صفوت فوزى - همس الحيطان

صغارًا خفافًا نطير إليها ممسكين بأيدي الأهل والصحاب. نداوة خفيفة ترطب نسماتٍ قادمةً من ناحية النهر، ونحن نعبر الطريق الترابي المرشوش. طيور الهدهد تحجل أمامنا وديعة حذرة والبلابل تحلق صادحة في فضاء مفتوح. البوابة الخشبية الكبيرة تئن تحت وطأة رؤوس المسامير الضخمة الصدئة تثقب لحم صدرها، مفتوحة على الفناء الداخلي، حضن وسيع يبتسم في وجوهنا. شجرة الجميز العجوز تقف شامخة مورقة تفرش ظلها بساطًا للوَنَس والسكينة للعابرين اللائذين بحضنها من وقدة الظهيرة. الباب الداخلي يجبر العابرين على الانحناء بقوسه الحجري نصف الدائري. بابٌ صغيرٌ يعمِّق لديك الإحساس بالتواضع عند اجتيازه، ويمنحك دفءَ الاحتضان. درجاتٌ قليلةٌ من حجر أبيض ناحل يهبطها الداخلون. تتسع حدقتا عيني في العتمة الخفيفة الموحشة وتغمرني رائحة بخور.

بهاء الاتساع وجلال العلو، الهمهمات واللغط والتنادي، التراتيل القادمة من عمق سحيق، صدح الناي ونفخ العازفين في المزامير، إنشاد الصنوج وترداد الألحان الضاربة في عمق الزمن، التاريخ المسكون في هذه الأقبية ودفء احتضان الداخل، جليلًا مهيبًا يصيب القلب. أصير خفيفًا رهيفًا مسحورًا طائرًا. أغمض عيني لأحفظ بذاكرتي رائحة المكان.

السقف مُقبَّب عالٍ مرصَّع بنجوم تبرق في صفحة سماء زرقاء. أتأمله مفتونًا. أتحسَّس زرقته تحت لساني، تذوب كندف قطن لا وزن لها. تحت السقف مباشرةً، كوى زجاجية لا ضلف لها. تتوزع ألوانها بين الأبيض، والأزرق، والأخضر، والأصفر، والأحمر. يتقطر منها سيال من ضوء ناعم يغمرني الآن، يغسلني، يتضوع عبيره في الأركان والزوايا. الشموع القليلة التي تحترق بصمت أمام الأيقونات الخشبية العتيقة، لا تكاد تنير المكان. رائحة اشتعالها، حس الرهبة وجلال هذا الفراغ الذي ينداح أمامي قادمًا من أزمنة سحيقة، يتسلل إلى الروح ولا يغادر.

أيقونات خشبية تحتضنها أقبية غائرة في الحيطان. تجاعيد الزمن محفورة في صفحتها المعتمة. تتمايل على سطحها المسود أشعة الشموع الصغيرة فتنبعث فيها حياة نابضة بالألم، لكنها لا تقهر. أكاد أسمع ألوانها كما أراها.

أرهف السمع وأذناي وقلبي وجوارحي مأخوذة بهذا البهاء اللامتناهي لا تستطيع عنه تحولًا، ولا تملك منه فكاكًا. تترى أمامي صورٌ لآلاف العابرين والمغادرين. نفوسٌ استبد بها الوجدُ فانطرحت أرضًا ساجدةً مستنجدةً، عيون محتقنة بالدمع، وعيون يطفر منها الفرح والامتنان، ووجوه كثيرة متشابهة مطرقة لا حزن فيها ولا فرح، أولئك الذين دلقهم الخوف في العتمة السارية.

وكأنني في الصمت الرابض أسمع همهمات مكتومة لا أتبين مصدرها. نهنهة رجولية مقهورة تخشى الإفصاح، تنتزع من روح لا تجد راحة ولا عزاء. لا تني ترجف بالدعاء والابتهال. صوت نسائي مخنوق بحشرجة البكاء، مذوب في الحنين، ذائب كلحم الشموع الذي ينز تحت وطأة اللهب. يصدر عن نفس منحنية وروح منكسرة. تلهج بإلحاح فيتقطر صوتها الملتاع، ويجتاحني أول البكاء.

في صدر القاعة من جهة الشرق تنتصب وقورة يحيطها الجلال. يبهجني منظرها في ارتعاشة ضوء الشموع. يتحلقون حولها. جباه مرفوعة مستسلمة لهبات النسيم ولفحات ضوء الشموع. قلوب وجلة تخفق خاشعة. حفيف أثواب وعيون محدقة. حط عصفور على نافذة قريبة وبدأ بالشدو. تنفرد الأيادي بأصابعها العشرة أمام الوجوه في ابتهال قدسي طويل، والعيون مغمضة. يربطها بالأيقونة وبالسماء خيط خفي. المناديل الملونة معقود بها طلبات المحتاجين وأنَّات المحرومين والمعوزين معلقة على الأيقونة وفوق الحبال الممدودة على الجدران. سحبة قوس على ربابة تتناهى إلى سمعي، يشرئب لها قلبي. دفقة من نسيم. يهتز نور الشموع فتتأرجح الظلال، وتهب أصداء فرح وتوجع. أشم رائحة دفء الأرض سامعًا صوت أنفاسي يتهدج، ولا أدري من أين ينبع كل هذا الشجن.

● ● ●

دارت سواقي الوقت، وأقبلت السنون لها مذاق راكد. تغيرت الدنيا فلا الصباح صباح ولا الليل ليل. نكبر فتضيق بنا الطرقات. الآن الشارع خالٍ. غبار في الأفق، وحَرٌّ، وكلابٌ تلهو. اختفت البيوت القديمة الطيبة المفروشة بالظل والحنين. ضاع الخضار في الغبار وبيوت الأسمنت القبيحة. اختفت الهداهد والبلابل. كانت أعشاشها في الأشجار، ماؤها قريب وخيرها عامر. الأرض التي أمشي عليها الآن لا تعرفني. تنكرني الأماكن. أقدامي كأنها لا تعرف هذا التراب الذي صار كالحًا لا صفاء فيه.

أؤوب إلى المكان الذي تعلق قلبي به. زحف الإهمال إليه وحاصره. يفجعني اختفاء الجميزة العجوز. الحيطان تغيرت. تاهت ملامحها الداخلية. ضاع الأصل الذي كان. أجوب بنظري على السقف والحيطان، أتابع البقع التي كونتها الرطوبة والأيام. رائحة عطن واضحة، تصدر عن حوائط متهالكة متشققة. أخلاط أصوات ووجوه متجهِّمة حزينة ضاعت من ملامحها الفرحة. الأيقونات العتيقة اختفت. ما أراه الآن محض صور ممسوخة لا حياة فيها ولا روح. العتمة الندية انتهك سترها. صار المكان باردًا فاقد الحس. بدا كامرأة مسنة بيضاء الشعر محنية الظهر شاحبة الوجه تفيض ألمًا ولا تبوح. أغوص في حنين أسد به شروخ ذكرياتي. كأني أريد الآن أن أبكي حتى أخفف من هذا التوتر الحزين الذي لا أعي مصدره. أسير كمن ضرب على رأسه. أدرك الآن أني كبرت، وأن الأماكن أيضًا تشيخ، تمرض، تحزن، تبكي، ولا أحد يسمع بكاءها.

-----------------------

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى