محمد عبدالوكيل جازم - زنازين إضافية للشباب

أفقت من الغيبوبة ملبيا نداءات الجروح التي تملأ جسدي، حاولت النهوض فباشرتني فقاعه كبيرة امتدت بين الجزء الأمامي من صدري والجزء الخلفي.. عدت.. استلقيت ثانية إلى إن تلاشت الفقاعة.. أحسست بالأرضية الترابية للمكان.. أخذت بيدي اليسرى حفنة من التراب وذروته بصعوبة. حاولت أن أعرف أين أنا؟ فعّلت حواسي الأولى والثانية والثالثة.. والسادسة ولكن كلها تكللت بالفشل.

شعرت أنني إن لم أفق ربما واجهت عواقب مجهولة. كنت كلما حاولت حمل جسدي كبوت في المكان المظلم مثل عجوز أكل الدهر عليه وشرب. ثمة دماء غالية تسيل إلى التراب الأسود خارجة من ثقوب متفرقة في جسدي.. تنهّدت لأن المكان المغلق لا يسرب أصوات ولا أضواء ولا أنسام باردة.. وفجأة يتحول الظلام إلى شفرات حادة تغزو مجاهل النفس.. وكلما حاولت الحركة تدفقت الدماء من هنا وهناك ولا شيء يتلقفني سوى الخوف من الظلام.

ينتفض قلبي كثيرا كلما أحس بالوحدة. عقلي يجيء ويذهب كخروف تحد السكاكين له في مكان ما.

نهضت ولا شيء في خيالي سوى الأضواء المفقودة والألوان المتلاشية ومشاعل النار التي تبدو لي وكأنها تمتد إلى اللانهاية. كبر السؤال في أعماقي المنهكة: أين أنا؟ حاولت تلمس الاتجاهات فوجدت جدرانا حجرية.

بالكاد عاد لي عقلي الذي شعرت أنه انخطف مني لفترات طويلة

***

يا الله أين أنا؟ أين أنا يا إلهي؟ يا رب قلي أين أنا.. أرجوك؟ وأخذت أرفع يدي وألهج بأدعية وتضرعات مختلطة بالرعشات والأخطاء حيث أنني لم أكن أفكر بالكلمات. يقينا إن الله ينظر إلى قلبي.. آه تذكرت، لقد كنت في مظاهرة أكاد أرى المشهد الآن كنا أنا ورفاقي نحاول الوصول إلى قصر الرئاسة من جهة الجنوب وفي المقابل كان جنود النظام مدجّجين بالأسلحة ثمّة من يحمل بنادق الآر. بي. جي. وثمة من يحمل القنابل الانفجارية والانشطارية وثمة من يتمنطق قاذفات الغاز السام وجميعهم يحملون الهراوات الخشبية. والكهربائية ويتقدم ذلك الرتل جنود المتاريس الزجاجية الذين تتغطّى أجسادهم بدروع واقية للرصاص.. أطلق الجنود الرصاص الحي باتجاهنا.. انبطح رفيقي «سمير وغفور» على الأرض وبقيت أنا. كنت أريد أن أختبر شجاعتي أمام المغرر بهم، ولكن ذلك الاختبار سمح بمرور رصاصة فوق رأسي تماما وبقدرة قادر لم الرصاصة أن تثقب رأسي العنيد وإنما لحست فروته.

نعم أيها السادة.

لقد كنت في مظاهرة وأنا الآن شهيد وهذه الحفرة الترابية ما هي إلا قبري لقد دفنت بثيابي الدامية كعادة الشهداء.

ما يحيّرني هو أنني حي، أطلب الغفران يا الله ألم تقل في كتابك الحكيم «بل هم أحياء عند ربهم يرزقون». لا يمكنني عمل شيء الآن سوى أن أغمض عيني وأنام. الوساوس تشغلني والخوف يقضم نومي كلما حاولت ذلك.

***

تلمست الجدران ثانية، رفعت يدي المثخنة بجراحها إلى الأعلى قاصدا تحسّس سقف الحجرة كنت أريد أن أقنع نفسي بأنني لست في قبر وإنما في حجرة أو كهف أو في مكان بعيد عن الأرض.. حاولت تحريك بنطالي الناشب في إحدى الجراحات، فلم أستطع تفريقهما. صرخت:

- «أأأي ييي» صرخة قوية لكنها ضائعة.

بدأت أتذكر صور كثيرة ما كنت لأصل إليها قبل دقائق لأن الشروخ الجسدية التي تملئني وصلت إلى أجزاء كثيرة في الدماغ. دمي صار يجري في مناطق مختلفة تحت الجلد ويكاد يصل صدغي وذقني وربما تسرّب إلى عيني، ثمة إصابات بالغة لا أعرف مدى فضاعتها..

«اللعنة».. لو كانوا رجالا لعرفوا أن المعركة في الميادين وليست في الكهوف والزنازين. قلت ذلك معتقدا أنني على قيد الحياة على الرغم من أنني أودّ الشهادة. أشد ما يؤلمني الآن هذا المكان المتواري عن السماء والأرض وكصياد ماهر فتحت قرون الاستشعار والمجسات المتعلقة بالفراسة ولكن لا فائدة.

***

حلقت الذاكرة في مكان آخر. تريثت عند تلك اللحظات التي لبينا فيها نداء المنصة في ساحة التغيير.. المنصة التي طلبت منا الخروج في مظاهرة الثلاثاء، قال سمير وقد تقابلنا أنا وهو وجها لوجه:

-»هيا إنه داعي الثورة!

تقاطرنا إلى وسط الساحة ثم تنافسنا على الخطوط الأمامية كل واحد منا يفضل أن يذوق طعم الشهادة أولاً وقبل رفيقه ثانيا. لا نتسلح بشيء سوى خرق متعددة لبسنا بعضها بعد أن كتبنا على صدورها «مشروع شهيد» أما الخرق الأخرى فليست سوى أعلام وطنية وشعارات تنادي بإسقاط النظام.. ما أسرع الانخطافات التي راحت تغزوا ذاكرتي.

الآن أرى كل شيء، كأن شاشة سينمائية انفتحت على الجدار المظلم لكنها لم تلبث حتى تشوشت وانطفأت حيث اشتعلت في المكان أصوات غريبة ميزتها فيما بعد بأنها مشاجرات حادة بين جراذين.

من بين الجراحات الجسيمة فكرت أن أحرّك يدي لتلامس الجرح العميق الذي يأكل رأسي. شعرت بأقصى درجات الألم وأنا أتلمس الخط الدامي في رأسي كاد الأنين ينطلق من فمي لكنّي تريثت. عندها فقط سمعت أزيز باب، أعقبته همهمات خافته. حبست أنفاسي. غاب كل شيء من عالمي قال أحدهم من وراء الظلام:

«في هذه الزنزانة سبعة شبان وفي هذه الحجرة أحدهم جلبه الضابط أحمد مساء أمس وما أريد أن تعرفه هو أن هذا المكان سريّ للغاية لا أحد يعرف عن هذه الزنزانة شيء. نحن الآن تحت الأرض. أنا وأنت والضابط أحمد نعرف هذا المكان فقط.هل فهمت؟ كل هؤلاء الآن في استلامك حتى يأتي الضابط».

بعد دقائق ضاعت الأصوات تحولت إلى ما يشبه الأصداء المتداخلة وفجأة انفتح بابي. انطلق بعده صوت كالرصاصة:

- أيها الكلب، هل أنت حيّ أم ميت؟

بالكاد تجاسرت وفتحت عيني الوجيعتين. أظنّني شاهدت إضاءة رخيصة لم أستطع تحديد مصدرها ودون أن أدري انطلق من فمي أنين رجل مات قبل سنوات»آآآآ» دخل الجنديان إلى المكان الضيق وحاولا مساعدتي على النهوض. قلت لهم:

- أين أنا؟ وأردفت دون أن أرد:

- أنا جائع

في اللحظة التي كانوا يحملونني بها سقطت على الأرض. كدت أبكي لكني تماسكت. قلت لهم

- لا أرى شيئا.

وبدلا من محاورتي ردوا عليّ بضحكات هازئة.

أرجوكم أخرجوني من هنا. قال أحدهم «لننقله إلى الزنزانة رقم واحد حيث الإضاءة».

قال الآخر: هيا إذن.

حملوني، عبروا بي عنبرا طويلا، ثم فتحوا بابا وقذفوا بي إلى الداخل. قدّم لي أحدهما ثلاث كدم وقارورة ماء ثم مضيا وهما مسروران. أكلت ما وضعه الجندي ونمت وعندما صحوت سمعت أحدهم يتحدث إلى آخر في الخارج:

كنا قد أغلقنا هذه الزنازين قبل سنوات بسبب الأفاعي التي قتلت الكثير من المساجين. قال الآخر:

ولماذا أعدتم فتحها؟

لأن هؤلاء الشباب لا يستحقون سوى سموم الأفاعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى