رءوف جنيدي - حديث الغروب.. قصة قصيرة

على ضفاف نهره، وبين جفنيه، اصطفت مشاعره، وأحلامه .. حاملة أكاليل الزهور وأقواس الفرح .. فى انتظار قدوم ملكة قلبه، ومليكة إحساسه .

لاح له شراعها من بعيد .. يتهادى فوق صفحة مائه، وعلى مقلة عينيه .. تداعبه نسمات الرضا، وتلاطفه أمواج الأمل الذى ينشده معها .. ينساب موكبها كمواكب الملكات بين وصيفاتهن .. يزفها إلى قلبه تلك الثمار التى نبتت على عودها الغض .. معلنة اقتراب موعد الحصاد .. تبحر أمامه فى تؤدة ورفق إلى قلبه .. تلوح لها مشاعره، وأحلامه بكلتا اليدين، بل بدقات الدفوف وهدهدات القلوب .. مارة عبر شرايين حياته، وروافد اشتياقه ..
تحملها صفحة الماء بكل حنو ودلال .. تصافح بأجنحة بيض كأجنحة الملائكة كل من احتشد على ضفتيه من مشاعر تواقة، وأحلام مأمولة .

انساب موكبها برقة وعذوبة الماء، الذى يحملها ليستقر شراعها فى مرسى قلبه، حيث مرفأها ومستقرها .. أنزلها على شاطئ قلبه آخذًا بيدها لتخطو أولى خطواتها فى بهو قصرها ملكة متوجة .. تختال بين غرفاته، وشرفاته حينًا، وفى باحة معبدها، الذى طالما نادت عليها مآذنه، ودقت لها أجراسه، حينًا آخر، لتقيم فيه شعائر المودة والرحمة .. حافظة للود والعهد .

تلك هى ابنه عمه، التى مرت من أمامه، داخل ملاءتها السوداء، فلا يظهر حسن الضد إلا ضده .. حاملة جرتها فوق رأسها، وحاملة ثمارها فوق رؤوس الجميع .. رأى بنات قريته مستنسخات، ورأى الأصل فى ابنه عمه .. قرأ على وجوههن سطورًا من الحسن، ورأى فى وجهها كل الرواية .

ناداها .. استدعاها الى حيث مستقرها .. أجلسها فى إحدى غرفات قلبه .. جلست، والحياء يزين وجهها .. وضع يده فى يدها .. أغمضت عينيها .. بادرته قائلة : زوَّجتك نفسى .. قال : وأنا المتيم .. قالت : استودعتك مشاعري، وأحاسيسى .. قال : هما بين القلب، وشغافه .. قالت : وعلى عهد، ووعد بالمودة، والرحمة .. قال : وعلى سنه الله ورسوله .

أغمض عينيه، وقد عقد أصابع كفيه خلف رأسه .. مستندا إلى جذع شجرة، يتابع من تحتها دوران ساقيته، لتروى أرضًا جدبى، وقلوبًا عطشى .. اعتدل فى جلسته، وفتح عينيه، ليتابع قدورًا تتمايل فوق الرؤوس، وأجسادًا تتهادى داخل ملاءاتها السود .. متمايلة على عزف ساقيته، التى شاركته حلمه بموسيقاها .. عزفًا ينبئ عن جريان الماء فى روافد حبه، وجداول أمله .

عادت ابنه العم تحمل جرة مليئة بالماء، وقلبًا مفعمًا بالأمل .. عاقدا العزم على الوفاء، والإخلاص .. ألقت عليه نظرة .. مرت بينهما جبلًا من الصمت .. يحمل بين طياته أحاديث الصبا، والشباب .

أنهى أعماله، وعاد إلى بيته، فى نهاية اليوم، تداعب صورتها خياله .. عاد ليجد والده فى انتظاره، لزيارة عمه سعيًا فى الحلال، وإيذانا للمضى فى شرع الله بمباركة الأهل، ليعلو صوت هدير كل سواقى القرية، معلنًا جريان الماء فى كل القنوات، وليقرأ ابن العم، على مهل، فى وجه حبيبته .. كل الرواية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى