محمّد نوري جواد - الاستقراء الناقص..

صدر عن مجلة مركز البحوث والدراسات التربوية في وزارة التربية بحثا بعنوان (الدلالة الصوتية لحرف الخاء في العربية (آيات التنزيل العزيز أنموذجا) العدد : الرابع والعشرون, تشرين أول 2013م للدكتور عبد العباس عبد الجاسم أحمد , إذ توصل إلى أن دلالة الخاء الصوتية لا تستجيب لمبادئ المفردات الدالة على العزيمة والبناء وبيان الأحكام ... وأن الخاء في المفردات دلت على خفوت الشيء أو هوانه , أو اختفائه ؛ لذا كان مرميا بعيدا عن حروف أوائل السور التي كان الله سبحانه وتعالى أعلم بمرادها, وما يوحي إلى أن هذا الحرف لا يعول عليه في دلالته الصوتية , ولا يحمل معناه محمل التأثير, وأن نزوله في المفردة إنما جاء خاملا خجولا, يعبر من خلال دلالة المفردة عما هو ضعيف متهالك المضمون , لكنه كان ذا روعة في موضعه الذي اختاره اللسان العربي له ليدل عما ذكر عنه سالفا.
عرض الباحث مجموعة من الأمثلة تؤكد ما ذهب إليه فقد استعان بالمعاجم اللغوية فتناول دلالة الكلمات التالية : ( خبت , وختل , وختر, وخثر, وخرع, وخذل, وخفت, وخلو, وبخل, وبخن, وجخر, ورضخ, وطبخ, وفضخ, وتنخ ) , ومنها ما لم يذكر في القرآن الكريم , ثم أفرد عنوانا مستقلا سمّاه: الخاء في مفردات التنزيل العزيز القرآن, وفي ذلك مأخذان: الأول: الخروج من عنوان البحث, فإما أن يستعمل في أمثلته كلمات وردت في القرآن الكريم فقط لينسجم ذلك مع العنوان, وإما أن يطلق الموضوع فيكون في القرآن وغيره , وهذا ما حصل عنده , ويكون العنوان حينئذ: (الدلالة الصوتية لصوت الخاء في العربية), والثاني: لا شك من أن بعض المفردات السالفة التي تناولها في عنوان (حكاية صوت الخاء) منها ما يدخل في عنوان (الخاء في مفردات التنزيل العزيز).

أثر الخاء

درس الباحث دلالة بعض الكلمات التي احتوت على حرف الخاء في القرآن الكريم مثل: الخدع : هو الفساد, وهو ما يكشف عن أثر الخاء في دلالة المفردة, ومثلها كلمة (خبل) , وهذا المعنى (الفساد) لم يتضح في نتائجه كما هو واضح , وهو أصل عند بعضهم وقد أشار الدكتور إياد الحصني إلى ذلك فضلا عن معنى الكراهية , وقد مثل بالكلمات التالية: (خسة, وخلاعة, وخسارة, وخيبة, وخرقة, وخمر, وخدعة, وخزي, وخمج, وخنا, وخضوع, وخنوع, وخرافة, وخبل, وخمول, وخبث, وخراب), ومع ذلك يقرّ الدكتور بأن هذه الدلالة ليست مطلقة, في حين نجد أن د. عبد العباس قد جعله غير مقيد وأنه محصور في هذه المعاني التي ذكرها, إذ ذهب إلى أن كلمة (خلا) , و(خسر) , و(خرّ) , و(بخل) , و(نسخ) تدل على الاختفاء , وكلمة (بخع) تدل على الفتور والإنهاك, وكلمة (مخاض) تدل على أنها خاوية غير قادرة, وكلمة (ثخن) تدل على خمول الحركة, وكلمة (نخر) تدل على بلاء الشيء وزواله, وكلمة (رسخ) تدل على سكون الحال, وكلمة (سلخ) تدل على نسيان الشيء واندثاره , وكلمة (نضخ) تدل على الهدوء والاستكانة, وكلمة (الصاخة) تدل على أن الجسم يعجز عن تحمل الصوت فيخور ويخمل.
وبعض هذه الكلمات لم تكن دلالاتها مقنعة لذي لب مثل: نضخ, قال الطوسي في قوله تعالى (عَيْنَانِ نضّاخَتَان) فوّارتان بالماء, فهل هذه الحركة تدل على الاستكانة ؟!!, وعلى الرغم من أن ابن جني قد ذهب إلى ليونة الخاء في موضع من كتابه الخصائص إلا أنه يشير في موضع آخر فيبين أن (الحاء) فيه رقة، وفي (الخاء) غلظة, فقيل للماء القليل نضح بمعنى رشح، ونضخ للماء الغزير، بمعنى اشتد فورانه في ينبوعه.
ومن ذلك قول الباحث : (إلا أن اختيار الخاء دون غيره من الأصوات له ما يبرره ويعبر عنه ذلك أن الخِوار هو صوت البقر لما فيه من إنهاك وضعف أسهم حرف الخاء في إظهار ذلك), وإذا ألقينا نظرة إلى معجم اللغة العربية المعاصرة وجدنا ما نصه: (خارَ يَخُور، خُرْ، خُوَارًا وخَوْرًا، فهو خائِر, خار الثَّوْرُ: صاح، جأر ( سَمع المصارع الثورَ يخورُ فأفزعه صوتُه ). وهل الصوت المفزع منهك وضعيف ؟!. وأعتقد أن صوت الخاء جاء قويا بعيدا عن الضعف والهدوء في الكلمات التي تدل على الصوت مثل: (الخِوار, والخرير, والشخير, والصاخة).

صوت مخذول

وأما قول الباحث: لم يستعمل في أوائل السور لخموله وخجله المعنوي بوصفه صوتا مخذولا موازنة بالحروف الأخرى , فهذا كلام ليس دقيقا ؛ لأن الله سبحانه وتعالى استعمل أربعة عشر حرفا للحروف المقطعة, وهذا الاختيار إنما لحكمة أرادها سبحانه, وترك أربعة عشر حرفا منها الخاء وليس عدم الذكر جاء بسبب أن الحرف خامل وخجول ومخذول فإن في ذلك إساءة إلى كلمات تركها ولم يشر إليها مثل كلمة (خلق) التي وردت كثيرا في القرآن الكريم فالله سبحانه وتعالى هو الخالق ولا خالق سواه, قال تعالى (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) فكانت كلمة (الخالق) لها الصدارة بعد اسم العلم (الله), علما أن القرآن الكريم استفتح بحرف الخاء في إحدى وثلاثين آية, ومنها قوله تعالى (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) , وقد ورد لفظ (الخالق) ثماني مرات , وورد لفظ (الخلاّق) مرتين , وقد سمّي سبحانه به في كلا الموردين , قال تعالى (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ), وقال تعالى (بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ), فهل حرف الخاء خامل وخجول ومخذول؟ حاشا لله, وهل فيه دلالة الضعف عندما تقول: خلق اللهُ الكونَ؟!!.
يبدو أن البحث كان انتقائيا لا يشمل كل الكلمات الواردة في القرآن الكريم, ومن ذلك أيضا كلمة (خير) , والخير: هو ما يرغب فيه الكلّ كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع, وقد ورد في القرآن الكريم يحمل الدلالات الآتية: المال الطيب, أو الإسلام, أو الإيمان, أو العبادة, أو الأجر, أو الأفضل, أو المال, أو العافية, أو الطعام, أو بمعنى الظفر من القتال
والغنيمة. وقال تعالى ( وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ), والخيرات: جمع خيرة وهي الفاضلة لكل شيء، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خيرة الله في خلقه: أي أفضلهم وأحسـنهم. ومن ذلك كلمة (خصّ) بمعنى: التفضيل, قال تعالى ( وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ), وكلمة (خبز), وكلمة (خالدين)... فهل هذه المعاني دلّت على ما ذكر الدكتور عبد العباس عبد الجاسم ؟!!.


د. محمّد نوري جواد


* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى