أمجد ياسين - المقهى بين الأمس واليوم..

ما ان تحط رحالك في شارع المتنبي، حتى تستعيرك في استراحة مؤقتة مقهى الشابندر او حافظ لتبتعد قليلا عن ضوضاء السوق وزحمة المتبضعين. المقهى فسحة للتأمل، حين تدعوك لتقليب جدرانها والسقف والجالسين وحركة العاملين فيها فضلا عن الوافدين والمغادرين.. المقاهي محطات المدن والشوارع والأزقة وملتقى الأقدام المستقرة والعابرة، هناءتها القصيرة، ونبضها العالي الممتلئ بحكايا الأحداث اليومية، فرصة لأن تختفي فيها الأحساب والأنساب، من قائمة التداول، غالبا لا تعرف من يجلس أمامك أو جوارك، ربما بروفيسور أو سارق بانتظار فرصة ليقلب جيوبك، فقير أو غني، برلماني سابق لم يدمن الظهور على شاشات التلفزة فلا يعرفه أحد، أو جديد يهيئ نفسه للانتخابات القادمة، فالمقهى تقيس نبض الشارع ونبض السياسة. هذا المحلل السياسي لا يجد مكانا يعبر به غير المقهى أملا في ان تطلبه إحدى القنوات. فللمقهى روح وتقاليد المنافسة، قد لا تبدو علنية لكنها مترسخة في لا وعينا، نتمثلها إذا ما كنا في البيت، حين نستدعي أجواءها ونحن نحتسي الشاي أو الأركيلة، وتتمثلنا إذا ما كنا فيها جلساء نتمرأى بمراياها، فجلستنا وكلامنا وطريقة تصرفنا تأخذ شكلا مختلفا فيها عمّا هي في أمكنة أخرى. ومع كل ما يقال عنها تبقى استراحة مؤقتة، لها شروطها وأنساقها.
للمقهى لسان حال مختلف، أقصد به أحاديثها، فهي باب مشرع النوافذ للقول، الغريب منه والطريف، المعقول واللا معقول، تسمع فيها لكنات شعبية ولهجات محلية عديدة، وأصواتا فيها من تتنغم عنده الحروف، فتعرف انه من أماكن معينة من بغداد، وهناك من يستبيحك بود فتعرف انه من الفرات الأوسط والجنوب، وهناك من يرن راؤه فتعرف انه من الموصل.. ولهجات أصحاب الحِرَف والصنعّة وعمال المقهى، لهم مفرداتهم خاصة بهم، مثلما للزبائن والمارة.. هكذا هي الملتقى تفاجئك على غير موعد. فالهروب من الدوام لتبديل المزاج يكون للمقهى حصة منه، مثلما هي رغبة السائح بطرق أبواب المدن للتعرف على تراثها عبر مقاهيها وصحفها وناسها، لعل مقهى الشابندر واحدة من مراكز التعرف على أنفسنا حين نختلي في فضائها.
لا تشبه المقهى ما يجاورها وظيفياً او شكلياً إلا أنها تتواطأ معه في ترسيخ وجودها، فهذه العلاقة التبادلية هي سر ديمومتها، فأينما حلت جاورها اصحاب مهن متنوعة تحاكي احتياجات الناس عموماً، قد تكون قريبة أو بعيدة عن طقس المقهى ومفرداته. ما نجده في مقهى اليوم هو غيره في مقهى الأمس، فثمة طقوس لا تستهوي كل شرائح المجتمع، بدءا من أثاثها، فالزبون الحديث يبحث عن الثراء البصري، عمّا يغني ذاكرته، الاثاث المريح، ونوع من الخصوصية، الخدمة المتنوعة، اتصال مع العالم عبر الانترنت والموسيقى. فالمقهى بمفهومها العام مكان للتواصل الاجتماعي، وحاضنة للتطور الحضاري، حين بدأت أشكال جديدة من التواصل الاجتماعي تدخل تكوينها، كالتلفون ومواقع المحادثة على الانترنت وعدد من قنوات البث التلفزيوني، واعلام المؤسسات الثقافية، وانشطة منظمات المجتمع المدني، كل هذه الخدمات توسع من حضور المقهى في الذاكرة الجمعية للناس، كي تسرق رواد المقهى القديم لافتقادها ميزة ما طالما اشتهر بها، فالمقهى المعاصرة حاضنة للتجمعات المميزة ثقافيا وفكريا، ومكان مجاني للاجتماعات السياسية ولتحضير الاحتجاجات والمسيرات والتظاهرات الداعية للتغيير، كما شهدت حركات وثورات القرن الماضي. لقد حلت اماكن جديدة في بنية المقهى، قد لا تتفق وسياقها القديم، نتيجة تغير مزاج الانسان وثقافته وحاجاته، فقد احتضنت المقهى في مصر مواقع التواصل الاجتماعي على الانترنت الذي وفر فرصة لملايين الناس لابداء آرائهم والمشاركة في النشاطات المجتمعية العامة. كما انفتح فضاء المقهى الجديد على نواح عدة كانت محظورة في الامس القريب، فبعد ان كانت المقهى ذكورية بامتياز، لا أثر للمرأة فيها، تشهد مقهى اليوم حضورا واسعا للمرأة على مستوى الخدمة او توافد العوائل، بعد ان عززت الخدمات من طعام ووسائل ترفيه، فضلا عن كونها مقهى تقدم الشاي والاركيلة ..الخ.
لقد وظفت المقهى ادبيا في العديد من الروايات والقصص والبرامج التلفزيونية، كمفردة مكانية واجتماعية قارة في الحياة السياسية العراقية اليومية، ولم تخل رواية او قصة عراقية مميزة من ثيمة المقهى، بينما شكل حضورها رحىً في بعض الأيام للاحداث، كرواية "القربان" لغائب طعمة فرمان التي عكست الصراعات السياسية اليومية. واحتوت المقهى في مجموعة "غرف نص مضاءة" لموسى كريدي نوى العلاقات الاجتماعية. وعبر القاص محمد خضير في قصة "الى المأوى" من مجموعة" في45 درجة مئوية عن وضع اجتماعي للاعمى، اما عربيا فكانت المقهى حاضرة في روايات نجيب محفوظ "زقاق ذلك المدق" و"ميرامار" "القاهرة الجديدة" وغيرها.. عندما وظفت المقهى كمكان فاعل في سياق الاحداث لتشكل انعطافة مهمة في بنية السرد. بقي ان نقول ان روح الاصالة، روح التراث، ما زالت عالقة في المقهى القديم، بجدرانها التي تستحضر صور الماضي البعيد والقريب، وبأثاثها البسيط، وبلغتها المحببة وبمفرداتها البسيطة، ويبدو من الصعوبة أن تتخلص المقهى الجديدة من هذا الإرث، مقهى الشابندر نفسها يوم الجمعة تشعر بقليل من الحداثة وبكثير من إرث المقهى القديم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى