عباس محمود العقاد - العدل الإنساني في جرائم الحروب

كان بعض النقاد الأوربيين يكتبون عن حروب الإسلام الأولى فيذكرون منها في معرض النقد أن النبي عليه السلام كان يأمر بعقاب المشركين الذين أساءوا إلى المستضعفين كلما ظفر بهم بعد معركة من المعارك، ويحسبون أن عقوبة المقاتل لا تجوز لخصمه لأنه غير مسئول أمامه في شرعة القانون.

ومن الواضح أن هؤلاء النقاد قد نسوا أو تناسوا أن الأنبياء مطالبون بإصلاح الفساد حيث كان وليسوا هم حكومة من الحكومات تحاط دعوتهم بالأقاليم والحدود، فيجوز لهم على هذا الاعتبار ما ليس يجوز لساسة الدول وقواد الجيوش.

ولكن تشاء الأيام - بعد أربعة عشر قرناً - أن يأخذ الأوربيون بمبدأ معاقبة المقاتلين الذين يقترفون الجرائم سواء في ساحة القتال أو في غير ساحة القتال، وأن يبنوا ذلك على قاعدة مقررة لا يكثر الخلاف عليها، وهي أن الدول تسأل عن جرائمها وسيئاتها، فلا موجب لأن يعفى أفرادها - أو أجزاؤها - من العقاب، ولا يصح أن يخليهم من التبعة أنهم كانوا مأمورين مكرهين على الطاعة. فإن المتهم المكره لا يعفى من العقاب، وإن جاز أن تلاحظ حالة الإكراه في تقدير عقابه، إذا ثبت أنه كان مسوقاً إلى جناية بأمر رؤسائه وأصحاب السلطان عليه.

فالآن يجوز للخصم المقاتل الذي لا يطالب بما يطالب به الأنبياء من تعميم الإصلاح - أن يحاسب خصمه ويعاقبه على الجرائم التي تخالف القانون في بلاده. فإن كان القانون في بلاده لا يحرم الجرائم النكراء فقد سقط حقه في حماية الإنسانية وحماية الشريعة، وجاز أن ينال العقاب على هذا الاعتبار.

أما الجرائم التي يحاسب عليها المقاتلون فهي القتل والتحريض عليه، والغدر في طلب الإيواء أو اصطناع المرض والإصابة، واستخدام السموم والأسلحة المتفق على منعها، والإجهاز على الجرحى المستسلمين، والقسوة على الأسرى والمصابين بالجروح والأمراض أو اختلاس أموالهم التي لا تعتبر من الأموال العمومية، والتمثيل المعيب بجثث القتلى والأموات، والاعتداء على المستشفيات والمعابد والمدارس ومخلفات الفنون والآثار، وإغراق السفن المستسلمة وتخريب المدن المفتوحة التي لا يدافع عنها، واتخاذ ملابس الجيش الآخر للغدر والتغرير، ونقض العهود أو شروط التسريح.

هذه وأمثالها هي الجرائم التي تجيز الدول اليوم أن يساق مرتكبوها إلى القضاء، وأن يتلقوا عليها عقاباً قد يصل إلى الموت

ولم يعرف عن النبي عليه السلام أنه عاقب أحداً من المشركين على جريمة غير هذه الجرائم وأمثالها، ولا سيما الغدر ونقص الكلمة وتعذيب المستضعفين.

ونقول إن الدول الحديثة قد صنعت خيراً بتقرير هذا المبدأ السليم في جرائم الحروب، وأن العمل بهذا المبدأ سيفيد بعض الفائدة وإن لم تمتنع به الجرائم كل الإمتناع، لأن الجندي الذي يستحضر هذه العقوبات وهو يحمل السلاح خليق أن يتورع عن العدوان مخافة القصاص عند الهزيمة، وهو لا يأمن الهزيمة كل الأمان ولا يضمن النصر في جميع الأحوال.

وليس من الظلم أن يحيق العقاب بمن يؤمر فيطيع، لأن الرجل الذي يمثل بالأبرياء ويهتك الأعراض ويقترف المحرمات لأنه أمر بذلك فأطاع لا يعفى من العقاب في وطنه ولا يخليه من التبعة أن يحيل الذنب على آمريه. فلا اختلاف في الأمر إذا حمل السلاح وتجرد للقتال.

وإنما الظلم في رأينا أن يقصر على المجرمين في الأمم المهزومة دون المجرمين في الأمم المنصورة، لأن الذي يعاقب على الذنب أولى أن يتجنبه ولا يغضي عنه، وإلا سقطت حجته في الإدانة وتوقيع الجزاء.

نعم إنه منطق الواقع الذي تقرره القوة، ولكن حكم القوة وحكم الشريعة لا يتفقان، فلا شريعة حيث يفعل القوي ما يشاء، ولا قوة حيث يجري العدل في مجراه.

وربما تعذرت التسوية بين المهزومين والمنتصرين في الوقت الحاضر أو في وقت قريب، لأننا لا نزال قريبين من أحكام الحرب التي لا تحرم على المقاتل وزراً يقترفه في حق إنسان يناصبه العداء أو يلقي له يد السلم على ملأ من الناس.

ولكننا نرجو أن تبلغ الإنسانية هذه المرتبة الرفيعة بعد خطوات لعلها لا تطول.

وأول هذه الخطوات أن تقام في بلاد المنتصرين أنفسهم محاكم مستقلة على مثال محكمة الغنائم التي تفصل في المنازعات بين حكوماتها وبعض الأفراد المحايدين أو المنسوبين إلى الأعداء. فقد حدث غير مرة أن قضت هذه المحاكم المستقلة على حكوماتها بالغرامة والتعويض، فكان فخر الحكومات بقضائها المستقل أنفع للأمة من كل مال تخسره في ساحة القضاء.

فإذا قامت هذه المحاكم وجب أن يباح لكل إنسان في أمة منهزمة أن يتقدم إليها بالشكوى من الجنايات التي اقترفها الجنود المنتصرون، وأن يدان الجناة بالعقوبات التي يدان بها المنهزمون، متى ثبتت جنايتهم بالبرهان الذي لا يقبل المحال.

وموضع الصعوبة هنا أن تعتبر شهادة المنهزم لتأييد دعوى المنهزم وكلاهما موتور متهم النية والشعور، ولكن الوقائع لا تثبت كلها بالشهادات، وليست الشهادات كلها مع هذا بالتي يلتبس فيها الحق والباطل كل الالتباس.

والخطوة الثانية في طريق العدل الإنساني بصدد الجرائم التي تقترف أثناء الحروب أن يؤخذ حق القضاء من الدول المنفردة ويوكل إلى هيئة عالمية يتبع في تأليفها نظام لا تغيره الهزائم والانتصارات، ويعرف أعضاؤها وأصول المقاضاة بين يديها قبل أن تعرف مصائر الحروب.

والخطوة الأخيرة - ولعلها لا تحسب من أحلام الخيال - أن تفلح الهيئات الدولية والمواثيق العالمية في منع الحروب وفض الخصومات من طريق التحكيم، فلا حروب ولا جنايات في أثناء الحروب ولا محاكمات أو عقوبات من جراء تلك الجنايات.

فإذا كان هذا حلماً من أحلام الخيال فدونه في الطمع أن تقع الحروب ولكن على الفيصل الواضح بين المحقين والمبطلين، فيتسنى للعالم كله أن ينصر المحق على المبطل، وأن يحصر شرور القتال في أضيق الحدود.

منى إن تكن حقاً تكن أعذب المنى! وإلا فهي على كل حال خير من اليأس الدائم من كل مصير.

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 643
بتاريخ: 29 - 10 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى