مالك معاذ سليمان - المقعد الخلفي.. قصة قصيرة

كانت قصيدة قد بلغت حد كمالها , ايقاعاً ومضموناً وقافيةً وموسيقى , في اواخر العشرينات , سمراء , ممتشقة القوام , غجرية الشعر , ذات جمال يعلن عن نفسه دونما تكلف او ضجيج، مرغمةً كل من ينظر اليها من أول وهلة ان يردف النظرة بنظرات أُخر دونما توقف . لم تكن تبدي اكتراثاً لجمالها رغم نظرات الاعجاب المصوبة نحوها من كل حدب و صوب . كان كغيره لا يدع فرصةًً تفوته دون أن يختلس النظرات اليها ؛ نظراتٍ تزيل عن كاهله غبار التعب والمعاناة , وتفجر في سمائه الموحشة امطار الفرح والحب والألق . جمعتهما الصدفة للجلوس في المقعد الخلفي لبص الحادية عشر مساءً , المتجه الى دينفر/ كولورادو , قادماً من مدينة ارفادا .هي على ما يبدو فضلت الجلوس في الخلف , هرباً من ثرثرة سائق البص العجوز الذي يدس انفه في ما يعنيه وما لا يعنيه , فلا يترك شاردةً او واردةً الا ويقحم نفسه بالتعليق عليها مع قهقهةٍ صبيانية صاخبة لا تناسب وقار سنه , اضافةً الى ضجيج عمال منتصف الليل الذين كانوا يضايقونها بنظراتهم الشرهة وصخبهم الذي لا يطاق . اما هو فكان يبتغي الاسترخاء في المقعد الخلفي بعد عناء يوم عمل طويل .أصبح المقعد الخلفي مزاراً تحج اليه العيون المعجبة , وتطوف حوله القلوب الهائمة , المسحورة بتلك اللوحة البشرية الخلابة . اعتادت أن تشرئب بجيدها الغزالي ناحية السائق بين الفينة والاخرى , في شوق حار يسابق عجلات ذلك البص الذي يمشي الهوينى , كأنه يعاند رغبتها في سرعة الوصول . حركاتها القلقة توحي لمن يراها , برغبتها الملحة و شوقها الدفاق لانجاز لقاءٍ دافئٍ مع حبيب مرتقب . حيث يزداد وجهها رونقاً وبريقاً كلما اقترب البص من محطة وصولها , بينما تغشى صاحبنا سحابة من الحزن لفراقها . فيكتمل بدر فرحتها حينما يتوقف البص لتغادره مهرولةً , في فرحة طفولية عارمة . كان يشيعها بنظراته الملتاعة , حتى يبتلعها ذلك الزقاق الضيق , بينما في قرارة نفسه يحسد ذلك المحبوب الذي فاز باخلاصها الذي كان يولد ويتجدد امام ناظريه كل ليلة . هكذا اعتاد ان يراها كل ليلة , فأصبح كلاهما مألوفاً لدى الآخر , حيث لغة العيون وسيلة التخاطب الوحيدة منذ أن التقيا . صار غيابها عنه يؤرقه ويفسد عليه نومه , فلم يجد تفسيراً مقنعاً لذلك الشعور ؛ اذ لم يكن حباً بمعنى الكلمة ولا عشقاً بصريح العبارة , بيد أنه كان شيئاً اشبه الى الالفة التي لا تتحمل مثقال ذرة من الم الفراق .
اللعنة ! مقعدها خالٍ تماماً هذه الليلة !! لقد تركت فراغاً عريضاً ووحشةً لا تطاق في البص بأثره !!
عيون عمال منتصف الليل تبحلق في في مقعدها الخالي , فتقتلها الحيرة . نظرات استفهامهم ترمقه دون أن تجد اجابة.
لليوم الثاني تغيب , وتزداد النظرات الحائرة . ويلبس البص ثوب الحداد ويغوص ركابه في لجة ٍ من الصمت العميق ويكف سائق البص العجوز عن ثرثرته وضحكاته المجنونة . صارت نظرات الركاب المتسائلة وهمهماتهم تعذبه وتزيد من حالة اكتئابه . يمعن النظر في محطة نزولها وفي الزقاق الضيق عله يجد لها أثراً , فينقلب اليه بصره خاسئاً حسيراً . في اليوم الثالث قرر أن يجلس في المقعد الامامي اتقاءً من نظراتهم المؤذية , لكنه رآها هناك في المقعد الخلفي , بلحمها ودمها , غير انها لم تكن كما عهدها ؛ فقد انطفأ عن وجهها ذلك البريق , وغاب عنها ذلك التوهج .
تلاقت اعينهما لدرجة الذوبان . قرأت في عينيه اللوم والعتاب وجيوش التساؤل والحيرة . تعطلت لغة العيون بينهما لأول مرة لتخاطبه بصوتٍ اجش , كأنه آتٍ من وادٍ سحيق :
– لقد مات !
– من مات ؟
– كلبي العزيز

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى