صفاء ذياب - تواريخ منقوصة..

"خرج أحد العلماء يطوف البلاد يباحث العلماء ويغلبهم حتى وصل إلى بلد جحا وسأل: هل من عالم في هذا البلد؟ قالوا: نعم، وأحضروا له جحا راكباً حماره، فسأله العالم: أين
وسط الأرض؟ فأجابه جحا: الموضع الذي أنا واقف فيه بحماري وإن لم تصدقني فعليك بقياس الأرض. فتحير الرجل، ثم سأله كم عدد النجوم؟ فأجابه جحا: عدد شعر حماري وإن لم تصدقني فعد النجوم وعد شعر الحمار. فسأله الرجل: كم عدد الشعر في لحيتي؟ فأجابه جحا: إن الشعر في لحيتك يساوي عدد الشعر الذي في ذيل حماري، فإن لم تصدقني فاقلع شعرة من لحيتك وشعرة من ذيل الحمار حتى ينتهيان الاثنان ثمَّ عدهما. فدُهش الرجل ورجع نادماً".

إقحام المتحدث

يحدد الباحثون في فلسفة الحجاج عدداً من آلياته، التي يمكن من خلالها إقحام المتحدث معك، وإقناعه بوجهة نظرك، بأي موضوع يطرحه، حتى وإن لم تكن على دراية ومعرفة به، من أول هذه الآليات فهم النص، أسئلة من نوع: عما يتحدث هذا النص؟ ما هو المفهوم المركزي في هذا النص؟ هل تجد في النص مفاهيم فرعية متناقضة، استخرجها على شكل أزواج؟ والانخراط في تحليل حجاجية النص عن طريق أسئلة من نوع: هل يقدم النص موقفاً موحداً أم مواقف متعارضة؟ وأسئلة تتعرض لأسلوب تقديم الحجج ومبررات الأمثلة وغيرها، والانفتاح على العالم اليوم عن طريق السؤال عن رأيه في الموقف الذي يدافع عنه النص، ومن ثمَّ يطلب من المحاجج صياغة أجوبته كعملية تحليل النصّ.
ربما لم يكن جحا؛ وهو الشخصية الأكثر إثارة في التاريخ العربي والتي أعيد خلقها مرات لا يمكن إحصاؤها، بحسب الثقافة المنتجة للحكاية والزمن الذي تحكى فيه، شخصية حقيقية، غير أن هذه الحكاية تروى في كل مرة حسب ما يحتاجه مجتمع ما، وفي بعض الأحيان يعاد بناؤها من خلال التقنيات الجديدة التي ينتجها كل عصر، حالها في ذلك حال القصص الشعبي الذي يعاد إنتاجه عدّة مرَّات وفي أزمنة مختلفة.
لكن السؤال الأهم هنا: هل يمكن أن نسمي هذه التقلبات تاريخاً؟ ومن الذي اختلق شخصية جحا من أجل سرد كل هذه الحكايات؟

كتابة التاريخ

ربما من بدأ بسرد هذه الحكايات كان يريد أن يعيد كتابة التاريخ بطرائق مختلفة أولاً، ولكي يطرق أبواباً سردية يحكي من خلالها ما تجول به أفكاره وأفكار مجتمعه ثانياً، فضلاً عن أن كتابة هذه الحكايات؛ كتاريخ، يعده كريستوف بوميان فناً.
في حين هاجم فولتير التاريخ الذي يقتصر على رواية الأحداث مقابل قصور فكري. فدراسة التاريخ وحكاياته لا يكتمل إن لم تُدرس من خلاله المراحل التي أنتجته، والعقليات التي تبنت آلياته وصيغه التي وصلت إلينا بهذا الشكل...
فهل يمكن أن نعد حكايات جحا تاريخاً، بالتأكيد سيكون الجواب: نعم، لأننا من خلالها نتمكن من قراءة التاريخ الحقيقي للمجتمعات التي أنتجتها، وربما إذا تمعنا النظر في الحكايات البغدادية التي جمعها الأب أنستاس الكرملي، والتي صدرت بأكثر من طبعة، من أهمها (ديوان التفتاف أو حكايات بغدادية) سنعيد كتابة التاريخ البغدادي من جديد، ونفهم ما الذي يفكر فيه سكان بغداد خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وربما ما قبل هذين القرنين، ومن ثمَّ سنكتب تاريخنا الحقيقي وليس الورقي المدون في كتب لا نعرف صحتها من تدليسها، فهذه الحكايات، وأيضاً حكايات جحا وغيرها، هي التي تعيد قراءتنا وتعبد الطرق أمام مفاهيمنا الناقصة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى