محمود سعيد - قوس قزح.. قصة قصيرة

اندفع مجموعة من الصبية والشباب نحو باب الحديقة ما أن توقفت سيارة الإجرة، وما أن تبينوا وجه المرأة حتى ضجوا جميعاً:

- وصلت الخالة رجاء، وصلت.

قالت الكهلة المتعبة بصوت ضعيف قبل أن تنهي عناقهم:

بشِّروا..كيف هي؟

زينة.

الحمد لله.

ترقرق الدمع في عينيها، نظرت إلى السماء شاكرة وهي مستسلمة لعناق أولاد وبنات أخواتها الذين ما فتئوا يندفعون نحوها، تاركة لهم جسدها النحيل يعصرونه ويشدون عليه كيفما يشاؤون، ويقبلون وجنتيها، وجبهتها، وعيناها تتجول في أرجاء الحديقة الكبيرة التي شهدت نموها، مراهقتها، زواجها، وبدت لها كالصلعاء من دون شجرة السدر الضخمة التي كانت تظلل الواجهة، بالرغم من الورود الكثيرة التي زرعت فيها بعناية وتحت إشراف أمها، قالوا لها أصيبت بالأرضة، لأن البيت ترك طيلة الحرب، ثم قطعت، افتقدت كذلك الأرجوحة التي كانت تدرس عليها مع أختها "منى" ساعات طويلات، منى تستظهر دروسها على القلب، أما هي فتقرأ بصمت، وتتسلى بحب البطيخ الأحمر، تتأرجحان وهما تصرخان بين الحين والحين لإبعاد الصغار الذين يلتصقون، ويهومون كالذباب، احتلت الحديقة بدل السدرة أربع نخلات، قالت لها أمها حينما زرعتها أنها برحية، وثلاثة أنواع نادرة.

فجأة فُتح باب البيت الداخلي، وخرجت منه امرأتان تجاوزتا الأربعين، كبراهما طويلة ممتلئة والأخرى أقصر منها، ركضتا نحوها، مدت الأولى يديها لتتلقاها، بينما هتفت الثانية والابتسامة تملأ وجهها:

- لم نتوقع وصولك قبل الغد.

- حتى أنا، ربك سهلها، بعد مكالمتكم اتصلت بمطار دبي قالوا طائرة بعد خمس ساعات، وصلنا إلى عمان في العاشرة صباحاً، ومن هناك "تكسي" إلى ساحة السيارات العراقية، أخذت سيارة وحدي، لكنا تأخرنا بطريبيل أربع ساعات، تفتيش، وتعقيم، وانتظار، طلعوا روحنا، ما صدقنا نخلص منهم، وصلت بغداد اليوم، الصبح، السابعة، أسهل شيء كان طريق البصرة، ما أخذ إلا ست ساعات، الآن الساعة ثنتين..يعني ثلاث وثلاثين ساعة بالطريق..اندقت عظامي..بس أريد أن أشوفها.

- ساعدك الله..

- كن يسرن في الممر ويتكلمن، لكن القصيرة انفجرت تبكي، وهي تتعلق برجاء، فربتت هذه على كتفها تهدئها:

- لا تقنطي من رحمة الله ..ستشفى إن شاء الله.

غاصت في بكائها بعمق أكبر، وأشد..أخذت تنتفض بين ذراعي أختها الكبرى، في الوقت الذي ابتعدت مجموعة الشباب عنهن، خرجوا إلى الشارع فهدأت الحديقة إلا من زقزقة العصافير الصاخبة، كانت الكلمات تتدفق من أعماق الصغرى مذابة بالعذاب والدمع، وكانت تشهق بين الحين والحين:



- من سيقف معنا؟ كيف سندفع الإيجار؟ من أين لنا أقساط الجامعة وليث في سنته الأخيرة؟ أين سنذهب؟ كانوا يرسلون لها من الخارج وهي تساعدنا، وإن توفت لا سمح الله فمن سيتذكرنا؟

ربتت رجاء على ظهرها، وهي تغالب الدمع:

- ستعيش إن شاء الله، إن هي إلا وعكة! لا تخافي.

- لكن الطبيب قال لا تبقى أكثر من ثلاثة أيام و..

وقاطعت الطويلة:

- على كلام الطبيب يجب أن تكون ماتت اليوم.. صبحاً..الحياة بيد الله.

- لكني خائفة..لم ينزل في حلقها شيء منذ ذلك الوقت.

- لا تقلقي.. مادمت أنا حية فسأذكّر اخوتنا بحاجتكن، أربعة اخوة لا واحد ولا اثنين، أربعتهم يعملون في الخارج، حالتهم زينة، مستقرون، ما يرسلونه لكم كل شهر يصرفه ولد من أولادهم في يوم واحد، لماذا الأخوة إن لم تكن لليوم الصعب! لا تخافي، إننا نلتقي باستمرار هناك، توكلي على الله..دعوني أرها.

ثم اندفعت نحو الداخل وهي تمسح عينيها، وتغص بكلماتها، تجاوزت الممر الضيق والصغير، عبرت المطبخ وانحناءة الدرج، أسرعت إلى غرفة كبيرة مفتوحة، حيث يستقر فراش يرتفع بضع سنتمترات عن الأرض فوق سجادة فارسية حمراء، امرأة نحيفة في نهاية السبعينات انكمش جسدها على بعضه، فباتت وكأنها هيكل عظمي يغطيه جلد كان ينبض بالحياة يوماً ما، بياض ناصع يميل إلى صفرة العاج، عينان مغمضتان، جديلتا شعر مصبوغ بسواد أبنوسي يفضحه شيب يلمع في منابت الشعر، وإلى قربها امرأة أخرى نحيفة، سمراء في بداية الثلاثينات تمسك يمنى العجوز بين راحتيها، ابتسمت ما أن رأت أخواتها، همست السمراء بإذن العجوز:

- ماما ..جاءت رجاء.

ارتجفت شفتا العجوز، لكنها لم تبتسم، نهضت السمراء من مكانها، فانحنت رجاء على أمها، أخذت تقبلها، جلست إلى جانبها، تناولت يدها، لثمتها أكثر من مرة، تحرك جفنا العجوز، لكنهما بقيا مغلقين، لم تفتح عينيها، قالت بصوت ضعيف:

- ليش تعذبت؟ يومين أم ثلاثة بالطريق؟

ضبطت رجاء نفسها من البكاء.

- كم أم لي؟

ابتسمت العجوز.

- شلونهم.

- كلهم بخير.

- طلَّق؟

- نعم ماما.. أسعد طلق..وراح يتزوج!

- عراقية؟

- لا ماما ..لكن بنت حلوة، ومؤدبة.

انفرج ما حول فم العجوز، لم تقل أي كلمة، تنهدت بعمق، لكن رجاء أحست بأصابعها تضغط بشكل خفيف على يدها، فعلمت أنها تريد المزيد من المعلومات، قالت:

- فخري ونصير وإحسان كلهم بخير، هم وأولادهم، نلتقي باستمرار، تقريباً كل جمعة، ببيت فخري، مكانك خالٍ يا ماما، التكة، والكباب، والسمك المشوي، كأننا نعيش بالعراق قبل ما تصير الحرب، ستشفين إن شاء الله، وستقومين على رجليك، عروس أم أربعة عشر سنة، ستجيئين معي إلى دبي، يقولون سفينة راح تنقل الناس بعد شهر أو شهرين، غرفة أم سرير ملوكي، عريض، تنامين وتقعدين هناك، والأربعة كلهم، وأولادهم، ونساؤهم، سيحملونك على أكفهم، لا يجعلونك تدوسين على الأرض، بس قولي إن شاء الله و

واندفع طفل في السابعة، بسرعة شديدة، وقف في وسط الغرفة، نظر إلى صغرى النساء، صرخ بكل ما يملك من قوة:

- ماما..ماما، قوس قزح..تعالي شوفي..قوس قزح كبير..ماما..تعالي شوفي..الشمس طالعة هنا ..ومطر هناك.

ابتسمت النسوة، لكن أمه تكهربت، كزّت أسنانها، وضعت أصبعها على فمها، همست وهي تنهض نحوه:

- هس.. يا مكلوب .. كم مرة أوصيتك لا..

قاطعت رجاء: دعيه..ألا تعرفين أنها تحب الأطفال!

دبت الحياة في العجوز، انفرجت أساريرها، ضحكت الابنة الطويلة، خاطبت رجاء:

- أنت ساحرة، أول مرة تبتسم أمي منذ ثلاثة أيام، انظري إليها.

كان وجنتا العجوز قد تحركتا، وزالت تجعدات الجلد حول الفم، وظهرت أسنانها البيض، خرج صوتها همساً:

- قوس قزح؟

- نعم ماما..قوس قزح..شمس الشموسة ماما، ربيع.

أحست بضغطة أصابع أمها على يدها مرة أخرى، ربتت عليها، قبلتها من جديد، ازدادت ابتسامة العجوز اتساعاً، شدت على يد ابنتها بوهن، حاولت أن تتكلم، فخرج الصوت كوشيش غصني شجرة عانقهما الريح.

- حبيبتي رجاء..كم صار عمرك؟

- عمري أنا يا ماما؟

- همم.

- اثنتين وستين سنة.

لم تسألها رجاء لماذا سألتها عن عمرها؟ كانت تقرأ أفكارها، كاشفتها وحدها بكل أسرارها.. كانت تقول لها أنت أختي أنا أكبر منك ست عشرة سنة فقط، وكانت تحب أن تركز ذلك الانطباع بالأخوة بمزيد من التصنع والتزيين.

انحنت رجاء على أمها، فرأت تقاطيعها تشع سعادة، وبدا أنها تريد أن تقص ذكرى حبيبة إليها لكن لسانها لم يكن يساعدها، ربتت على شعر أمها، قبلتها في رأسها، رددت العجوز مرة أخرى:

- قوس قزح..؟

- نعم ماما قوس قزح..وشمس الشموسة ..مطر وصحو بنفس الوقت.

- ماما رجاء..نزّلي الهدوم من السطح ..راح تمطر..

حدقت بناتها ببعضهن ذاهلات، كاشفتها وحدها بكل أسرارها..، همست الطويلة: جاء وقتها، صدق الطبيب، ثلاثة أيام وتغادر، بدأت تهذي.

ثم رفعت صوتها:

- ماما بسلامة أخوتنا الذين بالخارج..غسالاتنا كلها أوتوماتيك، تجفف الهدوم ..لا توجد واحدة تنشر الغسيل بالسطح..

قدحت عينا رجاء لوماً مشبوباً بالنار موجها نحو أختها، فصمتت الطويلة خجلى، شدت رجاء جسد أمها الناحل، همست بصوت حنون:

- ماما ..أما كنت تتعبين وأنت تصعدين وتنزلين لتنشري الغسيل في السطح؟

ابتسمت العجوز، بدا وكأنها لم تسمع، استمرت رجاء تداعبها:

- يا ملعونة كنت وحيدة..بيبي تدللك!

قرصتها من خدها برفق، ففتحت العجوز عينيها بسعادة لحظة، نظرت إلى لا شيء، ثم أغلقتهما وفرح عارم يطغى على تقاطيعها، ابتسمت الأخوات الثلاث، همست أصغرهن: فقط لو جاءت رجاء قبل أيام!

رددت العجوز: اثنتين وستين سنة؟ كبرت يا رجاء!

•نعم ماما كبرت ..ما السنين يا ماما؟..لحظات.

أحست بضغطة أصابع أمها على يدها، فشدتها برفق، ابتسمت العجوز، اثنتين وستين سنة عمر ابنتها! ياه..!نعم..صدقت رجاء، العمر لحظة واحدة لا لحظات! أجمل ذكرى في حياتها مرت قبل مجيء رجاء بسنتين، قبل أن تتزوج بسنتين، كان عمرها أربع عشرة، كانت أمها تتوسل بها أن تجلب الغسيل من السطح، وكانت تتضايق من الصعود، وفجأة بدأت السماء تنث، توسلت بها أمها مرة أخرى أن تجلب الغسيل قبل أن تنقعه المطر، عاندت كالعادة، يعجبها أن تتمنع قبل تلبية كل طلب، ثم استجابت أخيراً، صعدت إلى السطح، كانت قطرات المطر تدغدغها، وكانت ترتدي ثوباً من الشيت البرتقالي المطبوع بالأحمر، وكانت أمها تتباهى بجمالها، وقوام جسدها، وتناسقه، تدللها، تقبلها، تعانقها، لا تحاول أن تضغط عليها بأي شكل من الأشكال، لا تدعها تفعل أي شيء إلا برضاها، ولولا تلك الحمى التي انتوشتها قبل يومين لما طلبت منها أن تنزل الغسيل من السطح، وكانت هي تستسلم لذلك الدلال، حكم القدر، :أليست وحيدة أبويها؟ ولما صعدت الدرج نحو السطح كانت حبات المطر إبراً باردة تزرق وجهها، رأسها، كل جسدها بانتعاشة باردة لكنها غير منفرة، ثم صعقها حدث العمر الذي ما زال حياً حتى الآن في أعماقها، حدث ما سمرها في مكانها قبل أن تلم الغسيل من الحبل المنشور عليه، لم تدر كيف التفتت إلى الشمال! كانت أسيرة منظر قوس قزح! زاهٍ، كبير، عريض، يقسم الأفق قسمين، ألوان آسرة حبيبة حميمية، بنفسجي، أزرق، أحمر ناري..يا للجمال! ثم قطع استغراقها صوت أمها من الداخل:

- ماما أنت بخير؟ ..ليش تأخرت؟

- قوس قزح..شمس الشموسة.

- أسرعي لئلا تأخذي برد ..انزلي بسرعة..

- زين ماما..

- لا تتكئي على حائط الستارة، إنه واهٍ، واقف بالحيلة، ما أن تستندي عليه يقع هو وأنت.

- أعرف ماما..لا تخافي عليّ، لست صغيرة.. خمسين مرة قلتِ لي ذلك..

بدأت القطرات تبلل الملابس، ركضت إليها، لكنها إن نُشرت في الغرفة على الكراسي فستجف بعد قليل، بدأت بملابسها الداخلية، طوت فانيلتها، أرادت أن تضعها على الحائط المتآكل لكنها غيرت رأيها، تذكرت تحذيرات أمها، رأت فتحة فيه سببها تآكل طابوقة كاملة تركت فراغاً فيه، وضعت الفانيلة على الحبل، هب الهواء، طارت، تلقفتها قبل أن تسقط، طوتها من جديد، وضعتها بين فخذيها، تلك الحركة تطلبت منها أن تنحني بصورة غير إرادية، وحينما فعلت ذلك نظرت من فجوة الحائط المفتوحة، فرأت حدث العمر، ما التصق بذاكرتها ولم ينمحِ قط، أصبح جزءاً منها، لماذا لم تسطع أن تنساه طيلة تلك المدة المديدة! بطل الحادثة عامل سكك الحديد علوان الذي لم يثر انتباهها قط، يروح ويجئ منكس الرأس، لا ينظر إلى أي فتاة، في نحو الخامسة والعشرين، أسمر، نحيف، متوسط الطول، أجّر البيت المقابل قبل بضعة أشهر ليتزوج فيه، البيت خرابة، ليس فيه شيء صالح للسكن إلا غرفة يتيمة في طابقه العلوي يُصعد إليها بدرج دائري، لكنها بعد أيام رأت زوجته بشرى العمارتية غير مرة، ممتلئة بيضاء ناصعة يشتعل خداها احمراراً دائماً، مع حول بسيط في العين اليسرى، شفتان رقيقتان، شهوانيتان، عريضتان، فم واسع، لسان عذب كالشهد، ما أن تراها حتى تندلق الكلمات من فمها: حبي، حياتي، عمري، كيف أنت؟ كيف أمك؟ كيف صديقتك فخرية؟ كيف؟ آلاف الأسئلة تنهال في وقت واحد، تخجل، تسكت، لا تعرف كيف تجيب، وعلى أي سؤال تجيب، وماذا تجيب، لكنها تشعر بحميمة وأمان لا تدري سببهما، كأن بشرى شقيقتها، كأنها عاشت معها، وحينما رأت فخرية صديقتها تأتي كل يوم عندها، وتعرفت إليها، أصبحت كل يوم تصر على رؤيتهما والثرثرة معهما، ورواية أكثر النكات المضحكة لهما، بعد ذلك أصبحت فخرية تنافسها على الإعجاب ببشرى.

من فجوة الحائط رأت عامل السكك علوان يحتضن بشرى زوجته، كانا واقفين بباب الغرفة، هو بملابس العمل، قطعة واحدة زرقاء ملوثة بالسخام، والدهون، والعرق، وبشرى بدشداشة البازة البيضاء المنقطة بالأحمر، لم ترَ وجهها، كان شعرها الكثيف يحجب تقاطيعها، وكان علوان يشدها من تحت الثديين وهو ملتحم بها من ظهرها، يقبلها على ما يظهر عارياً من رقبتها من الخلف، ولم تدر لماذا استدارا، أصبحا موجهين لها، لكنهما مغمضي العينين، ماذا رأت من فجوة الحائط؟ ثورة جسدين أم نشوة؟ أخذت ترتجف، لم تشعر بتساقط حبات المطر المنهمرة، ماذا يجعلها تتسمر في مكانها لا تتحرك؟ أنفاسها تتلاهث، ورجلاها مضطربتان، ليست هي من تتعرض للتجربة، إنها بشرى، عبر الشارع، لكنها هي التي تهتز، ياللنشوة! ماذا سيفعلان بعد ذلك؟ اقتربت من الجدار أكثر مما قبل، أحست برأسها ينطحه، لكنه لم يتهاوى كما كانت أمها تتوقع، لم يسقط الجدار ولم تسقط معه، اشتدت زخة المطر، كان الماء بارداً ولذيذاً يلامس بشرتها، وينزل إلى أعضائها كلها، معبقاً بغلمة بشرى، ورائحة جسدها، وجنون اللحظة التي تذيبها، وفجأة أنزل يديه ورفع عنها دشداشة البازة ورماها في الغرفة فشع جسد بشرى متوهجاً كالشمس، عارياً إلا من لباس وردي حريري صغير تتمرد ذؤابات شعر قهوائي يميل إلى الاصفرار من تحته، آنذاك لاحظت انتفاخة بطنها الصغيرة، لابد أنها حامل، ربما بشهرها الرابع، لكن ثدييها كانا عامرين ناهدين صلبين ينتهيان بقمعين قهوائيين، وبدت يدا علوان السمراوين وكأنهما مصبوغتين بطلاء رمادي فوق جسد بشرى الناصع، لكنهما كانتا ملتهبتين بسعار جنوني لا تستقران على موضع، تتحركان بمهارة ورقة فنان رفيع، على الرقبة، الثديين، السرة، ما تحتها، الفخذين، الوركين، الساقين، وفجأة استعادت بشرى المبادرة، استدارت إليه، أخذت تفك أزرار بذلة العمل الزرقاء، أنزعته إياها مع الفانيلة السمراء المتسخة من العرق، ثم..ثم فجأة بدا عارياً كلية، لأول مرة ترى في حياتها رجلاً عارياً ومتوتراً، لم تدرِ لماذا توترت هي أيضاً، أذابتها دماؤها الساخنة، وخشيت على بشرى منه، لكنها رأتها تلف ساعديها البضين حول رأس زوجها لتكشف عن شعر ما تحت إبطها الأيمن الملتف النافر نحو الخارج، ولتبتلع بفمها الواسع شفتيه ملتحمة به، كادت تنفجر من التهيج، كانت الأحلام تسافر بها وهي تستمع لأقاصيص فخرية تصف لها مباهج الاقتراب من خطيبها، الذي عقد عليها قبل شهر، حلاوة القبلات التي لا تنتهي، تفجر اللمسات، لكن فخرية لم تتزوج بعد، لا تعرف كيف تصف الرجل عارياً، ومتوتراً، وكيف يلتحم بالأنثى، يا له من مشهد! أيمكن أن ينسى مثل هذا؟

- ماما ليش تأخرت؟..أين أنت؟..بدأت تزخ.

- نازلة الآن..

ما هذا؟ كيف لم تشعر بتلك الزخة العارمة، أغرقتها، نفذ ماء المطر البارد حتى جلدها، لكن دفء منظر الغرام اكتسح البرد والماء والمطر والهواء والوجود كله، وإذ حدقت بغرفة عامل السكك لم ترَ أي شيء، انسحب الزوجان إلى داخل الغرفة، لكنهما أبقيا باب الغرفة مفتوحاً، لو كانت هناك أكثر من طابوقة متآكلة لرأت بقية الفصل، لكن مع الأسسف.

تركت الملابس على الحبل كيفما كانت، نزلت تركض، لم تعنفها أمها أو تلُمْها، عانقتها، أنزعتها ملابسها، لفتها بمنشفة، أخذت تجفف شعرها، عاتبتها بحنان:

- ماذا كنت تفعلين يا ماما؟ ألا تخافين من أن تصابي بالبرد يا حبيبتي؟

- قوس قزح..

قهقهت أمها، ضمتها إليها:

- أنا مثلك ..كنت وما زلت مغرمة به..تعالي غطي جسدك ببطانية.

- ماما رجاء..

- نعم ماما.

- ما ذا حل بأولاد علوان عامل السكك؟

- أنت تعرفين ماما..أيوجد داعٍ لذكرهم! عندما مات أبوهم كان عمر الكبير إحدى عشرة سنة، كان عمري تسع سنوات، تتذكرين أننا كنا نساعدهم بكل نقدر عليه، بعدين صار سامر ابن علوان محامي مشهور؟

•الله لا يخليها على نوري السعيد..

همست إحدى البنات: مات قبل أن أولد.

كتمت الأخريات ضحكاتهن، لكن رجاء كانت ما تزال تربت على رأس أمها.

- لماذا قتل علوان عامل السكك؟..ماذا فعل؟ ''طلع''بالمظاهرات! أخوك فخري أيضاً طلع بالمظاهرات، يعني ماذا؟ لماذا قتله هو وأصدقاءه المساكين؟ إيش عملوا؟ الله انتقم منه، قتله، لا يضرب الناس بالحجارة.

ساد صمت لم يقطعه سوى زخة مطر قوي، ابتسمت العجوز:

- وفخرية؟

ابتسمت الأخوات، لكنهن لم ينبسن، ربتت رجاء على رأس أمها:

- تعرفين ماما..أعطتك عمرها..قبل عشر سنوات..

ضغطت على يد ابنتها، أخذت نفساً عميقاً، قالت لها فخرية، لنراقبه، مادام فعلها مرة فسيفعلها أخرى، أخذتا تقضيان فترة ما بعد الظهر في السطح، أضاعتا ساعات طويلة وهما تحاولان أن تزيحا طابوقة أخرى لتكبير الكوة التي تتلصصان منها على بشرى وزوجها، لم تكن المهمة سهلة، كانتا تخشيان أن يتداعى الحائط المتآكل كله، ولما أفلحتا احتفلتا بقنينتي "نامليت" منعش، لكن المنظر لم يتكرر، اكتشفتا بعد طول مراقبة وانتظار أنه لم يكن يرجع في الظهيرة إلا يوم الخميس، وحتى رجوعه في ذلك اليوم لم يكن منتظماً، فأحياناً لا يُرى إلا في المساء، وفي المرة الوحيدة التي رجع فيها في نفس الوقت، دخل الغرفة، نزع ملابسه، لبس بجامته المخططة، اتكأ على السرير، لم تلتحق به بشرى إلا بعد نصف ساعة وبيدها صينية الطعام، جلسا يأكلان، حتى أنه لم يداعبها كما كانا يحلمان، ثم صعد على السرير، بينما نزلت بشرى بالصينية والمواعين، وعندما صعدت من جديد، لم تنم قربه، تمددت على ظهرها على حشية على الأرض فبانت بطنها كبيرة منتفخة، ولم تعد رؤيته، أو رؤية زوجته تثيرها بعد الزواج، لكن ذكرى تلك اللحظة كانت تلهبها مقترنة بكلمات فخرية التي لم تكن تشبع من تكرار القصة..

- لكنها هي الآن أمامي..

- من؟

- فخرية..ها هي تتقدم نحوي...

انتفضت، مدت ساعداها لتستقبل فخرية، والابتسامة ما زالت تعمر وجهها..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى