صفاء ذياب - قرائننا المستترة

(يقال أن أناساً خرجوا في سفر ومعهم دليل اسمه ابن سهم الخشب وضل الدليل الطريق فقال لمن معه": باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، قِفوا! نحن على حافة وادي عبقر!" وأشار إلى بطن الوادي، نحو كثبان رمل مقمرة وناعمة، وإذا بكائن، على هيئة إنسان، يسوق ظليماً "ذكر نعام" مربوطاً من خطمه بحبل من الكتّان. كان مُقبلاً من عمق الوادي، فاستوحشنا منه، وحتى الإبل بدأت ترغي وتتراجع بنا إلى الوراء. ومرق قريباً منا.
كان أطول من الناقة، ورأينا ظهره عارياً، وفيه نمش أخضر، مثل طحالب تتشعّب على سطح ماء آسن، فارتعبنا. وقف بعيداً عنا، وتلفّت نحونا، وحدّق فينا مدة جعلت فرائصنا تنتفض، ثمَّ قال للدليل: "يا ابن سهم الخشب: من أشعر العرب؟" كان الدليل خائفاً فلم يُجب. فأكمل: أشعرهم من قال:
وما ذرفتْ عيناكِ إلاّ لتضربي بعينيكِ في أعشارِ قلبِ مقتـلِ
فعرفنا أنّه يقصد (امرؤ القيس)، فقال الدليل: "باللات والعزى ومناة الأُخرى، مَنْ أنت؟"، ورجع إلى الوراء حتى كاد يقع. فقال: "أنا لافظ بن لاحظ، من كبار الجنِّ، لولاي لما قال صاحبكم الشعر!" ومضى، مقهقهاً).
لم يتوقف العرب عن ذكر وادي عبقر وما فيه من الجن الذي يؤرق الشعراء حتى يكتبوا ما يمليه عليهم، فلكل شاعر قرين من الجن، لا يتمكن من كتابة بيت شعري واحد من دونه، فقرين امرئ القيس (لافظ بن لاحظ)، وصاحب عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خارم الأسدي (هبيد بن الصلادم)، وصاحب النابغة الذبياني (هاذر بن ماهر)، وصاحب الكميت بن زيد (مدرك بن واغم صاحب)، وصاحب الأعشى (مسحل السكران بن جندل)، وهكذا حتى آخر شاعر كان يكتب ما يمليه عليه القرين والصاحب.
ربما كانت للعرب فلسفة خاصة في إثبات ان ما يكتب من إعجاز في الشعر لا يأتي من بشر، فجعلوا لكل شاعر قريناً من الجن، وهو ما كانوا يؤمنون به، وبعض الروايات تؤكد؛ حسب ما جاء في السير الشعبية، ان الجن كان مرئياً، يعيش بين البشر، ويتزوج منهم، ويلد كائنات تجمع بين الإنس والجن، وبهذا فسَّر العرب قوة بعضهم، مثل سيف بن ذي يزن، وعنترة بن شداد، وأبي زيد الهلالي، وغيرهم الكثير، حتى جاء الإسلام، ففصل بين العالمين.
الجن مستترون عن الإنس، لكن الإنس مكشوفون للجن. هذه هي المعادلة التي من الصعب إدراكها؛ حسب التفسير العقائدي للدين، لكنها في الوقت نفسه تكشف عن وجود عوالم لا نتمكن من إدراكها، مثل الكتابة، وكيفيتها، وما الذي يجعل كاتباً يستخدم هذه المفردة دون أخرى، ولماذا علينا أن نكتب؟ أما زلنا نعيش في وادي عبقر؟
ربما تصحُّ هذه الأسئلة لدى بعض الكتاب، ولا يمكن أن تنضج لدى آخرين. ما نراه الآن؛ في الرواية على الأغلب، اننا نقرأ عوالمنا التي نعيشها، لكن السؤال الأهم: أين هي عوالم الكاتب؟ أين قرينه الذي لا يفارقه؟ أين المفردات التي لا يتمكن إنسان آخر؛ أيُّ إنسان، من استخدامها إن لم ينحتها هو؟
هل مات لافظ بن لاحظ؛ قرين امرئ القيس ولم يلد قريناً لشاعر آخر بعده؟ وهل هاجر الجن من وادي عبقر ولم يبق منه سوى حجارة لا تكفي نفسها؟


* عن صحيفة الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى