نوال الحلح - عتبات الرواية: انزياحات عن التعيين باتجاه الترميز والإيحاء.. التجربة السورية نموذجاً

العنوان هو زبدة النصّ وخلاصته، الكلمة/ أو العبارة التي تكون في البدء، وتبقى في الذاكرة عند المنتهى، العنوان عبارة/عتبة توضع فوق الباب لتومئ إلى المجهول الكامن خلفه.

وبسبب أهمية العنوان وخطورة الخلل فيه، فإن مسألة العنونة كانت، وما تزال، مسألة إشكالية عند المؤلف، يقول سليم بركات في كتابه «التعجيل في قروض النثر»: «العنوان مسألة غامضة. قد يصلح هذا العنوان لكتاب ما، وقد يصلح له عنوان آخر. كلنا يقلب جملة من مفاتيحه على باب النص، واحد منها يماثل قفل الرؤيا. واحد هو خيارك المطمئن، خطأ أو صواباً، إلى أنك استوفيت السهم اندفاعاً إلى صميم حبرك».

وللعنوان وظائف عدّة منها: التعريف والإغراء والتشويق والتسويق، وكان جيرار جينيت، قد اختصر هذه الوظائف ضمن ثلاثة مصطلحات شاملة هي: التعيين، وتحديد المضمون، وإغراء الجمهور. وبهذا يكون الهدف الأول من ابتكار العنوان هو تحديد كتاب بعينه، لكي يتميز من باقي الكتب، ثم يأتي الهدف الثاني وهو: الوشاية بالمضمون وتكثيف حضوره، وأخيراً جذب القارئ بعنوان يكون هو الفخ/الغواية التي تقنعه بالقراءة، ولذلك يكون على المؤلف صنع توليفة من هذه الأهداف من أجل الخروج بنتيجة جامعة ومقنعة له أولاً، وللقرّاء ثانياً.

اختلفت طريقة العنونة في الروايات الصادرة خلال العقود الأربعة الماضية عن طرائق العنونة في الرواية التقليدية، وغدت، غالبيتها، تميل باتجاه الشعرية والانزياح البلاغي، بعد أن كانت تميل للتحديد، والتوضيح، واختزال النصّ الأدبي ببضع كلمات.

الكناية والمجاز

هذا ما نلحظه بوضوح في عنوانات الروايات التي سنتناولها، بناء على التساؤل حول الكيفية التي يتم فيها تلقي العنوان؟ وهذا ما سيجعلنا نركز على الحفر في خفاياها، والتوقف عند بعض التغييرات التي طرأت على طرائقها في تعيين النصّ التابع لها. عند استعراض عناوين الروايات التي تناولناها في بحثنا هذا، ومن أجل سهولة التناول سنصنف العنوانات التي بين أيدينا ضمن نوعين:

الأول: يضمّ العنوانات الموضوعاتية التي تعتمد على مضمون النصّ، فتختار شعاعاً من أحداثه أو عباراته أو اسماً من شخصياته لعنونة الرواية، وتُجلي بذلك التوجهات المركزية للنصّ الأدبي. وهنا يتم الاكتفاء بالدلالة المعجمية المباشرة لنصّ العنوان، ومن أمثلة هذه العنوانات: «بريد عاجل» خليل صويلح، «قصر الطين» عبد الناصر العايد، «رائحة القرفة» سمر يزبك، «الدفلى» ماري رشو، «عاهرة ونصف مجنون» حنا مينة. هذه العنوانات تلخص الثيمة الأساسية التي تتناولها الرواية.

وتنفرد بعض العنوانات بعلاقة وصفية مع تخصيص بأل التعريف، التي تحصر الرواية في ثيمتها الأساسية، ولا تترك أي خيارات للتأويل مثل روايتي فواز حداد: «المترجم الخائن» و«الولد الجاهل»، فتكون بذلك خصّصت موضوع الرواية ضمن مجال واحد، ثم حصرت هذا المجال بشخصية محدّدة هو الشخصية الأساسية فيها.

وهنالك روايات وشى عنوانها الموضوعاتي الذي يستعير اسم إحدى الشخصيات بأسلوبها التقليدي في التعامل مع التقنيات الفنية، مثل: رواية «لولو» عبير إسبر، ورواية «راحيل» زاهي نوفل. وقلة هي العنوانات التي تعتمد على كلمة تدل على جنس الرواية ـ أي عنوان يتضمن تحديد استراتيجية الرواية مثل: خواطر، أو تأملات، أو مشاهدات ـ وبين أيدينا رواية من هذا النوع هي رواية «يوميات يهودي من دمشق» لإبراهيم الجبين. هذه العنوانات تحيل مباشرة إلى ثيمة الرواية الأساسية من دون انزياحات مجازية بارزة. وهنالك بعض العنوانات التي تعتمد بعض الكناية والمجاز من دون أن تصل إلى مستوى الترميز المراوغ، مثل: «ورّاق الحب» لخليل صويلح، الذي يجعل من عنوان نصه نصاً متعالقاً مع روايته حيث تكون الشخصية الأساسية في الرواية ـ وهي السارد ـ تقوم بجمع ألمع النصوص التي تدور حول موضوع الحب.

وكذلك رواية «هجرة السنونو» لحيدر حيدر، التي يُكثف عنوانها وجع الرواية الأساسي وهو موضوع الهجرة أو التهجير وغربة المنافي، مع تحميل كلمة السنونو بعداً مجازياً يشي بتعلّق السارد ـ الذي يسرد بصيغة الأنا سيرته الذاتية في الرواية ـ بالبحر. وعنوانات حيدر عادة ما تكون إشكالية مثل شخصيات رواياته، ولا تكون صريحة أو كنائية بسيطة ـ مع استثناءات قليلة مثل روايته الأولى «الفهد» ـ بل عادة ما تكون متشعبة الإيحاءات مثل: «غسق الآلهة» و«مرايا النار» و«وليمة لأعشاب البحر» و«شموس الغجر» و«الوعول».

التضايف والتناصّ

ومن العنوانات الإشكالية التي تعدّ عنواناً موضوعاتياً، إلا أنها تحمل مجازاً استعارياً قائماً على التناصّ المباشر مع نصّ الرواية، عنوان رواية محمد أبو معتوق «طيور ورقية» حيث يتناصّ العنوان مع السخرية المبطنة، في الفكرة التي يقترحها كبير المحرّرين في الجريدة المحلية الوحيدة، وهي كتابة مقالين في كل يوم أحدهما منافق كاذب، نشره مسموح، والآخر حقيقي صادق نشره ممنوع. ولكي لا يُتلَف هذا الأخير، يقترح أن يُطوى على شكل طائر ورقي، ويرمى من فوق سطح بناء الجريدة.

والملاحظ أن غالبية العنوانات التي بين أيدينا، تعتمد على التضايف الذي يطبع علاقات الإسناد فيها، وتغلب على باقي الصيغ النحوية في عنوانات الرواية السورية، مثل «قصر الطين» الذي يتناصّ بشكل غير مباشر ـ غير مقصود على ما أظن ـ مع عنوان رواية ممدوح عزام «قصر المطر» والفرق بيّن بين عنواني الروايتين ففي الوقت الذي تتناصّ فيه رواية «قصر الطين» بشكل صريح ومباشر مع مضمون الرواية الذي يدور حول قصور مملكة ماري الطينية وصناعة الطين. فإن عنوان رواية ممدوح عزام «قصر المطر» يفارق التناصّ المباشر، باتجاه الانزياح المجازي الذي يحتمل الحفر بحثاً عن دلالات كامنة في الرواية التي تؤرخ للأمكنة والإنسان ضمن تشعبات معقدة، لا يشكل العنوان فيها تناصّاً موضوعاتياً مباشراً بقدر ما يزيد من إشكالية تأويله.

المراوغة والإغراء

الثاني: عنوانات تعتمد على تراكيب بلاغية مراوغة، ذات محمولات شعرية متعددة الدلالات، وأهم تلك الدلالات يتعلق بالمعنى المُرجَأ الذي يَعِدُ ولا يفصح، ويقوم بوظيفة الإغراء هذه الوظيفة اهتم بها مؤلفو الأدب لأنهم يفترضون سلفاً بأن قارئ الرواية هو متذوق للأدب بالضرورة. ولذلك فإنه سيحتفي بعنوان مجازي، أكثر من احتفائه بعنوان موضوعاتي صريح: ومن أمثلة هذه العنوانات: عنوان رواية سليم بركات: «السلالم الرملية».

هذا العنوان المراوغ، لا يطابق النصّ المراوغ بدوره، ولكنه يتعالق معه من ناحية معنى افتراضي ممكن، يحتمل تعدد القراءات التي ستأخذه بأكثر من اتجاه. وأحد هذه المعاني الافتراضية التي لا تطابق بالضرورة ما أراده الكاتب من اختياره، هو تجسيد حالة الضياع واللا جدوى، فالسلالم لا تُصنع من الرمل، ولا توصل إلى أي مكان، ولا أمل يرتجى منها في حمل أحد ما ومساعدته في الارتقاء، ولذلك فإن الباحثين في الصحراء عن دلائل النبوة يتوهون فيها، ويموت بعضهم، والمنتظرون لنبي سيأتي على العشاء يقعون في فخ الانتظار العبثي، والتساؤلات التي لا تحتمل إجابات منطقية. وعلى عادة سليم بركات في خلخلة اللغة، يقدم عنوان روايته بصيغة التركيب الرمزي الواصف الذي يقوم على ملازمة الصفة للموصوف أي إنه يوحي بأن النصّ الروائي هو سلالم رملية إلى هذا المجهول المنتظَر الذي لا يمكن الوصول إليه عبر سلالم مصنوعة من الرمل. أما عنوان رواية هاني الراهب: «رسمت خطاً في الرمال» فهو عنوان إخباري تناصّي بامتياز أي أنّ علاقته بالنص الذي يعنوِنه هي علاقة مباشرة، حيث تحتوي الرواية على عبارة «رسمت خطا في الرمال» تقال على لسان الرئيس الأميركي: «لقد رسمت خطّاً في الرمال، وأريد لهذا الخط أن ينحفر عميقاً ويمتد حتى الأناضول والبحر العربي»، أثناء شرحه لخطته في الاستيلاء على النفط العربي، والتحكم بميزان القوى في المنطقة العربية عن طريق رسم الحدود بين الدول العربية، كما يُكثّف هذا العنوان مقولة الرواية التي تتناول أثر النفط في حياة العرب، بسبب الأطماع الخارجية التي تريد رسم خط في الصحراء يفصل العرب عن أماكن وجود البترول وعن الماء أصل الحضارات بحيث لا يستطيعون الوصول إلى الحضارة، وبالتالي التنمية والقدرة على إدارة الموارد. ويحمل العنوان دلالات مؤجلة يمكن اكتشافها بعد القراءة، ولكنه في الوقت ذاته لا يحتاج إلى الكثير من التأويل لفك شيفرته بل هو عنوان يحمل من الإيحاء/الإغراء ما يحفز القارئ على الاستكشاف، مثلما تغري الغلالة السوداء الشفافة الناظر بما تحمله من متع مؤجلة، وهكذا تكون وظيفة هذا العنوان، هي الكشف وليس الستر، ولكنه الكشف المؤجَّل، صاحب الوعد بالمتعة القادمة.

التأويل والغموض

أما رواية عادل محمود «إلى الأبد ويوم»: فعنوانها مراوغ يحتاج إلى الحفر والتأويل، لأنه ينطوي على إشارات عدة، فالإشارة الزمنية إلى مدة طويلة غير منتهية هي إلى الأبد ، ثم العطف عليها بفترة زمنية محدودة ويوم ، فيها ما يتشابه مع عنوانات نصوص الآخرين، فهو يقارب العنوان المعروف ألف ليلة وليلة والعنوان الذي اختاره هاني الراهب لروايته: «ألف ليلة وليلتان» وهذان العنوانان يعتمدان إيحاء مركزياً، يقوم على الأمر الذي استمر زمناً طويلاً على النمط ذاته، ثم فجأة أخذ يتغير، فبالنسبة إلى شهرزاد بدأ التغيير في الليلة الأولى بعد الألف، حين كف عن قتل النساء بعد التطور الذي أحدثته حكايات شهرزاد في طريقة رؤيته للأمور. أما عند الراهب فقد كان العنوان «ألف ليلة وليلتان» يشير إلى استمرار زمن الليالي الشهرزادية المتسمة بالاتكالية والرتابة مدة طويلة قبل أن يطرأ التحول المهم الذي رآه هاني الراهب عند بدء الكفاح المسلح وتدريب الفدائيين بعد هزيمة حزيران، للدلالة على بدء زمن مغاير كلياً للزمن الذي سبقه. وهكذا تلتقط رواية عادل محمود «إلى الأبد ويوم» الإيحاء الخفي لزمن سيبدأ بالتحول، ويشرِّع التأويل على مداه الأوسع بحيث يجوز لكل قارئ افتراض المعنى الذي يريد، فقد يكون المعنى رمزاً إلى الزمن الجديد الذي تبدؤه «كسّارة البندق» بعد خلاصها من بؤرة متسلقي السلطة، واستعادتها لصوتها الذي فقدته من جرّاء قبولها الخوض في هذا الفساد. كما قد يكون المعنى مفتوحاً على تأويل آخر يخصّ النصّ المفتوح على نصوص الآخرين، وحكاياتهم التي تهمل الأزمنة وتحتفي بالفكرة والحكاية التي تصلح لكل زمان ومكان بسبب اتساع إنسانيتها. وفي جميع الحالات يصعب تحديد تناصّ واضح بين نص العنوان ونص الرواية، لا سيّما أن عدداً من الروائيين أخذ يتجه إلى العنوان العام الذي لا ينطبق بالضرورة على روايته، ولا يفسرها بل يكتفي بمحاذاتها، ورشّ وابل من الغموض حولها، مبرّراً ذلك بأن الواقع المحيط أكثر غرابة وغموضاً من أن تحيط به الكلمات.

جرثومة الطمع والاحتكار

ومن العنوانات الإشكالية كذلك عنوان رواية سمر يزبك «صلصال»: هذا العنوان ذو الكلمة الواحدة يثير التشويش أكثر مما يوحي بالاطمئنان. وربما تتحقق فيه الوظيفة الإغرائية بوضوح حيث إن الصلصال يوحي بالمادة الخام القابلة للعجن، والقابلة للتحوّل من حال إلى حال ومن شكل إلى آخر. والقارئ للرواية سيستمتع بتجلي العنوان في النصّ، كلما تقدّم أكثر في القراءة، لأن ثيمة الرواية تدور حول انتقال الروح عبر الزمن، وتناسخها، وتجليها في جسد جديد مختلف في كل حياة، وهذا يحقق الغاية المستترة للمؤلفة من رمزية الرواية الموحية بتناسخ القاتل والقتيل عبر الأزمنة، وجدلية مطاردة كل منهما للآخر، من حياة إلى أخرى.

أما عنوان رواية حيدر حيدر «مراثي الأيام» المكوّن من الجملة الاسمية القائمة على علاقة الإضافة من حيث الصيغة النحوية، فهو يعتمد التشبيه لتوسيع مدى الدلالة، فالرثاء لا يخصّ شخصاً، بل يخصّ أزمنة مختلفة، تحتفي بالعنف وبجرثومة الطمع بالسلطة التي يتوارثها العربي من جيل إلى جيل. ويعضد حيدر حيدر هذا العنوان الأساسي بعنوان فرعي وفيه يُعلم القارئ بأن هذه الرواية تحتوي: ثلاث حكايات عن الموت . وهي حكايات منفصلة في الظاهر، لكن ما يجمعها هو تعميم حالة الخراب، حيث تختزل حالات الصراع على السلطة والمجازر والمؤامرات على مدى التاريخ العربي منذ عصر الأمين والمأمون وحتى الاغتيالات الجائرة في الجزائر بِاسم الدين، في الحكاية الأولى، ويصبح هذا الخراب في الحكاية الثانية هو دمار الروح، عبر سرد جزء من سيرة حيدر الشخصية أثناء علاقته الحميمية بالبحر وبالكلب «فيديل»، أما الحكاية الثالثة فيُخصَّص الرثاء فيها لحالة الخراب الممنهج التي تُتَّبع لتحويل بطل وطني سابق إلى مقامر وعميل ومنتحر. إذاً، يصبح العنوان عند حيدر تكثيفاً رامزاً لمقولات الرواية الأساسية، وهو عنوان محفِّز على القراءة أي إنه يحقق القيمة الإغرائية والقيمة التعريفية على حدّ سواء من دون طغيان إحدى هاتين الوظيفتين على الأخرى، وهذا الأمر ينطبق على مجمل الروايات التي تعتمد التلميح وإخفاء المضمونات عبر أستار اللغة الشعرية حيث إنها تخبئ ما تقوله بتقنية الإرجاء، وتترك للقارئ متعة الاستكشاف والتخمين، على عكس العنوانات الموضوعية التي تحتكر من النص مقولته، وتفرد أوراقها أمامه كاملة. تلك العنوانات الموضوعية الكاشفة قد تغري قارئاً باحثاً عن هذا الموضوع بالذات، لكنها في الوقت ذاته تخسر قرّاء محتملين.

هذه بعض النماذج من العنوانات الموضوعاتية والعنوانات ذات المحمول المجازي المتعدد الدلالات، وهي في معظمها تتقصد التناصّ التحويلي غير المباشر مع نصّ الرواية وتشكل مقولة مستقلة بذاتها، توجّه رسالتها بوصفها كياناً مستقلاً قادراً على تكوين بنية وحدها، ولكن إغناءها بتعالقها مع النصّ الذي تعنونه، وعدم اكتمال رسالتها حتى الانتهاء من القراءة، يكون أكثر إدهاشاً ومتعة.

* د. نوال الحلح
- دكتوراه في الأدب الحديث… سورية/ فرنسا


* نقلا عن البناء

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى