عبد الصاحب البطيحي - عقاب

المكان: ناحية المشرح-ميسان
الزمان:1947
بعدما استيقظتُ صباحاً أخذتُ أفكر برشقِ وجهي بالماءِ، ولم يكن هناك سوى ماء " الحِب " المركون في العراء . لم يكن الأمرُ مفاجئاً حين وجدته متجمداً إذ كانت درجةُ الحرارةِ منخفضةً دون درجة الصفر ليلة البارحة ، مما دعاني الى تهشيمِ القشرةِ المتجمدةِ للحصولِ على النزرِلإجراء الوضوء وإتمام شعيرة الصلاة التي واظب أبي على توصيفها بأنها " زينة العقل " .
بعد ذلك تناولتُ قطعةً من الخبز احتفظَت بها أمي من وجبة العشاء.ارتديت " دشداشة " المدرسة الحولية وانطلقت حافي القدمين، أحمل الكتب باتجاه المدرسة الابتدائية عِبر أزقةٍ ضيقةٍ ، بيوتها من طين و قصب سوى تلك القليلة المشيدة من طابوق،الممتدة على امتداد النهر .وبهذا تجنبت البستان المجاور , الغامض المخيف ..
كان الهواءُ نقياً يبعث على الأملِ على الرغم من برودته الشديدة اقتربت من شجرة الصفصاف ، حبيبتي وافرة الظلِّ . إجتزت الجسر الخشبي الصغير حيث الضفة الأخرى .
قبالة المدرسة ، وعلى ضفة النهر، هناك مدرجات تنحدر الى الماء . نزلت درجتين لتنظيف قدمي من الأتربةِ ثم دخلت المدرسة نقياً، أتطلع الى شجيرات الدفلى المخضرة الممتدة التي يحتضنها السياجُ من الخارج .
بعد انتهاء الدوام ، وعلى نحوٍ مغايرٍ لنمطِ الانصرافِ السلسِ، طلب معلم الرياضة من عددٍ كبيرِ من تلاميذ الصف الخامس والسادس التجمع في إحدى الغرف الدراسية . . .
ساورني إحساسٌ خفيٌ بأن شيئاً ما سيحدثُ .
دخل المعلم الغرفة ، صاح آمِراً : قيام
قمنا.صاح مُشاكِساً :جلوس
جلسنا . تكرر الأمرُ ، تكررت الطاعةُ، وأنا أبتسمُ، والصغارُ يأخذون الحالةَ بجديةٍ ورهبةٍ . أردتُ أن أسأل صديقي الجالس بجانبي لكنني صُعقتُ بسببِ نظرةٍ شرسةٍ من المعلم . نادى على مراقب الصف السادس طالباً منه التقدم الى الواجهة .يتقدم الأخير ،عيناه شاردتان تزوغان ،وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء غامضة ،تتوهج أطرافه بحركة غير منضبطةٍ ،يقف مشدوهاً. .
أمرهُ : كن مشرفاً ثم أردفَ وهو ينظرُ الى الصغار : إطلب منهم الجلوسَ والمكوثَ بصمتٍ .
حدّقَ بالسقفِ .
كلا ، إطلب منهم أن يقفوا وينشدوا " نحن الشباب لنا الغدُ " .
والغدُ ! أمشرقٌ هو الغدُ ؟ أجل ، يترآى لي بياضُه الناصعُ !
التفتَ المشرفُ المندهشُ نحونا فانطلقنا ننشدُ .خاطبنا المعلمُ : أعلى ، أنا لا أسمع .
الأصواتُ ترتفعُ، تفقدُ التجانسَ، تغدو نشازاً ، والغدُ ببياضِه الناصعِ !
ها أن اذا متربعٌ في جلستي على ضفة النهر المتفرع من النهر الرئيس أرقبُ قروياتٍ آتياتٍ من الجانب الآخر يحملن على رؤوسهن سلالاً. . أبتاعُ منهن بيضاً بلونِ الغدِ القادمِ . .أبادله بحلوى أعرضها للبيع في سوق المدينة.
بيد أن المعلمَ يبتسم ويطلب منا الصمتَ فنصمت . إنشدوا نشيد " موطني "
في هذه المرة لم تكن الأصواتُ عاليةً فقد دبَّ بنا الوهنُ . . لم يبق أثرٌ لخبزِ الصباحِ .
إرتسمت أمامي صورةُ الوطنِ : في ذات ليلةٍ ماطرةٍ عاصفةٍ استند أبي الى باب الكوخ يحميه من عصفِ الريحِ وانهمارِ المطرِ .وفي النهار سرحتُ خارج المدينة حيث تغطي حبيباتُ الملح أديمَ الأرض بلونها الأبيض فتبدو قطعاً متقاربةً من كفنٍ لفظته إحدى القبور المنهدّة ِعلى أعلى حافةِ النهرالعميق الميت .. المكانُ مُجدبٌ موحِشٌ . . كنتُ أصرخُ حينها ،كدتُ الآن أفعلها حينما وخزني صغيرٌ يقف خلفي :إنشد نشيدَ " سجّلي يا يدَ التاريخِ بالذهبِ " ، ألا تسمع !
هاهو التأريخُ الشيخُ ينظرُ من علٍ، يتربعُ في جلستِه، يُسطّرُ ما يحلو له بقلمٍ من ذهبٍ . وأنا لا أحبُ الذهبَ ، لا أعرفه ، لا أرى أحداً في بيتنا يملكه ., وتتعانقُ الرهبةُ بالجوعِ .
إجلسوا "”
نطيعُه ونجلسُ .
وهويقفُ في ركنِ الغرفة، أراه في حالةٍ ضبابيةٍ ، أرى بديلاً عنه، صورةَ موسيقي يعزف لحناً شجيا تزيحُ صورتَه الطاغيةَ . يقفُ عازفُ الكمانِ بمواجهتنا ، ينظرُإلينا كما الأخ الأكبر ، وحنكُه يتكئُ على آلتِه، يلاعبُ القوسُ أوتارَها . وهو يبتسمُ ، يخلقُ عالماً سمعتُ عنه ،مرةً، بأنه موطنُ الملائكةِ . لكن هاهو ،المعلمُ ، مرةً اخرى ، يشيرُ بأصبعِه نحو أحد التلاميذ فيقتربٌ ، يهمسُ بإذنه شيئاً فيبتعدُ خارج الغرفة ثم خارج المدرسة . . . وأنا أنكفئُ الى عالمي الطفولي ، صدى اللحنِ يجوبُ دواخلي .. .
التلميذُ يعودُ ويدنو من المعلمِ الذي سرعان ما يغادرُغرفة الصف مبتسماً .
ولمرةٍ اخرى يعودُ وبيدِه رغيفُ خبزٍ ، يعلقُهُ على لوحةِ الكتابةِ بمغرزٍ ، يقولُ وهو يخرجٌ : " تمتعوا بالمنظرِ ، رغيفٌ شهيٌ وذو رائحةٍ زكيةٍ لكن حذار الاقتراب منه . "
صغيرٌ يصرخُ : أماه . . . جائعٌ .
وآخريتململُ في جلسته ثم يجهش بالبكاء
يهمُّ ثالثٌ بالتقدم نحو لوحة الكتابة ، ثم يركن الى المقعد تبكي دواخله بعد أن يرى " دشداشته " مبللةً من الأسفل ، فيبرر نكوصه بقوله الهامس :
" ما جدوى اختطاف رغيفِ خبزٍ واحدٍ !"
لكن ماذا عن الآخرين !
غيمةٌ تموجُ أمامي ثم تتسعُ، تُغلفُ فضاءَ الغرفة ، تلّف في طياتها عمالقةً صغاراً يحركهم الجوعُ، يتدافعون بمرحٍ هائجٍ ، يتصايحون بغضبٍ أقرب الى المأساة،هم أشباحٌ لممثلين على منصةِ مسرحٍ . . تندُّ منهم صرخاتٌ تصطدم بسقفِ الغرفة ، يهبط صداها كماردٍ منفلتٍ . . بيد أن الوهمَ ينمحي حالما أسمعُ وقعَ أقدامٍ مقبلةٍ . .
يعودُ المعلمُ مطمئنَ المعدة ، ينظرُ إلينا ثم الى المراقب ويده الآن تومئُ صوبَ الحديقة . التفتُ أتابع سيرَالمراقب الذي سرعان ما تحتضنه أشجارها .
ثم ها هو يعود حاملاً غصناً اقتطعه من شجيرة الدفلى التي في الحديقة . .يدنو و المعلمُ ينفضُ الغصنَ فتتناثر اوراقُه على الأرض . . وأنا الآن أرى افعى تتلوى بيده .
"منذ الآن أنا معلمُ اللغة العربية
سأعاقبكم بهذه العصا لفشلكم في اجتيازِ الامتحانِ السابق ِفي قواعد اللغة.
يقولُ هذا بمرحٍ .
إذن الأمرُ هكذا ، اللعنة !
ماذا عن المعلمِ السابقِ !
لماذا أيها الرب !
فأنا أزعمُ بأنني أعرفُ دورَ الفاعلِ والمفعولِ ، والظرفِ والصفةِ ، وكذلك دورَ حروفِ الجرِ . لكنني لا أعلم ان نائبَ الفاعلِ يعملُ ما لايعمله الفاعلُ
وحصتي من العقابِ تشبهُ حصةَ كلِّ تلميذٍ . . ضربٌ شديدٌ متكررٌ على راحةِ اليدِ . سوطٌ على اليدِاليمنى،سوطٌ على اليدِ اليسرى .
يتسيّدُ السوطُ .
وعليَّ أن أتحمل َالفعلَ والظرفَ .
في الخارجِ ، حيث يسودُ اللونُ الرمادي، نزلتُ ثلاثَ مدرجاتٍ ، غمرني الماءُ الباردُ حتى الركبتين، مددتُ يدي تحت السطحِ ،مويجاتٌ ترتفعُ وتهبطُ ،تنسابُ نحو البعدِ القريبِ ببطءٍ ،تتلاشى لتحلَّ محلها اخرى ، تطلعتُ الى أصابعِ يَدَّي الاثنتين وهي تستطيلُ على نحوٍ غير مستقرٍ، شعرتُ بارتخاءٍ ، سَرَت برودةٌ الماء في جسدي كله ..علّها تزيحُ لوعةَ الضربِ ..بيد أن اللوعةَ تحفرُ في
العمقِ
عندما مررتُ بشجيرات الدفلى نظرتُ اليها مُعاتباً،
قلتُ بصمتٍ : . . .. .
أغصانُها تنحني مُثقَلَةً باوراقها التي لم أعد بمقدوري التمتع بلونها وشكلها.
وأنا الآن أسمعُ أنينَها الصامتَ في الوقتِ الذي أواصلُ في غضونه القراءةَ.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى