حسب الله يحيى - أصابعي الخشنة..

(1)
هل هي اصابعي التي اعرفها حقاً ؟
هل يمكن لهذه الأصابع التي تخشبت وخشنت وصارت مبرداً؛ يمكن ان تخدش كل ماهو ناعم ورقيق وأملس ؟
هل هي الأصابع التي ضمها كف دائم الجفاف، دائم النزف، دائم الأعصاب الباردة والعظام النحيفة ؟
أسائل أصابعي.. فلا تجيب .
كنت اعرف ان وراء اصابع يدي.. أصابع عديدة من المآسي والشؤون والشجون، وعندما أحدق فيها، أجدني استعيد جملة من الذكريات التي اعجبت بها، وأتساءل كيف مرّت، وكيف استعيد صورتها الآن، وكيف قبلت بما كان من دون التفكير بما حصل، حتى لأحس ان اصابعي لم تفعله من قبل، وانه يخيل لي بأن ذاك الفعل لم يكن مصدره أصابعي التي اعرفها جيداً.. وإنما اصابع سواي، وانني قد استعرت اصابع أخرى ..
كيف، كيف يمكن استبدال اصابعي بسواها، وكيف استعير فعل اصابع سواي بأصابعي ؟
لكنه حصل.. إنه من فعل اصابعي، وليست أصابع سواي.. وعليّ الانتباه الى ان ماجرى يقترن بأصابعي.. نعم بأصابعي ذاتها.
كانت أصابعي الخشنة، الجافة تمسك بأصابع قدّت من حرير.. ولم اكن من قبل قد امسكت بقماشة من حرير لأعرف نعومتها.. لكنني سمعت ورسمت وتخيلت مدى النعومة التي يتحلى بها الحرير.. من خلال سماعي عن صفات الحرير التي صارت أنموذجاً لكل ماهو رقيق وناعم وأملس.
لم أكن قد امسكت بالحرير الذي توصف به أنامل النساء.. لم يكن بي تفكير حتى بالنساء كلاً، فكيف بأناملهن ؟
كانت كل النساء – عذارى ومتزوجات – مخلوقات عجيبة ونادرة، لم تخلق لأمثالي، لأنظر إليهن، او احدثهن، او مجرد الاحساس او التفكير بأية واحدة منهن..
كان العمل شاغلي الأساس، ومحور تفكيري ومصدر قوتي وترقب خبز عائلتي.. لم أكن املك وقتاً للترف، وما كنت أقرأ في أيام البطالة من روايات الحب؛ كنت أسخر منه، وأعده صورة من صور حياة المترفين والمرفهين الكسالى والبطرين .
كنت شديد الالتصاق بعملي ودراستي المسائية في ثانوية يجتمع فيها العمال وكبار السن وعدد ممن فشلوا في الثانويات الصباحية..
لم يكن في بالي التفكير بشبابي المتعب ولا ذاكرتي المشغولة والموزعة بين الدراسة والعمل.. كانت اوقاتي مزدحمة من عمل مضنٍ في البناء وطلاء الدور.. الى اوقات البطالة التي استثمرها في القراءة داخل المكتبة العامة.. تمتد طوال الدوام الرسمي ..
وقد نبه حضوري الكثير من الموظفين والطلبة الذين يحضرون وسائل علمية في كلياتهم.. وانتقل هذا الانتباه الى مدير المكتبة ذات صباح ..
كنت بملابس رثة تتوزع فيها الاصباغ.. كنت خجلاً وانا اتحدث مع مدير المكتبة وهو بكامل اناقته.. سألني :
- ما الذي يجعلك تقرأ.. تقرأ كما لو انك تخوض امتحانات شاقة.. ولكنني قرأت قائمة الكتب التي استعرتها، وقد وجدتها كلها كتباً جادة ورصينة ومنوعة، لكنها كتباً اكبر من سنك.. انت اكثر رواد المكتبة قراءة.. هكذا تشير احصائيات الاستعارة ؟!
خجلت، كنت لا أعرف كيف اجيب.. طمأنني :
- إسترح، لنشرب الشاي سوية .
- لكن.. استاذ ملابسي لاتليق، قد يتسخ المقعد .
وألحّ عليّ بالجلوس، وخجلت ثانية من قدح الشاي وصوت الملعقة وهي تذيب السكر .
كان سكر الكلام ودفء الشاي وعطر المكان واناقته.. كان كل شيء قد طاب لي.. شرحت للمدير احوالي ورغبتي الملحة في قراءة كل شيء.. لأعرف كل شيء .
تأملني الرجل.. سألني :
- ما رأيك ان تقتني للمكتبة الكتب والمجلات الجديدة كل شهر.. تختارها بنفسك، تقرأها.. ثم تجلبها الينا مع وصل بأثمانها لندفعه لك ؟
- ليس لديّ المال لشراء الكتب.. ثم قد أختار كتباً لاتريدونها !
- سندفع لك سلفة مالية، اما اختيار الكتب، فأنا واثق منه.. أنت لن تشتري إلا الكتب القيمة.. قراءتك تشير الى ذلك.
شعرت بغبطة بالغة، كدت أتقدم الى المدير لأقبله.. قدم لي مظروفاً فيه مبلغ من المال.. قال :
- إشتر ما يستحق الشراء.. ما نحن بحاجة الى قراءته ..
وأضاف :
- منذ الآن يمكنك استعارة خمسة كتب أسبوعياً بكفالتي ..
- استاذ.. هذا كثير، وهذه ثقة قد لا استحقها.. حضرتك لا تعرف سوى اسمي.. وانا لا اعرف حتى اسمك
- اسمي : عبد الحليم اللاوند، شاعر وكاتب، أنصرف للكتابة في ظروف خاصة وحين تكون الصحة في كامل صحوتها.. نحن منذ الآن اصدقاء .
اعجبتني الجملة الأخيرة، صافحته بحرارة.. وانصرفت .
(2)


في الأيام اللاحقة، واصلت القراءة داخل المكتبة العامة، واستعرت كتباً اخرى بكفالة المدير، وأشعرته بأنني اقتنيت كتباً ومجلات حديثة بالمبلغ النقدي الذي زودني به.. وانني سأحملها الى المكتبة حال انتهائي من قراءتها مقرونة بوصل يتعلق بأثمانها مختوماً من مكتبة المدينة .
تنبهت وانا منصرف الى مطالعة ملأت عليّ الزمن، الا انني كنت مرصوداً من عيون كثيرة حولي وامامي.. لم أكترث، ذلك انني ادرك ان ملابسي مثيرة للفضول..
وقف عند رأسي خيال رجل، رفعت رأسي.. كان الرجل بعمر أبي، أنيق، معطر, بهي الطلعة.. حياني، ومد إليّ أصابع التحية :
- طلبتي حدثوني عنك .
إرتبكت.. وقلت :
- استاذ.. انا لا أعرف أحداً منهم !
- لكنهم يعرفونك ..
- ماذا يعرفون عني ..
- العامل الذي يقرأ كثيراً ..
- وهل في هذا مايشغلهم ؟
- بالعكس.. كان المشهد يدهشهم.. ومن ثم استدعى فضولي.
- استاذ.. لا دهشة ولا فضول.. كل ما في الأمر، انني عامل وطالب ثانوية مسائي، اقصد المكتبة في الأيام التي اكون فيها عاطلاً ..
- ودراستك ؟
- الفجر مخصص لها.. والمطالعة هنا بديل عن العمل .
جلس الى جانبي وظل يمسك بيدي.. كانت اصابعي تذوب في يده.. كنت بلا اصابع.. كانت أصابع منحوت، طويلة، ناعمة.. هل أصفها بأصابع انثى، وأنا لم ألمس في حياتي كلها مثل تلك الأصابع حتى اماثلها مع الأصابع التي امسك بها، او تمسك بي.
كنت احس بأنني اجرح اصابع (الاستاذ) فأشفق عليه، واكاد اعتذر، وفي الوقت ذاته، ما كانت بي رغبة لفك الاشتباك بين اصابعنا ..
اشفقت على اصابعه مرات عديدة، وحسدت اصابعي وهي تنام هانئة بين اصابعه.. وددت لو انني بكامل شبابي أنا احيا بين اصابعه.. فهذه الرقة وهذا الدفء وهذا العطر كله.. لم أجد مثيلاً له في حياتي ..
خشيت ان تجرح اصابعي.. اصابعه، خشيت عليه مني.. وانا بهذه الاصابع التي قدّت من مبرد صديء.. قد يلوث ويدمي اصابع الرجل.. والرجل يمسك بها كما لو انه قد ارتاح الى اصابعي المبرد.
- استاذ ..
لم ادعه يكمل.. عفواً لست استاذاً، انت الاستاذ.
- إبتسم . وقال :
- أنت أفضل من أساتذة كثيرين .
- استاذ.. لا أريد مقارنتي بأحد.. لكل إنسان شخصيته وثقافته وادراكه..
ابتسم ثانية.. فيما إلتم الطلبة حولنا .
- بل أنا الذي اريد ان اعرف ما الذي اقدمه لك..؟
- ولماذا ؟
- لقد كان وجودك المستمر على لسان الطلبة في الكلية قد حفزهم جميعاً لاتخاذك قدوة حسنة في توجههم نحو المطالعة ..
- لكنني لم أتحدث الى أي واحد منهم ..
وصمت قليلاً.. ثم واصلت: ومنهن .
سرتني كلمة (منهن) وانا استدعي المرأة الى عالمي من دون ان اعد للأمر من قبل.. أكبرت فيّ شجاعتي وحذري كذلك .
تقدمت إحداهن وتحدثت بطلاقة :
- أنت صرت قدوة حسنة لنا.. صرنا نقرأ وباتت القراءة تمتع اوقاتنا هنا وفي البيت.
- تدخل الأستاذ :
- نريد منك مساعدة الطلبة الى كتب ترشدهم الى إغناء رسائلهم الجامعية .
- استاذ انا مازلت طالباً في الثانوية .
- هذا لايمنع من اختياراتك ومعرفتك
بالعديد من الكتب التي يحتاجون اليها في دراستهم ..
فوجئت بالطلب.. فيما كان من قبل يقدم لي عرضه بالاصغاء لطلبي ..
لم يشغلني الأمر كثيراً.. وإنما شغلتني تلك الأصابع وأنا اغادر المكتبة العامة منصرفاً الى بيتي ..
كان الطريق الى البيت يتخطى شوارع وأزقة عديدة.. قطعتها وأنا لا أحس بالتعب.. وإنما ينتابني شعور غريب لا اعرف مصدره، لكنني على يقين تام ان مصدر هذا الشعور السار لايمكن ان يتجاوز النشوة البالغة التي باتت اصابعي تعيشها منذ امسكت بأصابع
(الاستاذ) !
كانت بي رغبة ملحة في معرفة ما إذا كانت اصابع الاستاذ قد جرحت من مبرد اصابعي.. فيما كنت اعرف في الوقت ذاته بأن أصابعي قد اكتسبت رقة لم تألفها من
قبل ..
كان بها ترف ونشوة.. كانت اصابع تومئ وتشير وتباهي نفسها وقد أخذت من طبع الرقة الشيء الكثير.. واعطت من الخشونة للأستاذ بالشيء الكثير.. فأي عقوبة تستحق أصابعي الحمقاء ؟
كان الطريق يمتد وأنا أفكر بمعاقبة أصابعي، وتقديم اعتذاري للرجل.. فأي ذنب اقترفه وهو يمسك باصابعي محيياً .. ؟
هل أوقعت الرجل في ورطة، وجعلت من اصابعه حرثاً دامياً لايليق ان يفعله من هم أمثالي.. وممن يعد نفسه ان يكون مثالياً للانسان الذي لا يمكن ان يسيء الى
أحد ؟
بقيت طول الطريق افكر بالطريقة المناسبة التي التقي فيها الاستاذ لأقدم اليه اعتذاري نيابة عن ما جنته اصابعي ..
كنت قد تجاوزت بيتي واحلامي وواقعي.. كانت نعومة الأصابع تلك قد جعلتني ابتعد عن بيتي.. حتى إلتقاني صديق وسألني عن مساري..
تنبهت الى أنني قد أضعت طريقي.. وان الامر يقتضيني العودة الى منزلي.. وهناك سأقرر.. ما إذا كانت كلمة الاعتذار تكفي.. ام اتخاذ الصمت سبيلاً وموقفاً في عدم تكرار ما حصل.. وفي اعماقي كنت أمني نفسي بأصابع قدّت من حرير مع كائن آخر هو من طبع الرقة أصلاً.. أمني نفسي.. أمنيها فحسب ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى