أنور عبد العزيز - ذلك القطار.. قصة قصيرة

ما كان واعيا ومنتبها عندما تسلقت قدماه وبرفّة طائر منفلت من شبكة صياد، الدرجة العالية للحافلة العتيقة محشورا فيها – وكما في كل مرة – وهدفه دائما ذلك الحيّ الجديد الذي يقع خارج المدينة بمسافة قريبة.. عندما اغلق باب الشاحنة المتخلخل لم يجد وجه سائقها.. تاه عنه وجه مساعده.. وما رأى وجوها مألوفة لديه من قبل او ملصقات حكميات وشعر قديم وصور مغنين ورياضيين.. تحسس ان شيئا غريبا قد حصل وانه في المكان الخطأ، مما زاد في حيرته واضطرابه ان هذا المكان بدا له أشبه بقطار سحري أو اسطوري.. رأى فيه ناسا كثراً وما حاوره احد بشيء، ما لاطفه احد بكلمة، لم يلتفتوا أو حتى ينتبهوا اليه.. تركوه معزولا يداري خيبته وحيرته وخجله ومحنته.. الى اين هذا القطار ؟ لا يدري ! تغيرت الصورة في ذهنه وأبعد عنها ملامح قطار، لكنه عندما تامل بهاء وترف ولمعان وجماليات مذهلة في كل مفاصله وغرفه وممراته وصالاته ومطاعمه، تراجع مؤكدا في ذهنه انه في قطار، ولم لا يكون قطاراً سياحياً باذخاً شبيهاً بتلك السفن السياحية الشهيرة عالمياً والتي تؤمن الراحة والاسترخاء وسكون وهدوء وفرح العقل والروح والجسد لشهر او اكثر من الزمان ولمن هم كرماء على انفسهم لشراء مثل هذه المتع البحرية بمياه زرق وجبال ثلوج ونوارس وتقافز حيتان بنافورات مياه ورقصات ومشيات دلال وغنج لبطاريق تتناوب الحياة بين يابسات الرمل ومياه البحر.. مع هذه الالوان التي لا يمكن تحديد اسماء لها اذ تتشكل من نثار شمس وغيم ومطر وعواصف سود سرعان ما تتغير بعد ساعات لسكون عميق حالم بموسيقاه الهادئة وهي تبعث وتتغلغل بروح السلام في نفوس السائحين وعالمهم الجميل الذي لو غاب لأصيبوا بألف مرض وتقيحت اجسادهم وأرواحهم من لهاث يدفع بهم غالبية اشهر السنة لتجميع المال الذي يتكدّس عندهم دون ان تكون لهم فيه حاجة الا لجزء وقدر ضئيل حتى مع اعلى درجات البذخ والرفاهية، لكنهم – رغم هذه الحالة – بعد ان تنتهي سفرتهم يعودون لسيرتهم النملية الاولى متهالكين منتبهين حذرين حتى من ضياع فلس.. تأكد له الان انه في المكان الخطأ لأمثاله وانه يشارك الان في ابهى سفرة سياحية لقطار مبنيّ من ذهب ولأليء وأبنوس ومصابيح كانها نجوم سماء.. عندما تأكدت له حالته وانه ارتكب غلطة فاضحة مشينة مدمّرة، ارتبك واضطرب أكثر.. تعرّق شعره ورقبته وجسده حتى روحه عندما صدمته الحقيقة المرّة الخانقة، فهو عندما صعد الحافلة ما كان يملك في جيب دشداشته غير خمسة دنانير وبطبعة قديمة انتهى وزال زمنها واصحابها.. سرت في روحه رعدة ورجفة خوف وحياء مما سيواجهه من محن ومشكلات.. كيف سيدفع لهم ان جاع واراد الاكل، ومع اسعار هذا القطار البلوى.. هل ستكون بقطع هيّنات اتلف روحها وقدرتها زمن مضى ؟ ثم الى اين هذا القطار ؟ ولماذا هو فيه ؟ هذا القطار لماذا هو واسع وعريض ؟ هو يشبه كل قطارات الدنيا الافعوانية في طوله ومداوراته الحلزونية في مناطق جبلية وعرة موحشة يجتازها بتخفيف حركته وبألفة عبر انفاقها وقناطرها وجسورها.. يزيّن بصوته ورشاقة حركته الغابات الخضر وبريق مياه الانهار وكل تشكيل جميل عندما تستحيل الارض للوحة من قمة ثلج وغابة وغزلان وايائل وموسيقى لزخّات مطرٍ منهمرٍ.. هو لم يكن جاهلاً باجواء القطارات، ولكن ما يراه الان هو شيء آخر.. شيء غريب ومختلف، فهذا القطار قد بدا لي – ولم اكن تائها او مخدّراً – انه بعرض لا يقلّ عن عشرة امتار، وبهذا خالف كل مقاسات قطارات الارض وقد بدت لي حتى فكرة الركض والهرولة فيه امراً مقبولاً ممكناً سهل التحقيق، وقرّبت مخيّلتي ان مثل هذا العرض يتيح نصب شبكة للكرة الطائرة وكذا لكرة السلّة، وحتى القدم فان ما رأيته كان اعرض كثيرا من ازقتنا الموحلة الكئيبة الضيّقة التي يمارس فيها الحفاة الصغار لعبتهم الاثيرة بكل شغف واندفاع ولهفة وفرح.. اثق بمخيّلتي، ما خدعتني أو ضيّعتني أو أحرجتني او خذلتني يوماً، فما ان ابتعدت عن مكمني الذي كنت جامداً فيه بخطوات حتى رأيت فتية وفتيات بلون البلّور يتراقصون بفرح العابهم مع الشبكة والسلّة وحتى القدم وهم في قمّة صخب وفرح وغنج وفتنة مثيرة.. كنت ارغب السير اكثر واكتشاف ليس الظاهر فقط بل المخبوء والمستور من تلك الغرف والقاعات والمطاعم وصالات الشاي والقهوة والتدخين ومع اصوات طقطقات ورشيش المياه وضحكات اللّذة والانس في الحمّامات الساخنة المعطّرة.. كنت اريد ان اقتحم كل الاسرار، ولكن انتباهتي لنفسي وحذري وحالة وجودي المرتبكة اوقفت كل رغباتي، فعدت ناكصا بعد ان رأيت نفسي بدشداشة عتيقة مهترئة وبقدمين حافيتين.. عدت مسرعاً لمكمني في زاوية من غرفة مطبخ بدت لي مهجورة اذ لم يقربها احد.. بعد تلك الجولة القصيرة السريعة بشعري المنكوث ودشداشتي الرثة وحفائي، ادهشني وحيّرني الا احد من كل من مررت بهم ورأيتهم التفت اليّ او توقف عند وجهي، ومن فعل ذلك فلثانية وثانيتين ليس غير ودون ان يشعرني باي رفض لوجودي بينهم ومعهم انا الذي كنت مقتنعا انني الحالة الغلطة والحالة الخطأ في جماليات هذا الكائن السحري الخرافي العجيب الذي استطاع ان يفلت من حكايات شهرزاد برغم ذاكرتها الجامحة المشتعلة.

رغم كل الساعات العابرة ورغم حالة الجوع المنهكة التي اجتاحتني وهرست جسدي وعقلي وروحي، فما زلت غير عارف بجنسيّة القطار ومنطلقه وأين سينتهي.. أبسط الاشياء تغيب عنّا عند مواجهة ما نتصوره او نراه محنة ومأزقاً يشلّ فينا التفكير.. لم انا جامدٌ هكذا ؟ لم لا أفتح الشبّاك واتأمل الخارج فأعرف أين أنا ؟ أيعقل الّا يعرف أحد مكانه ووطنه من غيره ؟ بفتحة الشبّاك وبنظرة مستفهمة خاطفة سريعة ادركت انني ومعي القطار ما نزال في ارض وطني.. هي هي تلك التلال العارية القميئة بصخورها السود الكئيبة ومن مساحات الرمل المتسيّد واشواك العاقول وكل نبت متيّبس.. ومع تلك المسطحات المائية والمستنقعات الراكدة النتنة والقصب الشيطاني المتطاول ومغاور لثعالب مع اخاديد وحفر ومخابيء غادرة لأفاع وعقارب احرقها القيظ ولفح لهيب الحر والشمس الكاوية فنفثت سموماً من لظى وحرائق.. هي هي اسراب الجراد النهمة الأكولة تستبق الساعات والدقائق لتحيل خضرة الارض لفناء ورماد كئيب وكأن ما حلّ بها كان من فعل نار وحرائق غاضبة.. عواء ذئاب وضباع وولائم دموية لكواسر الطير من نسور صلعاء وشواهين وصقور وحدءآت وبواشق.. ولائم العفن هي هي للضباع الآكلة العاشقة لجيفة الحيوانات القتيلة النافقة.. الضباع الكريهة برائحتها التي تتغلب حتى على رائحة المآدب المسمومة وقد استحالت لمزيج من نثار لحم متعفن مهروس ودم وتراب.. مادة تلك الولائم كانت غزلانا جميلة وأرانب مذعورة وحملاناً رضيعة وماعزاً وخرافاً ونعاجاً ثولاً وقططاً حلوة ممزّقة ومن كل عواثر وعاثرات الحظوظ في ذلك الصراع الازلي بين الآكل والمأكول.. الشبّاك المفتوح على العراء الموحش بعث الطمانينة في نفسه وروحه.. هذا هو وطنه وهذه هي أرضه.. رغم ذلك فقد أربكته حيرته.. اين هو الحيّ القريب ؟

باتت مدينته كلها ومعها ذلك الحيّ شيئاً قديماً مضطرباً في ذاكرةٍ متعبةٍ مظلمة.. بعدها اجتاحته من جديد وعادت اليه وخنقته فكرة اشدّ ايلاماً ورعباً.. هذا القطار رغم قناعته بما باح وكشف واضاء له شبّاكه وبما رآه من كآبات وبشاعات.. الا يمكن ان يكون اجنبيّاً عابراً لدول اخرى وكان بلده طريقاً مختصراً لها ؟ عند هذا الهاجس بلغ من الاضطراب حدّاً مخيفاً شلّ مداركه، فان كان قد احتمل الجوع لساعات بسبب خواء جيبه الا من فئة منحوسة لخمسة دنانير تالفة فبم سيجيب ان نبّهوه الى انه صعد قطاراً دون قطع التذكرة، وان عليه ان يؤدي مخالفته غرامة مضاعفة.. عندها ادرك ان محنته ومأزقه ليسا عابرين كما توهّم فهو الان فعلاً في مواجهة ما يشبه الكارثة، وقبل ان يحاورها في عقله وروحه ارعبه شيء قد غاب عنه ايضا فارتجّ كيانه وهو يتخيل نفسه بمواجهة لعنة جديدة هي رجال الامن الأجنبي عند الحدود، وهو بلا جواز او هويّة او وثيقة او ايّ ورقة ولو لم يكن فيها غير اسمه.. وماذا سيرون فيه وهم لا يحتاجون لبحث عن اسباب ومصادر شكوكهم فطبيعة وظيفتهم ومهنتهم قائمة اصلاً على الشكّ المطلق اذ يرون فيه ضوء كشوفاتهم عن الممنوعات والمخبوءات وفاضحات الاكاذيب للمتجاوزين والخارقين لقوانين العبور.. ايّة قناعة سيستطيع ايصالها لهؤلاء وهو بلغة واحدة وكجرذٍ عارٍ منقوع.. هم سيرطنون معه ربّما بأكثر من لغة وهو لايجيد غير لغته، ثم مع هذه الهيئة وهذا الحفاء.. هل سيقنعهم حتى لو كرّرها مرات انه ركب باصاً وهدفه حيّ قريب معروف ومقصود في مدينته ووطنه.. ايّ عاقل سيصّدق حكاية الجنون الملفقة هذه ؟ عندما سيتأكّد له ان مشهد ضحك وسخرية سيسلقونه به، فمثل هذا الكلام ان فهموه فهو دليلهم الاكيد انهم امام مجنون دولي تائه اباح لنفسه خرق وحرق قوانينهم وكل قوانين الدنيا العاقلة وحتى المتساهلة من بعض جنونٍ سرعان ما ينتبه اليه صاحبه فيصلح سيرته اما وهم بمواجهة حالته المفضوحة كمؤخرة القرود فهم اما ان يرموه من نافذة القطار وهذا لن يفعلوه كموظفين مسؤولين اضافة لعدم انسانية المشهد وقسوته كعلاج، او وان يودعوه في مصحّ عقلي بأول مدينة يستقبلونها في بلدهم للكشف والتحري والتحقيق عن حالته بين يقين دعواه وعجزه عن ايجاد براهين مقنعة ومقبولة بمواجهة وجوه متيّبسة جامدة وعقول ما مارست خبرتها الّا في مدارس صنع المؤمرة وكيفية كشفها وفضحها واعلانها لنيل حظوة وتقدير ومدالية.. عندما ارتسمت في مخيلتي لوحة مثل هذه المواجهة المتوقعة الخائبة والباردة مع امن الحدود.. اشرق واضاء عقلي وعينيّ وحواسي نور خاطف من وجه تلك الظبية الضابطة بلباس الشرطة الجميل بلونيه الازرق والابيض مع خصلات الذهب المتدلية من حوافي القبعة البيضاء المزهرة ونجمتين ذهبيتين باعلى الكتفين ورشاقة خصر وعذوبة نظرات حالمة لعينين خضراوين وابتسامة حانية ثابتة.. ياه حصل ذلك من عشرين سنة وبعد ان اجتاز به قطار اوربا الثلجي ساعات من ايام طويلة تجاوز فيها اكثر من بلد ومدينة وقرية حتى واجه بفجر الخير من ذلك اليوم الوجه الملائكي الحنون في محطة هادئة بقرية على مشارف وارشو.. طاب له ان يقارن بين الحالتين.. ذلك الصباح بالوجه البهيّ وباطمئنان ان جوازه معتمد عالميا وباطمئنان ما ملأ سمعه وانعش روحه من قبل بوسامته الذكورية المثيرة.. هيأته ثقة وحقيبته لا تحمل الا ما خفّ من حاجيات لضرورات سائح عابر.. حقيبة صغيرة حاملها بوجه مضيء بسمرة القمح.. هو يعرف انه وسيم وهي ليست المرّة الاولى ما يحصل له الان.. لكن الحالة بدت له سريعة ومفاجئة عن كل تجاربه السابقة مع الجميلات.. حالة الضابطة البولونية نبّهت حتى حارسها الشرطي الكهل ان المصيدة هذه المرّة كانت اسرع وان عيني مسؤولة امن القطار الخضراوين الحريصة على مراقبة الداخلين وبخصوصيّة الاجانب قد زاغت عن دفترها المفتوح وأسئلتها المكرّرة لتستقر على وجهي وشعري وصدري في انتقالات سريعة لاهفة، وهي اللبقة الساخرة الثرثارة بدا للشرطي الكهل انها فقدت لسانها كتلميذة شاطرة وتحولت لمستمعة صامتة، خضرة عينيها هو ما كان يضيء وجه الوسيم ولا يبارحه.. عندها شعر الشرطي ان وجوده معها صار زائداً بل محرجاً ومؤذيا لها.. وسرعان ما وجد له عذراً انه سيعود للاطمئنان على صحة زميله الشرطي الخافر الاخر القابع في غرفة الاستراحة الملاصقة لقاطرة القيادة بسبب حالة من حمّى راعشة ببرد ذلك الصباح الثلجي المتجلد.. يستعيد ويسترجع الصورة بتلذذ.. هو في مقصورته وهي ببابها، ومع كل جاذبية الرجل وسحره ما نسيت وظيفتها كمسؤولة امن.. طلبت جوازه.. فحصته بدقّة.. سألته عما يملك من نقود اجنبية ومصادرها وعما يحمله من عملة بلادها.. كم من الزلوتيات؟ كم سيمكث في بلدها ؟ هل هو في مهمة رسمية ام سائح وقتي ؟ فتحت حقيبته الخفيفة الصغيرة ونثرت ما فيها خارجاً رغم ان كل ما فيها كان مكشوفا، سألته ان كان يحمل مسدساّ مرخّصاً او غير مرخّص، وهل يخبيء حبيبات مخدرات، ايّة مخدرات، بثقة بالغة واطمئنان هاديء نفى صابرا ومنزعجاً معا ان تحسبه من امثال رجال التهريب، اخجله واحزنه ذلك، صدمته مقارنته بين وداعتها الظاهرة وبين ما تثيره من اسئلة وشبهات مقرفة، مدّت يدها لجيوب سترته وبنطلونه، ومررت الاخرى تحت بلوز الصوف، تحسّس دفء يدها وهي تكاد تدعك شعر صدره الاثيث، كل ملبوسه وجهاً وظهراً ما سلم من تمرير اصابعها، ولولا استئناسه بملامسة اصابعها ودفئها لازعجه امرها..انهت كل شيء وظلّت واقفة تجاهه وقد عادت لها حالة استنطاقها ومراوغتها للوجه الجميل..ضيف هذا الصباح العابر والهادف لوطنها.. نظرات مسؤولة الامن الفاحصة الشكّاكة قبل لحظات استحالت لنظرات وجد مكشوفة.. عندما همّت ان تدخل لتحتضنها المقصورة مجرّدة من كل وظيفة ونجمة، لعلع الصوت الاجشّ لشريكها المرافق العائد مطمئناً ان صحة زميله قد تحسنت قليلاً، وان عليها الاسراع في تنفيذ مهماتها فالفجر غدا صبحاً وشمساً اشرقت وان اولى عمائر وارشو مرئية بوضوح وما عادت المحطة المركزية بعيدة.. عندما نطق الشرطي بكلماته المحدّدة شبه الآمرة انعكس الحال وتقزّمت الضابطة اذ اجفلت كلمات شرطيها احلامها الهانئة.. منذ البداية كانت متوجّسة مضطربة، فهي تعرف نظام بلدها البوليسي – وهي جزء فاعل منه – وشمّت من كلمات شرطيّها شكوكاً بتقصير في واجبها، واقلّ من ذلك الشكّ كان كفيلا بخلع واقتلاع نجماتها مترنّحة لاقرب كومة من قمامة وهي تعرف ايضاً ان شرطيها في مثل هذه الحالة وشبيهاتها سيظل راسخاً في عمله وربّما استفادت اسرته من هدية نقود كومة زلوتيات، تمنحها الدائرة وكتاب شكر تقديراً لحالة وعيه وانتباهته وحسّه الوطني وحرصه على مستقبل بولنده.. ذلك الشرطي ما كان رقماً ضئيلاً واحداً ووحيداً.. امثاله كانوا بالالاف وفي كل مفاصل الدولة ومجتمعها المفجوع.. عندها غام وجه الحلوة المشتهاة وبدون ان تمنح نفسها فرصة ضئيلة لوعي عقلي، صفقت باب مقصورتي بضربة قويّة مفاجئة بحذائها الجلدي الطويل، لو كان باب المقصورة من خشب لتهشم وتساقط، لكنه كان بمعدن صلب مما يصنع منه لابواب السجون والمعتقلات وسراديب التعذيب والغرف الضيّقة للحبس الانفرادي وكل خوانق الحرّية المزدهرة في بلدها..

لا أدري لم استرجع ذلك المشهد وقد مضى عليه عقدان من عمر السنين، ولكنه المشهد الجميل الاكثر اثارة وبهجة من مشاهد كثيرة في حياته، حتى تلك الركلة الغاضبة المفاجئة التي عكّرت صفاء خضرة عينيها بحمرة خانقة رأى فيها شاهداً حيوياً على ما كان سيحصل للظبية النافرة من عيد مثير في تلك المقصورة لو لم يقمعها هادم اللذات.. ذلك الشرطي الجامد، الصورة الان مغايرة ومقرفة.. غريب اسيوي شبه عارٍ حافٍ وجائع.. بلا جواز او اية وثيقة او وريقة بلسان واحد وبمواجهة السنة مختلفة.. حتى هو اقتنع او اقنع نفسه بألا يأمل أي شيء من الاتي.. هذا هو قدره حتى لو جاء بأقسى نهاية، فهم حتى لو قست قلوبهم معه سيكونون معذورين لحالة يواجهونها ربّما لاول مرّة، فمثلما هو مضطرب وحائر وضائع فقد تكون حالتهم شبيهة به في تردّدهم باتخاذ قرار على عجل.. ايّ قرار لا يدري ان كان سيرديه او يفتح له بصيص ضوء شحيح من امل خافت.. هو الان يواجه مأزقه بصمت وبلاهة.. رغم ذلك تكرّرت عودة ذلك الوجه الجميل.. عبرت روحه بسمة ذلك الوجه المضيء في صباح غابر جميل ومن ضربة الجنون الثأرية بالحذاء المطاطي الثقيل على باب المقصورة الكالح.. ما أزعجته الضربة بل ما وجد في روحه أي صدى أو رد فعل بل حسبها تحيّة خائبة.. ابتسم فقط متمنيّاً لو أنّ جدّته شهرزاد كانت صاحية ذلك الصباح لتضيف لتلفيق حكاياتها ولو حكاية صحيحة عن طغيان فرح جنوني لجسدين كادا ان يتناغما بسعادات حسيّة لأسيوي وسيم وبأحلى ملامح رجولية وأوربية كأنها مصبوغة ومعجونة من زهر زبدة وعطر وعسل وبلون من نوارس وطنها البحرية البيض وبعينين كأنهما الحلم، ولكن بدا له أن شهرزاد الحكايا كانت قد انهت نوبتها تلك الليلة وكان الفجر هو موعدها الصمت والسكوت عن الكلام المباح.. أيّ كلام مباح وغير مباح ومع اولى صيحات الديكة المؤذّنة فتقضم شهوتها المتوالدة للحكي مؤجّلة حكاية جديدة لمليكها الابله البليد لليلة مغمومة بالبحث عما يطفيء نزعته الشريرة الدموية لافناء بنات جنسها، ثم هي عند الفجر تكون قد هجعت ونامت متعبة منهكة من سهر طويل ومن عمل مخيّلة شيطانية تتوالد فيها الحكايا كقطرات مطر منهمر.. ظلّ يتمنى لو انها كانت يقظة، عندها كانت ستضيف للياليها حكاية اخرى جديدة طريّة تصف فيها احتراق الثلج بنار شموس موقدة مشتعلة..

تلك سنين خلت وذلك الصباح ما عاد مرئيا بسهولة ووضوح وقد اضحى ملمحاً باهتاً من غيمة خفيفة عابرة في ضباب معتم كثيف، وحتى لو انقشع شيء من ضباب تلك الذكرى المؤسية بنهايتها الخائبة، فان ما يؤمّله الان ويحلم به ويجّسده في عقله وعينيه ومشاعره هو صورة وملامح من سيكونون اسياد مصيره بعد ساعات قليلة، مصير انسان يقسم انه اعتلى حافلة وليس قطاراً، ولكن من سيصدّق رجلاً حافيا مهزولاً جائعاً متعباً ساهراً محمرّ العينين وبلا حقيبة او جواز او اية هوية او اية ورقة فيها اسم او عنوان اودلالة ؟؟

استمر القطار الذهبي المسحور وبترف وجوه راكبيه المفعمة بالجمال والشبع والعافية وبكل الوان الموسيقى العازفة، بكل الوان الثياب المزهوّة، بكل هيبة الرجال الواثقين من سحر ومتانة ومناعة مشروعهم السياحي الجميل في سفرة العمر، بكل غنج النساء وعطرهنّ الملائكي المثير، بكل العاب الصغار الغرائبية وصورها الالكترونية المبهرة وكأنها ليست من دنيا الارض بل ومن كائنات فضائية مغايرة لأي شبيه لها على هذه الارض، وبكل ما طغت به موائد مطاعمهم من مآكل الارض والبحر والسماء والطير والشجر وبكل تعبير عن سعادات امثال هؤلاء ومسميات ما سمعت بها آذان ابناء الجوع…

هو.. هو فقط ما يزال مركوناً بزاوية شبه مظلمة ينتظر ان تنهي اخر صرخة لصافرة القطار مشكلته ومعاناته ببلوغ الحدود.. تلك الوجوه المستقبلة له وقد رسم لها في ذهنه أشكالاً بشعة شتّى كان اجملها واكثرها قبولاً وجوهاً لشياطين وخنازير وخراتيت وقردة وبوم.. كان مرتعباً، ما كان خائفاً، كان قلقاً الا يصدّقوه وهو يمنعهم عذراً لذلك.. ان يسلّموه لمركز شرطة او سجن او مصحّة عقلية.. كان يخشى ان يجتزّوا شعره ويلبسوه زيّاً رماديّاً موحّداً مرقوماً والاكثر خشية ان يحسبوه مجنوناً خطيراً او جاسوساً متخفيّاً ان يخضعوه لجلسات وصعقات كهربائية موجعة وحشية واليمة.. بعد ان يفارقوا ما بين اسنانه بحاجز مطاطي سميك، وبعد كل عملية يظل ليوم ويومين مصعوقاً مشلول الجسد والعقل لا يدرك ما حلّ به ولماذا ؟ والاقسى رعبه من اولئك الممرّضين المخيفين وقد اختاروهم من اشدّاء الاجسام بمقاييس حجوم ثيران وحشيّة اقوياء اللكمات ومن محترفي عدوانية لئيمة ضد مرضى بؤساء تائهين وبضربات عصيّ حارقة تترك خطوطها واشراطها في اجسادهم الواهية.. هو لا يتخيّل ما سيحصل له في مصحّة عقلية بل يراه قدراً مرعباً ان حصل فقد خبر ذلك في عمله فيها محاسباً.. هو لن ينسى ابداً وكانها جروحه وشروخه ووجعه المرّ، بعض ممن كانوا يضاعفون لهم الصعقات الكهربائية من عتاة المجانين.. يصرخون، يهتزون وجعاً لا انسانيّاً وحتى ذلك الحاجز المطاطي السميك الذي يثبتونه بين صفيّ الاسنان حماية للسان ولحم الفم لم تعد له فائدة بل تتمزق اطراف منه لفوّة الضغط القاهر على الاسنان من وجع مخيف مما يجعل مسيلاً من دم ولعاب يتجاوز الفم المفتوح وربّما حمل معه مكسّرات من اسنان.. عندما تكرّرت مشاهداتي لتلك الوحشية – وهي علاج – ما عدت احتمل.. تركت العمل دون ان اكمل فيه شهراً.. وكنت اسعى لتبديد شبح ذاكرة تعذيب اولئك الموجوعين لمواجهة الاتي من قدر مجهول…

كنت اخشى ان تتعدد وتكثر الوجوه والبلدان.. اخشى ان تطول بي سنيّ التيه، اخشى من تطاول شيخوختي وان تمتد وتعمّر مهدّدة بشحوب الذاكرة وحتى نضوبها نهائيّاً وقد مسحت من عينيّ كل ملمح وصورة وذكرى لأيّ شيء، ولكن اقسى ما كنت اخشاه من هذه الحالة أن انسى وطني وأهلي في دروب بعيدة ليس فيها غير دثار من برد وصمت وثلوج متجمّدة قاسية…



إحالات :

1 – كثير من جنون الاحلام والمخيّلة وقليل من عقلانياتها
2 – قراءة غير واعية او مصدّقة لكتاب مستقبلي عن صناعة القطارات
3 – بعض من اكاذيب ماركيز الحكائية الذي عندما جاءه هاتف من صديق فجراً مهنئاً اياه بفوزه بنوبل ردّ عليه شاكراً صارخاً وبفرحة الفوز الكبير : ( لقد انطلت عليهم الاكاذيب ) ويقصد بذلك لجنة نوبل.
4 – الزلوتي : العملة البولندية المعروفة بقيمتها الشرائية البائسة المتدنية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى