ناجح المعموري - المسكوت عنه في ملحمة جلجامش.. 1-2

قرأت ملحمة جلجامش وما نشر حولها من دراسات فوجدت اكثرها واقعة تحت هيمنة الاخر، وتمحورت مرددة توصلاته المصدرة لنا. لذا انشغلت بها زمنا طويلا وحاولت تقديم قراءة مغايرة وخصوصا في الصراع الذي دار بين الثقافة القمرية والشمسية الذي تمركزت حوله الملحمة والذي لم تنتبه له الدراسات باستثناء دراسة الاستاذ فراس السواح.
لان ثنائية الموت/ الحياة، لم تكن موضوعا اساسيا لها، مثلما اشارت لذلك الدراسات السابقة، لان هذه الموضوعة قد عرفتها الاساطير ايضا في العراق القديم ومنها –على سبيل المثال- اسطورة ادابا. لذا تمركزت دراستي حول الصراع بين الديانتين القمرية/الشمسية. واشرت بان جلجامش كان وظل مركزا حيويا في النص، ويمثل انكيدو الهامش فيه، على الرغم من انه قام بمهام عديدة وخطيرة. ولولاه لما استطاع الملك من تحقيق كل احلامه التي كان يطمح لتحقيقها.
وحاولت رد الاعتبار لانكيدو، باعتباره يمثل مجموعة الافعال البطولية المعروفة، بسبب وجوده حصلت المتغيرات الفكرية الكثيرة. التي تعمقت بالصراع الذي
اتخذ اكثر من مسار.
لكن الذي كتب النص لم يستطع التخلص من هيمنة مركزية المؤسسة الدينية والسياسية، ويكون محايدا في تعامله، لذا اختار نهاية مأساوية له وتقرر باجتماع شكلي هيمن عليه الاله انليل اغتيال انكيدو.
انها محاولة جديدة، تسعى لاثارة الاسئلة والحوار. وانا واثق بان الملحمة، ستظل حيوية بقدرتها على تفعيل القراءة وتنويع مستويات التأويل وامتحان قدرة القارىء واختبار سلطته في الكشف والتحليل.
سلطة المرأة- قوة الحكمة

لقد هيمن جلجامش بشكل تام على مدينة اوروك، ومارس لهوه وعبثه مثلما اراد، فاتكا برجالها وشبابها،مغتصبا فتياتها، معلنا بذلك كامل سطوته وجبروته وطغيانه. فهو الملك المفوض من الاله "انليل" بالحكم
لم يترك جلجامش ابنا طليقا لابيه
لم تنقطع مظالمه على الناس ليل نهار
اهذا جلجامش، راعي اوروك المسورة
اهو راعينا القوي، الكامل الجمال والحكمة
لم يترك جلجامش، عذراء طليقة لامها
ولاابنة المقاتل، ولاخطيبة البطل. (ص77)
وباستمرار الاضطهاد ونمو استبداد الملك، تشكلت بذرة الاحساس بذلك، بذرة تطورت بفعل عوامل عديدة، وصارت وعيا رافضا، متمثلا بالصراخ الرافض للمظالم اليومية.
حيث استمع الالهة الى شكواهم وتذمرهم وتحقق لهم حلم تخليق شخص ند، كفوء للملك الطاغية.
ان موقف سكان اوروك بحاجة الى فحص، من اجل تلمس البذرة التي تطورت، وساهمت بتكونه وتشكله، ووصوله الى الصيغة
التي استقرت عليها.
وكان الموقف المتمثل بالشكوى والاعلان عنها، يمثل تطورا كبيرا في جانبه السياسي والاجتماعي. وأرى بان ذلك متأت من عوامل عديدة:
1- العبيديون،اقدم من سكن سومر ولابد وانهم قد جاؤوا ومعهم كراهية للطغيان وخوف من الخضوع- والا ما كانوا يهجرون مواطنهم الاولى. ويتيهون في البرية.
كان بعض هؤلاء الرواد الاوائل يتصف بلا شك بالجموح وحب الخصام. وهي قسمات غذتها ورعتها المنازعات على الماء وحق التملك التي كانت سائدة طوال التأريخ السومري. ومعروف بان السومريين استلموا مكانا حط فيه من قبل العبيد ووشموا عليه تلك الصفات والخصال التي اشار اليها كريمر. وساهموا حتما بتشكيل ملامح الحياة من خلال تصرفاتهم اليومية والعلاقات فيما بين الاثنين. وحتما كان للعبيد دور في توشيم الحياة السومرية، بعد وفود
السومريين والعيش معهم. لان الوافد الجديد يحاول التكيف مع الحياة الموجودة. بعقائدها وتقاليدها وطقوسها، وربما يكون للارث العبيدي دور في تشكيل الذهنية السومرية، التي قبلت التعايش مع السائد، لان الوافد لا يفكر في البداية بمقاومة البنية الذهنية السائدة، او الغائها والتقاطع معها.
لذا صار التراث الخاص بالعلاقات والملامح العامة الاجتماعية والدينية للعبيد، مكونا فعالا في حياة السومريين وبنيتهم الذهنية، ومن ثم رسمت ملامح الحياة انذاك. لم يكن حب السومريين للقانون والعدل مستمدا بالضرورة من مثلهم العليا واخلاقيتهم السامية، بل من مزاج سومري نفسه، وهو مزاج يتصف بحب المنافسة والغلبة والتملك الفردي.
لذا لم يكن امام السومريين من فرصة الا القبول بما موجود لدى العبيد والتعامل معه باعتباره منتجاً للطرفين ومن ثم صياغته من جديد وانتاج مثلهم الخاصة.
2- اشارت القوانين العراقية القديمة، ومنها قانون حمورابي، وبعض النصوص المسمارية الاخرى، الى عرض للطبقات الاجتماعية الكثيرة التي كان يتألف منها المجتمع العراقي القديم، والى الفئات الاجتماعية التي كانت تؤلف تلك الطبقات الاجتماعية. وقد اعترفت القوانين بوجود طبقتين رئيستين فقط.
وميزت في المعاملة بين افرادها، وهما طبقة الاحرار وطبقة العبيد، وضمت طبقة الاحرار جميع الفئات الاجتماعية من السكان في المدينة والقرية من غير المملوكين لكن بعض الباحثين قد وجدوا بأن المجتمع العراقي القديم ضم ثلاث طبقات اجتماعية، فضم اضافة الى طبقتي الاحرار والعبيد طبقة ثالثة وسطى، كان افرادها من غير العبيد، أي من الاحرار، ويساعدنا هذا التقسيم الاجتماعي على معرفة نوعية العلاقات التي كانت سائدة في العراق القديم والصراع الموجود في العلاقة بين الاطراف. لقد اوجد التقسيم حدة في نمط العلاقة السائدة.
لانها محصورة بين طبقتين هما: الاحرار+العبيد، وما تخلفه ملكية الاول بواسطة تصرفها بوسائل الانتاج والاستثمار لكل الامكانات والقدرات الموجودة لدى العبيد وخصوصاً في مجال الزراعة.
اما التقسيم الاخر، الذي اضاف طبقة اخرى، وهي طبقة احرار لكنها ليست مستعبدة، أي طبقة ملاك صغار او حرفيين، حتى انها ولضعفها ظلت حريتها مقيدة، أي كانوا اكثر تماثلاً مع العبيد،في جانب مهم وحيوي، وهو تقييد الحرية. فوجود طبقة واسعة من العبيد، تشكلت لاسباب عديدة
وتعرضت بشكل مباشر الى ملاحقة واضطهاد جلجامش، لانها اصلاً مضطهدة بسبب عبوديتها، مضافاً لها الطبقة المتوسطة، ذات الحرية المقيدة، كذلك اعداد غفيرة
من طبقة الاحرار. هؤلاء كلهم ساهموا بالشكوى والاعلان عن موقفهم الرافض، الذي هو موقف اجتماسياسي واضح تماماً.
تصاعد الاضطهاد،

لذا كانت استجابة الاله، استجابة تمثل اتفاقاً مع الاغلبية المكونة من الاحرار المقيدين بحريتهم، والعبيد الذين وفر لهم تصاعد الاضطهاد، وردود الافعال ولادة بذرة الرفض فاشتركوا مع اوسع قاعدة من سكان اوروك ببلورة مواقف الرفض والاحتجاج، وعلينا الا نستغرب هذا في قراءة مرحلة قديمة جداً، لان مرحلة انتاج الملحمة شفاهياً وتدوينياً كان فيها المجتمع العراقي القديم قد وصل الى درجة متقدمة من التنظيم، تحدده القوانين
الى جانب التقاليد والاعراف.
وتراقب تصرفات افراده واجهزة الدولة المختلفة، التي يقف على رأسها حاكم دنيوي يمتلك الصلاحية والقوة اللازمة لضبط تصرفات الافراد ومحاسبتهم متى خرجوا عن القانون.
بنية اساسية

هذا التشــــــكيل الاجتماعي، اوجد تبايناً في البنيـــة الاساسية للمجتمع في اوروك، وخضعت هــــذه البنية لتأثيرات
افعال الملك جلجامش. لذا نتج عنها فعل جمعي، يمثل نداء للاستغاثة، وذلك باعتباره ارقى انواع الرفض، في تلك الفترة التي هيمن عليها جلجامش مع السلطة، الدينية باعتبارها موجهاً كاملاً للنظام السياسي، وهيمنت عليه وقادته، ووجهته من خلال كون جلجامش ممثلاً للاله "انليل" اولاً. ولان شخصيته حازت على صفات لاهوتية.
لقد حدث رد فعل في الملحمة، وتحقق لسكان اوروك اتفاق الالهة معهم في رفض افعال جلجامش. وصارت للرفض قاعدة اوسع، واكثر اهمية من القاعدة الاجتماعية،
وتحققت لرد فعل السكان دعامتان هما اولاً:
الاجتماعية باطارها الواسع. وثانيهما الدينية، لذا استدعت الالهة، رب السماء الاله آنو، وقالوا له:
الم تخلق انت هذا الوحش؟
الذي لايضاهي فتك اسلحته سلاح آخر
والذي تستيقظ رعيته على ضربات الطبل
جلجامش لم يترك ابناً طليقاً لابيه
وما فتئ يضطهد (يكدر) الناس بمظالمه ليل نهار
على انه راعي اوروك السور والحمى
هو راعيهم لكنه يضطدهم، وهو قوي جميل وحكيم
ان جلجامش لم يترك عذراء لحبيبها ولا ابنة المقاتل ولاخطيبة البطل
ولما استمع "آنو" الجليل الى شكواهم دعوا "اورورو" العظيمة وقالوا لها:
يا "اورورو" انت التي خلقت هذا الرجل بامر "انليل"
فاخلقي الان غريماً له ويكون مضاهياً له في قوة اللب والعزم
وليكونا في صراع مستديم لتنال اوروك السلام والراحة
حالما سمعت "اورورو" ذلك
تصورت في لبها صورة لآنو
وغسلت "اورور" يديها واخذت قبضة من طين ورمتها في البرية
وفي البرية خلقت "انكيدو" الصنديد، نسل ننورتا القوي
ص87،79
وباستكمال عملية خلق "انكيدو: ابتدأت مرحلة جديدة في الصراع داخل اوروك، لان الخلق كان نتيجة لشكوى ورفض. وكان حقاً فعلاً اجتماسياسياً،
واستعان العقل الجمعي والديني بالمرأة وسلطتها القمرية، التي انهزمت لاحقاً امام قوة الديانة الشمسية التي احتلت موقع الصدارة في البنية الذهنية والفكرية الجديدة للعراق القديم.
ولم يكن الاستنجاد بالسلطة القمرية، وسلطة الالوهة الانثوية، الا لتأكيد امكاناتها، ومكانتها، وقوتها، وبقاء فاعليتها، وتأثيرها في الحياة العامة، على الرغم من انها دفعت الى خط خلفي. لذا كانت كاهنة الرغبات واحدة من ممثلات الالهة "انانا" –عشتار- من خلال بقاء واستمرار الدافع الجنسي، وهي التي اوكلت لها مهمة التحاور مع انكيدو
وسط البراري.
لقد تجاورت الديانة القمرية مع الشمسية، وتحاورتا معاً. لكن الديانة القمرية، هي التي كانت مهيمنة في الخلق والحوار الاتصالي الشفاهي، والادخالي، حيث حصلت المتغيرات الاساسية والجوهرية في شخصية انكيدو.
ان الالهة "اورورو" هي المسؤولة عن نظام الامومة بوظائفه، الكبرى في الحياة، ومنها وظائف الخلق، لذا مثلت ايضاً الديانة القمرية في صراعها مع الديانة الشمسية.
ولانها هكذا فانها هي التي خلقت انكيدو، وكانت ولادته ليلاً، أي في وقت قمري.
غسلت "اورورو" يديها
واقتطعت قبضة من طين وبصقت عليها
وخلقت في الصحراء انكيدو البطل
خليقة الصمت الليلي، قطعة من نينورتا
ان شمخت، وان كانت كاهنة للرغبات، فانها رسولة عشتار وناقلة لرغبتها،
والمعرفة والحكمة ايضاً. فمادامت عشتار في بعض اوجهها ممثلة لعنصر الحكمة فانها مانحة لها، متجسدة ببغاياها وكاهناتها اللاتي يحملن العنصر ذاته، لذا كان اتصال البغي مع انكيدو ولفترة طويلة ومعروفة لنا، وقد حددتها الملحمة "ستة ايام وسبع ليال" وواضح من خلال المدة بان ابتداء الاتصال كان ليلاً. ولم يكن الاتصال استهلالياً فقط، وانما هو اتصال تبادلي -كما قال فراس السواح- للمعرفة ونقل الثقافة حيث تحول انكيدو، الى شخص آخر وجديد تماماً.
وحصلت الانتقالة المهمة في حياته، وتلك التي ستحدث لاحقاً في اوروك. على ضوء ذلك نستطيع فهم معنى البغاء المقدس الذي كان شائعاً في حضارات الشرق الادنى القديم، فالبغاء المقدس هو ممارسة جنسية مكرسة لمنبع الطاقة الكونية مستسلمة له.
منفعلة به، ذائبة فيه، كالانهار التي تصدر من المحيط والى المحيط تعود. وكانت عشتار هي البغي المقدسة الاولى لانها مركز الطاقة الجنسية الشاملة التي لاترتبط بموضوع محدد.
الهوامش

( 1) للملحمة ترجمات عديدة
طه باقر، ملحمة جلجامش، ط4 1971، وزارة الثقافة ، ط3 1975، وزارة الثقافة ، ط1980، وزارة الثقافة.
د. سامي سعيد الاحمد، ملحمة جلجامش، دار الجيل بيروت ودار بغداد 198 4- وطبعة اخرى عن وزارة الثقافة 1990.
ديناكوف، جماليات ملحمة جلجامش، ترجمة عزيز حداد، منشورات مكتبة الصياد- بغداد 1973.
عبد الحق فاضل، هو الذي رأى، وزارة الثقافة 1981.
فراس السواح، كنوز الاعماق-قراءة في ملحمة جلجامش، نيقوسيا 1987.
انيس فريحة، ملاحم واساطير في الادب السامي، دار النهار ، ط2، 1979.
هربرت ميسن، ملحمة جلجامش، ترجمة حسن العمري، مطبعة الاديب- بغداد 1985.
ساندرز، ملحمة جلجامش، ترجمة محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي، دار المعارف بمصر 1970.
رنية لابات، المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين، ترجمة الاب البير ابونا ود. وليد الجادر، جامعة بغداد، كلية الاداب 1988.
توما الخوري، جلجامش بطل مابين النهرين، بيروت، بيت الحكمة، ط2 1975.
ديوان الاساطير، قاسم الشواف، جـ4، دار الساقي.
(2) النصوص مقتبسة من ترجمة الاستاذ طه باقر/ وزارة الثقافة/ط4/ وسنكتفي بالاشارة لرقم الصفحة فقط.
(3) صموئيل نوح كريمر، طقوس الجنس المقدس عند السومريين، ترجمة نهاد خياطة، دمشق، ص200.
(4) نوح كريمر.. سبق ذكره،ص200.
(5) د. عامر سليمان، العراق في التاريخ القديم، دار الكتب، الموصل، ص148.
(6) للاطلاع اكثر يراجع كتاب [العبيد في العراق القديم] للاستاذ صالح حسين الرويح.
(7) د. عامر سليمان، … العراق في التاريخ القديم، ص145.
(8) رينيه لابات، المعتقدات الدينية في بلاد وادي الرافدين، مختارات من النصوص البابلية، ترجمة البير اوبناود، وليد الجادر،
كلية الاداب، قسم الاثار، 1988، ص196، وردت اشارة لوقت التخليق القمري ايضاً في ، (جماليات ملحمة جلجامش )،
دياناكوف، ترجمة عزيز حداد، منشورات الصياد، 1973، والنص هو فأخذت طينة/ ورمتها على الارض/ لاكت انكيدو/ فخلقت البطل/ المولود في منتصف الليل/ جندي نينورتا.
اما النصوص الاخرى وهي كثيرة فلم تتضمن مثل هذه الاشارة.
(9) فراس السواح، لغز عشتار، سومر للدراسات والنشر والتوزيع، قبرص، نيقوسيا، ص181.




* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى