جورج سلوم - مفارقة طبية أدبية

كأنكَ تمرّ بنوبة عصبية .. أو حالة اكتئابية .. أو مأزقٍ انفعاليّ

ماهذا الانحراف الذي حلّ بك ؟.. تدخل معتركاً ليس لك وملعباً ستضيع فيه ..ماذا ستفعل بين فرسان الكلمة إن امتشقوا عليك سيوفهم ؟.. حتى الآن يلعبون معك إذ لا يرونك منافساً أو ندّاً .. حافظ على ماء وجهك وابق ضيفاً بينهم .. ولا ترفع صوتك الخفيض إلا إذا أذِنوا لك بالكلام

ثلاثون عاماً من عمرك انصرمت كنتَ فيها مرتدياً ثوبك الأبيض .. تتأبّط أجهزتك الطبية .. أو مقنّعاً بلباسك الأخضر في غرفة العمليات .. كنت ساكتاً .. نرى عيونك فقط وكان كلامك مسموعاً .. والآن تثرثر وتثرثر ولن يسمعك أحد!



تكتب صفحاتٍ كنتَ تلقيها علينا .. فنسمع على مضض خربشاتكَ وهرطقاتكَ اللفظية.. ونسمّيك أديباً بين الأطباء .. وذلك سهلٌ عليك أن تتفلسف في قواعد اللغة بين جمهورٍ من الأميين

أو أن تقرض شعراً مسروقاً وتنسبه إليك بين ثلّة من الطرشان

سمعناكَ لمجرّد التسلية .. أو إرضاءً لجهدٍ بذلته .. فأنتَ كنتَ شاعرنا الوحيد في المشفى لأنك الوحيد الذي تتفاصح فينا.. وعلينا فقط ..

كنا نبتسم لك في ليالي السهر في غرف العناية المركزة وأنت تردّد أبياتاً غزلية .. تحفظها لشاعرٍ ما .. أو تتغزّل بعيون ممرّضة أو طبيبة تساعدك في جراحة طويلة .. ونغفر لك

نرى ذلك تخفيفاً عن العبء الذي يتعرّض له الطبيب في جهاده بين الموت والحياة .. وتمسح الممرضة العرق الذي يسيل من جبينك رحمة بك وتخفيفاً عنك .. فسويعة الجراحة تلخيصٌ لساعاتٍ من الألم والأمل والصراع مع المرض ومقاربة الموت انطلاقاً من جروح مفتوحة وراعفة ونازفة

المريض يصلّي قبل الجراحة .. وكذا الطبيب .. والأهل على الباب فتحوا محراباً للصلاة ..يسألون عن القبلة ويركعون .. وينتظرون ابتسامة الطبيب عندما يخرج إليهم .. هذه السويعات لا وقت فيها للميول الشعرية

كنت محترفاً كطبيب وأديباً كهاوٍ .. وذلك مقبول ومبلوع .. كأنك تغني في حفلة طبية سنصفق لك .. أما أن تطرح نفسك بين المطربين كمطرب ؟.. صدّقني سنضحك عليك

لا تسمح لأرياشك بالنمو بين الأدباء .. دعها زغباً ..أو قصقصها كلما طالت .. لا تتطيّر فتسقط ويكون سقوطك مريعاً .. الأدب ليس سرياً كالطب.. هو منشور ومفتوح والنقد الأدبي جارح وقد يكون قاتلاً .. لا (تُعَصْفِر) نفسك بين المستنسرين .. فما أنت إلا عصفور بين النسور

الآن وكأني بك تميل لامتهان الأدب .. فهو أمر مُهين .. إذ أنها مهنة من لا مهنة له!!

كأي عاطلٍ عن العمل .. ينزوي .. ينعزل.. يكتئب .. يرخي ذقنه الفوضوية

يتديّن إذ قرأ صفحة ونصف من الفقه .. ويقول أصبحت نبيّاً ..

قد يُفتي بقطع رؤوسنا .. ويقول أنا ربّكم فاعبدوني

يتفلسف .. ويصيح بالقوم أنا أفلاطون وعدت إليكم مبعوثاً

يدهن حائطاً آيلاً للسقوط .. ويسمّيه لوحة فنية

يكتب خواطره ومذكراته .. ويعتبرها أدباً


فيكتب كلماتٍ يرصفها .. يشكّلها .. يهندسها .. يلوّنها .. ويعنونها .. فيظنها مقالة .. وبعض الظن إثم .. وأي إثم

والمواقع الأدبية تتلقّفها ليس إعجاباً بالإبداع الذي خلقته .. وإنما احتواءً فقط فبطن الأدب كبير والصعاليك الذين يدلون بدلوهم فيه كثر!

لا جمهورَ لهم .. والناس عنهم لاهون .. لذا يقرؤون لبعضهم ويصفقون لبعضهم بعضاً .. كالسجناء في زنزانة يغنّون لبعضهم ولا تخرج آهاتهم من خلف القضبان

والأدباء المحترفون والنقاد يصفّقون لك كتلميذ يكتب حرفاً على السبورة لأوّلِ مرة .. ويقولون مرحى لك .. أحسنت يا بني .. وإلى الأمام ثابر على اجتهادك.. والله الموفّق .. حاولْ ثانية .. وتقضي عمرك محاولاً .. وفي الحقيقة أنت تحاول وتحوّل خط مسيرتك .. وأمامُكَ حائلٌ وحيلولة واستحالة من مستحيلات المُحال

صُعقتُ البارحة عندما رأيت اسمك بين الأدباء .. كأنه خطأ مطبعي .. كأنه اسمٌ على اسم

وهذه صورتك ألا تخجل بها ؟.. اجعلها مشوّهة كباقي الأدباء الكبار في ذلك الموقع .. أو احذفها على الأقل

والطامّة الكبرى التي أثارتني .. وجعلتني أنهمر على قلمي فأكتب لك محذّرة وناصحة ..ذلك الوصف الذي تصف به نفسك كطبيب وجرّاح!..

أنت ترفع راية الفشل الطبي بميلك للأدب .. فالطبيب الناجح لا وقت لديه لتأليف القصص .. وضبط مخارج الكلمات .. وتسويد الأوراق وتبييضها .. والبحث في أحكام الهمزات وإعراب الكلمات ..

نبحث عنك بيننا .. فنجدك معتزلا ً ومنعزلاً

نكلّمك ..فنراك شارداً ساهماً مذهولاً .. محتاراً في مقدّمة لقصة .. متداخلاً مع نفسك لتحبك حبكة .. منطوياً إذ لا خاتمة تخرج بها .. فلا تطال خاتمة ولا خاتمة تطالك .. فتضع نقطة وتقول انتهيت وانتهت كلماتي معي

ملعبك الذي انتُدبتَ إليه هو غرفة العمليات يا صديقي .. وكفاحُكَ محصورٌ فقط في التحضير الليلي لمعركة الصباح بين الدماء .. فغرفة العمليات لا ترحم .. وأرواح الناس تتبخر من بين يديك كالدخان الذي عُدْتَ إليه بعد طول انقطاع!!!..

هل التدخين يساعد الأديب على الابداع ؟.. أنا أعرف فنانين لا يجودون إلا تحت رحمة الكحول والمخدرات .. يسمّونه شيطان الشعر وهو فعلاً شيطانٌ يسحبكَ إلى دهاليزه ومتاهاته .

ملفات المرضى لم تعد تدرسها كما كنت .. فلا شِعر فيها ولا إعراب !.. والقصة المرضية التي يقدّمها لك طالب الطب في الجامعة تنقدها أدبياً .. فلم تنتبه لأرقام التحاليل المرتفعة .. ولا لصور الأشعة التي توجز قصصاً تعجز عنها في سطورك المزركشة

لم تعد تستنبط حلولاً ومعالجات شافية كما كنت .. لم تعد تطالعنا صباحاً بما قرأت عن الجديد في الطب .. أين مجلاتك ودورياتك الطبية ؟.. حتى محاضراتنا الطبية لم تعد تحضرها .. وإن حضرت تغمض عينيك لتسخر في نفسك من مفردات المُحاضِر المخلوطة بين العامية والمحكية والعربية والأجنبية


لغتك الأجنبية هي سلاحك .. تنبيك عن الجديد في الطب

ودع العربية تجترّ أفعالها وقوافيها .. وتبحث عن الفاعل المؤخر والضمير المستتر .. وجواز ذلك .. أو زواجه إن شئت !

لا لم تعد طبيباً .. ولا لن تكون أديباً


أي مريضة ستسمح لك بفحصها .. مادمت ستتغزل بأصابعها في اليوم الثاني وعلى الملأ ؟!.. ومن هي التي سترضى أن تكون ملهمة لقلمك الفضّاح ؟

أوَتطبع كتاباً أدبياً .. وتنشره ؟.. يا للعار !

كتابُك موجودٌ في غرفة الانتظار بين المرضى .. وبين الجرائد .. والمجلات المصورة .. يقرؤون صفحة لقضاء الوقت ..ويقلبونه فلا صور فيه .. ولا أبراج فلكية .. ولا وصفاتٍ (ريجيمية).. ولا خلطاتٍ تجميلية

أي كتاب هذا ؟.. وأي طبيب ينشر كتاباً ؟

وأي مريض سيكشف لك سراً من أسراره بعد اليوم .. يا من أقسمت على الحفاظ على السرّ الطبي؟

لا وألف لا .. ما عُدْتَ طبيباً .. ولا لن تكون أديباً



د.جورج سلوم

******************

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى