صفوت فوزى - قشر البطاطا

الحارة الضيقة الرطبة بعيالها الفقارى الممصوصين، تضرب الصفرةُ أجسادَهم. ثيابهم قديمةٌ ورثَّةٌ، وجوههم تعلوها مسحةٌ رماديةٌ كأنها طبقةٌ من غبار. أشم الآن رائحة الأزقَّة الضيقة، رائحة الماء بالصابون المدلوق في الطرقات. أنصت لتمتمات العابرين في الطرقات الساعين إلى رزقهم، يدعون إلى الله طالبين العون والمساعدة. يأتيني صوتُ وشيش بواجير الجاز، ثرثرةُ النساء، الضحكُ البذيءُ والشجارُ البريءُ. يصكُّ سمعي تصايحُ العيال ونداءاتُهم. يتَّجه بعضُهم إلى صندوق النفايات على رأس الميدان. يجمعون زجاجات البلاستيك الفارغة، قِطَع الكرتون، وعُلَبَ الصفيح.

"سيد أبو رفيعة" بجسده النحيل الطويل ورأسه الحليق المكور الصغير، عائدًا من الميدان القريب يخب في جلبابه الدمور المتسخ البياض، وقد ملأ حجره بأعقاب السجائر يفرغها في حجر أبيه الذي يتولى فرك الدخان دافعًا إياه للعرب الغنامة الذين يأتون إليه بعلب الدخان المعدنية اللامعة يفرغون منها في ورق البفرة يبللون أحرفها بطرف اللسان وينهمكون في الثرثرة وإشعال سجائرهم.

أمي بجلبابها الأسود القديم تقعى أمام الفرن المشتعل تلقم فوهته بحُزَمٍ من بقايا القصب الممصوص. رائحة الأرغفة تستوي في الفرن الساخن. تطقطق النار. يمور جسدي بالفرح وتسري فيه الرعشة في انتظار البطاطا المشوية بنار الفرن.

اليوم، تصحو الحارة من نومها، تتمطى وتتثاءب، وبقايا قمر منسي معلق في شرفة السماء. غرباء بملابس متشابهة يذرعون الحارة جيئة وذهابا. يجمعون الدجاج والبط السارح في الحارات، ويلزمونه العشش القابعة فوق أسطح البيوت. يطاردون القطط والكلاب. يفرشون أرضية الحارة بالرمل. عربات مسرعة تحمل قصارى زرع وورود توضع في مدخل الحارة. سرادق ضخم من قماش ثقيل مزركش بدوائر ومثلثات ومربعات مصبوغة بألوان زاهية نُصِب في الميدان القريب. أفندية بملابس زاهية وربطات عنق يشرفون على العمل الدائر ويتهامسون في ضحكٍ مكتوم.

زاط العيال وهاصوا، كبشوا الرمل بالكفوف. صاح فيهم الأفندية وطاردوهم حتى مداخل البيوت التي خلت عتباتها من النسوة اللاتي اعتدن الجلوس عليها. تسلل الولد "شكري" وراء الساتر وأنزل سرواله. اندفع جسد صغير لدن لعرسة كانت تتجول في المكان. لمحها تمرق من بين رجليه. انحرف تيار الماء النازل وبلل سرواله فيما هوت كف غليظة على قفاه، وصوت أجش يصرخ: هاتفضحونا يا كلاب.

السماء متربة منيرة بالنجوم، والقمر يريق ضوءه على سطوح البيوت المكومة. الضوء الشحيح المتناثر من مداخل البيوت غطت عليه كشافات قوية مبهرة أحالت ليل الحارة إلى نهارٍ يفح بالضوء والأزيز، فيما يزداد عدد الأفندية برابطات العنق. ثيابهم نظيفة، تلمع على معاصمهم ساعات مذهبة، وتفوح نواصيهم برائحة العطر.

عساكر متيبسون، ومخبرون بعيون ذئاب مُدرَّبة بلا قرار يروحون ويجيئون بسرعة وملامحهم توحي بالصرامة والكتمان.

عربةٌ فارهة ينزل منها، أنيقًا منتعشًا، كأنه أخذ حمامًا دافئا لتوِّه بعد أن استيقظ متأخرًا من النوم. طويل القامة، أكثر انتفاخًا من امرأة حامل، ساقاه ملتويان، الأنف أفطس، العينان كبيرتان مستديرتان جاحظتان كأنهما تهمان بالخروج من محجريهما. مجموعة من التابعين يحومون حوله كالخدم، يبتسمون بمهابة وبلاهة، يهتفون بكل حماس.

تكاثرت الأيدي المرحِّبة من ذوي أربطة العنق، فيما ازداد تخشب العساكر الواقفين حوله. راح الأشخاص الذين كانوا يتكلمون بصوتٍ عالٍ يتهامسون بينما انخرس البعض الآخر تمامًا.

من موقعي عند طرف الحارة، اكتشفت– مندهشًا– أنه لم يكن يرتدي رابطة عنق كالباقين. في لمح البصر، سرت همهمة سريعة بين المتحلقين حوله. زادت الهمهمة واتسعت دوائرها ورأيت– مدهوشًا– كل هؤلاء الأفندية، في نعومة وخفة حتى لا تكاد تلمحهم، يخلعون ربطات العنق ويخفونها في سرعة عجيبة.

تقدم الموكب واندفع الأتباع يفسحون الطريق للرجل الكبير وهو يصافح كل من يقابله في طريقه. الابتسامة الباهتة اللزجة التي ألصقها بشفتيه وهو يمد يده الشبعانة لمصافحة الأهالي لم تمنعهم من الانفضاض من حوله والتعامل مع أتباعه بتوجس وحذر.

من أعلى سطح المنزل، كان قلبي المخطوف لقدام يرفرف بين ضلوعي وأسمع صوت خفقانه، وقمر سهران في شرفة السماء، والنجوم– مصابيح الله– شاهدة عليَّ. وددتُ لو أعرف أغنية أرددها على إيقاع دقاته الفرحة، وبعزم ما فيَّ ألقيت بكل ما في حجري من قشر البطاطا في منتصف الحلقة تماما حيث يقف الرجل المتأنق بصلعته اللامعة وكرشه المدلوق أمامه.

-----------------------

تعليقات

اختفى هذا النص من الصفحة الرئيسية بعد عملية تثبيته .. الشي الذي لم ننتبه له لولا تنبيه القاص العزيز
صفوت فوزي ـ وقد ازلنا التثبيت لنعيده الى سيرته الاولى

مع التقدير والمحبة
 
أعلى