة منهم ألمانيون وروسيون وإيطاليون ودنمركيون، ومنهم من بدأ البحث ومن تقدم به إلى ختامه الموفق ومن كان له فضل الاقتراح الناجح منذ سنوات.

فليس المرجع في هذا إلى اختلاف في طبائع العقول، أو تفاوت في مواهب الأجناس، ولكنما المرجع فيه إلى سبب واحد جامع شامل وهو جناية الاستبداد على العقل البشري بجوه الخانق وسيطرته الغاشمة وسوء التوفيق بينه وبين الكرامة الفكرية التي يشعر بها المخترع ولا غنى له عنها في معرض ن معارض التفكير.

ولم يكن هذا المخترع فلتة أو مصادفة بين المخترعات الأخرى حربية كانت أو سلمية، ولازمة كانت في موعدها المطلوب أو غير لازمة. . . لأن القاعدة مطردة بغير استثناء يذكر في مخترع واحد من مخترعات هذا الزمن الحديث. وحسبنا أن نلحظ الفارق بين الطائرات الألمانية أو الإيطالية وبين الطائرات الأمريكية والإنجليزية مع استغناء الإنجليز والأمريكيين بالأساطيل البحرية واعتماد الألمان على الطائرة والغواصة لمقاومة المدرعات والسفن الكبيرة. فإن الديمقراطيين دخلوا ميدان الاستعداد متأخرين فبلغوا بالطائرات على اختلافها أقصى حدود الإتقان في وقتنا هذا، وأصبحت قاذفاتهم ومقاتلاتهم وحارساتهم وناقلاتهم راجحة في مجال العمل على أمثالها عند المحوريين كل الرجحان.

وما من شيء سمعناه عن أخبار الأمم التي لا تدين بالديمقراطية يدل على كساد العقول في ظل الاستبداد كما تدل عليه تلك الأخبار التي ينشرونها عن ملايين الكتب والتصانيف التي تطبع بالملايين وتوزع كما يقولون بين الملايين. فإن تلك البلاد كانت تنجب النوابغ النابهين في العلوم والآداب ولم يكن يطبع فيها عشر معشار هذا المقدار. فإذا توافر الغذاء وساءت (الصحة العقلية) فالجو إذن هو المسؤول عن هذا الهزال، وعليه اللوم وحده وليس اللوم على القرائح والعقول.

على أن القنبلة الذرية ستخدم الحرية الديمقراطية من طريق غير هذه الطرق التي قدمناها. لأنها ستحطم مذهب (كارل ماركس) كما تحطم الحصون والمعاقل التي تنقض عليها، وهو أخطر المذاهب التي تناضل الديمقراطية في عهدها الأخير.

ولسنا نعني بذلك أن الديمقراطيين يحاربون الماركسيين، وإنما نعني به أن ظهور هذا العامل الجديد في أطوار الصناعة يقطع السلسلة التي صاغ كارل ماركس حلقاتها وجعل الحلقة الأخيرة منها اجتماع الثروة كلها في أيدي ملوك الصناعة واصطلاح الفاقة كلها على العمال.

قال: ومتى صار العمال إلى هذا المأزق الضنك فلا مناص لهم من الموت جوعا أو الثورة الدموية على ملوك الفحم والحديد وأشباه الفحم والحديد.

فأقل ما تصنعه القنبلة الذرية أنها تقطع هذه السلسلة قبل حلقاتها الأخيرة، لأنه توهن قبضة المحتكرين على عناصر الصناعة الكبرى وتخلق لهذه الصناعة عنصراً غير الفحم والحديد وغير العناصر التي يقوى على احتكارها أولئك المستغلون.

فما أضخمها من قنبلة تلك القنبلة التي نجمت من أصغر الأشياء في هذه الدنيا.

أنها قنبلة ناسفة عاصفة ولكنها في عالم الأفكار والآراء أفعل ما تكون؛ لأنها إذا فعلت فعلها في آراء الناس وأخلاقهم لم يقف لها عائق ولم يكن تعويقها من المفيد، ولكنها إذا أرادت أن تفعل فعلها في عالم الأجساد وقف الناس لها أجمعون أو وجب عليهم أن يقفوا لها هناك. .

وإلا فهي القيامة لا مراء.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 633
بتاريخ: 20 - 08 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى