نهاد عبد الملك‎ - حدث بالساحل.. قصة قصيرة

فى فجر أحد أيام الصيف الحارة، ومع أولى نسائم الصباح الباردة، بإحدى القرى السياحية بالساحل الشمالي .. خرجت سهى، وصافى لمزاولة رياضة المشي، مع أولى خيوط الضوء، وهى تشد قامتها أمامهما، كمن تفتح لهما الطريق .

سهى، وصافي صديقتان منذ الطفولة، على المستويين الشخصي و العائلي، وزميلتان بالدراسة أيضًا .. سهى لها أخت، و أخ، وصافى وحيدة والديها.

والد سهى زميل عمل لوالدة صافي، ومن هنا صار التقارب، والتعارف بين الأسرتين، على مدار أعوام طويلة، حتى عندما قررا الشراء بالساحل الشمالي، اختارا القرية نفسها، و اشتريا معًا !

وبينما سهى تتحدث، فإذا بصافي تصرخ فى هلع، مشيرة نحو البحيرة الصناعية.. توجهت سها بنظرها نحو البحيرة، فتجمدت مكانها .. كانت هناك فتاة ملقاة على الأرض، وبجانب رأسها بعض دماء، وعلى الفور اتجهت صافى نحو الفتاة، وتبعتها سهى فى خوف شديد ..

همت صافى بأن تنحني للإمساك بالفتاة، فبادرتها سهى : انتظري .. يجب أن نتحدث لوالدينا أولًا، لنعرف ماذا يجب علينا فعله ؟!
ولم تنتظر ردًا، و بدأت سهى بالفعل بطلب والدها، وكذلك فعلت صافى ..

ولأن والد صافي معتاد على الاستيقاظ مبكرًا، ليغنم بهواء الفجر الجميل .. فقد رد عليها، وطمأنها بأنه في الطريق إليها فورًا، أما والد سهى فكان نائمًا، وعندما مد يده لهاتفه، ووجدها تطلبه، انتفض من نومه، ورد عليها فى ذعر : ما الأمر؟ حكت له، وطلبت منه الحضور، فأسرع بإيقاظ والدتها فى عجالة، و توجها لها معًا .

وصل والد صافي أولًا، وتبعه والدا سهى، و اتفق الثلاثة على طلب وحدة إسعاف القرية، ثم التحدث للشرطة لاستبيان الموقف، ولإخلاء مسئوليتهم ..
أتت وحدة إسعاف مجهزة، وبالفعل قامت بعمل اللازم للفتاة، وأثناء ذلك بدأت الشرطة بمعاينة المكان، وجمع أى دلائل بالمنطقة تشير لماهية تلك الفتاة، أو ما حدث، فلم تجد أى شيء يدل على شخصيتها .

بدأت الفتاة تستعيد وعيها، وتفتح عينيها، لأول مرة .. ناظرة فى تعجب حولها، وهي تقول باستغراب : من أنتم ؟! ماذا حدث ؟!
بدأت الشرطة فى استجوابها، وكانت المفاجأة !!!!!!
الفتاة لا تتذكر أيًّا مما حدث، وحتى اسمها لا تتذكره، وليس معها أى شىء يفيد فى معرفة شخصيتها !

وهنا، بدأ تباين المواقف بين أسرة سهى، وأسرة صافي، ورجال الشرطة ..
الشرطة تشككوا بكلامها، حتى أن مَنْ استجوبها تحدث إلى زميله متهكمًا: سئمنا تلك التمثيليات.. هى إما هاربة من أهلها، أو أنها أتت مع أحد الشباب، وهو من رمى بها بتلك الحالة، فافتعلت فقدان الذاكرة، على أساس أننا سذج !!

أما والدا سهى، وووالد صافي فلم يكذبوا حالتها، و لكن تباين رد فعل كل منهم بحسب طبيعته، فوالدا سهى، نظرًا لطبيعتهما المحافظة، التى لا تنفتح على الآخرين إلا فى حدود، رأيا أنهما أديا ما عليهما، وليس عليهما سوى الانصراف، والعودة لحياتهما، بينما كان والد صافي على النقيض منهما .. منفتحًا كليًّا على العالم الخارجي، ووجد أنه على الجميع إلزام بمساعدة الفتاة، ومساندتها، بل واستضافتها أيضًا، حتى تنجلي الغمامة عن عينيها ، التي تفصلها عن حقيقتها، وشخصيتها .

ولكن لعدم اقتناع رجال الشرطة بالقصة كلها، فكانوا يميلون لغلق التحقيق إداريًّا، لولا تدخل والد صافي، حتى إنه احتد بالكلام معهم .. قائلا: ما حدث انتهاك لأمن، وأمان مَنْ يسكن القرية، ولابد من معرفة ما حدث .. ما اضطر الشرطة للمتابعة، وسؤال حراس البوابة، لتبين ما يعرفونه عن الفتاة، و كيف دخلت القرية، و مع مَنْ؟! فوجدوا أن الحارس في تلك الليلة أنهى عمله، وذهب فى إجازة لمدة أسبوع، وطبعا لاقتناعهم الداخلي بأنها كاذبة، ولعدم اكتراثهم بمعرفة أصل الحدث، اكتفوا بذلك، وانصرفوا، حتى يعود الحارس من إجازته لسؤاله.

وظلت الفتاة بضيافة أسرة صافي .. تعيش فى حزن شديد، وضبابية رهيبة، تكاد تكتم عنها استنشاق الهواء .
..............
فى مكان آخر بعيد، بأحد الأحياء الموجودة بأطراف مدينة الإسكندرية .. كانت تعيش أسرة الفتاة .. مكونة من ستة أفراد .. مستواها لا يرتقى لطبقة "متوسطي الحال"، رغم أن مدارات السواد حول دوائر أعينهم، الملتصقة بالأرض، بادية للجميع، فهى أسرة تجاهد لحفظ ماء وجهها فى أعين الناس، سواء زملاء عمل لمن يعمل منهم، أو زملاء دراسة لمن لايزال يدرس .
أعياهم البحث، والسؤال عنها لدى جميع الأقارب، والصديقات المقربات لها، والجميع ينكرون معرفة أي شيء عنها، أوعن أى مكان، يمكن أن تكون قد ذهبت إليه، يوم تغيبت عن البيت .
..............
وعلى مدار أسبوع هو إجازة حارس البوابة .. كان الحديث لا ينقطع بين أسرتي سهى و صافي .. كان والد سهى مصرًا على عتابه على أسرة الفتاة، وأنها تخلت عن مسئوليتها تجاه بنت بمثل هذا العمر .. كيف تركتها بدون معرفة ؟! وإلى أين تذهب ؟! و مع مَنْ ؟! والنتيجة ضياعها، وسط دنيا لا ترحم !
أما والد صافي فكان يصر على أن وقع الحياة تغير، و صار لزامًا على أى أسرة إعطاء قدر من الثقة، يتيح للبنت أن تتحرك، لتبني شخصية قوية، تكون قادرة على مواجهة الحياة، وتكوين أسرة مستقبلًا، وأن ما حدث لتلك الفتاة ماهو إلا استثناء لايحدث إلا نادرًا، وأنه لايزال هناك خير بالدنيا، وأكبر دليل هو وجودهم أنفسهم، ومساعدتهم الفتاة.
..............
عاد الحارس، وبسؤاله عن الفتاة .. أجاب : نعم .. أتت ليلتها، مع مجموعة من الفتيات، فى سيارة فارهة، تقودها فتاة من عائلة واسعة الثراء، تمتلك فيلا هنا بالقرية .. أتذكرها جيدًا، لأنه كان يبدو عليها الانبهار الشديد، وحتى انصرافي لم أر أيًّا منهن تخرج ..

وبسؤال الحراسة، التى تسلمت منه، أفادت بأن هذه السيارة خرجت بالفعل في وقت متأخر جدًا ..
تم استدعاء صاحبة السيارة .. حضرت مع محاميها، وأنكرت أى صلة لها، أو معرفة بتلك الفتاة، ورغم نبرة التكبر، والعجرفة، التى كانت تتحدث بها، واستفزت من يتولى سؤالها، فإن محاميها خرج بها من قسم الشرطة، بدون إثبات أدنى صلة لها بالموضوع، وباتت القضية تسير فى طريق مسدود !
..............
شقيق الفتاة، وأثناء عودته من عمله، ومروره من أمام مقهى بالشارع، حيث تسكن الأسرة .. اقترب منه عامل بالمقهى، وهمس له، بأنه شاهد صديقة أخته، التى تسكن أمامهم، وهى تخرج معها، منذ أكثر من أسبوع مساءً، وعلم اليوم فقط أنها متغيبة منذ تلك الليلة، ولا يعلم أحد أين تكون ؟!

عاد للبيت، وأخبر باقي أفراد أسرته بما قاله عامل المقهى، فقرروا الذهاب لها، وسؤالها، وبعد محاصرتها بالحديث عن خروجها معها .. انهارت باكية، وأخبرتهم عن القرية السياحية، التى تركتها بها، وأنها لا تعلم ما حل بها بعد ذلك ؟!
..............
توالت الأحداث .. وقفت تلك الصديقة أمام جهة التحقيق، لتدلى بأقوالها، وتسرد ما حدث بالتفصيل في تلك الليلة : الفتاة أقنعتها الصديقة بأن تذهب معها إلى حفل عيد ميلاد، لترى حياة الأثرياء، وكيف أن عالمهم يختلف تمامًا عما تحياه هى، وأمثالها، وأن صاحبة الحفل سوف تأخذهما وصديقاتهن بسيارتها، وتعيدهن بعد انتهاء الحفل .. وفعلًا ذهبت معها، ومنذ وطأت قدماها السيارة، صارت بحالة من الانبهار، حتى وصلن إلى القرية السياحية، وعندما دخلن الفيلا، فوجئت بوجود مجموعة من الشبان، ووجدت ألوانًا من المشروبات، والمخدرات، وبدأت صاحبة الحفل فعليًّا فى شرب بعض الكحوليات، فانتفضت، وصاحت في وجه صديقتها، تريد الانصراف ..

وهنا تدخلت صاحبة الحفل، قائلة باستعلاء للصديقة : لماذا أتيتِ لنا بهذه الحثالة الغبية من قاع المجتمع ؟!!
أثارت الكلمات، ونبرة التكبر الفتاة، فاحتدت بالكلام، وبدأ صوتها يعلو، فنشبت مشادة كلامية بينهما، ونبرة الاستعلاء تزداد، بفعل الخمر، فتدفع صاحبة الحفل بالفتاة فجأة، لترتد إلى الخلف، وتصطدم بمؤخرة رأسها في سار من الرخام، لتنزف بغزارة، وتقع مغميًّا عليها، لتعقب الموقف حالة من الارتباك، مشوبة بالغضب، وغالبية الحضور فى حالة من عدم الوعى التام !

بعد أخذ، ورد، قرر الجميع أن يرموا بها، بالقرب من البحيرة الصناعية، حيث لا يمر أحد هناك ليلًا، وينهون حفلهم، و ينصرفون باكرًا، وهم يلعنون من أفسد ليلتهم، فتخرج صاحبة الحفل من القرية .. مهددة باقى الفتيات بعدم نطق أى كلمة عن الموضوع نهائيا !

وبناءً على أقوال الصديقة، يعاد استدعاء المتعجرفة مرة أخرى، ليوجه لها اتهام بما حدث، ويتم تسليم الفتاة لأسرتها لمتابعة علاج حالتها ..
و يبقى السؤال : أيُّ الطرفين كان على حق: والد سهى أم والد صافي؟ وعند أى حد تقف مسئولية الأسرة ؟
أظن أن خير الأمور الوسط، وقليل من الحرية يبنى و لا يهدم .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى