ياسين كني - النقد العربي القديم و درء شبهة الانطباعية..

بدأ النقد مع وجود الإنسان, الذي أعطى أحكاما لكل ما يحيط به, و لما كان الشعر محور حياة العرب في الجاهلية؛ فقد اهتموا بنقده كما اهتموا بنظمه, فعقدت مواسم وأسواق خاصة بالتحكيم والحكم على القصائد المختلفة، القادمة من بطون أحياء العرب وقبائلهم, حتى حكم على القصائد بأحكام الاستحسان أو الامتعاض, و ظهرت منها القصائد المستَحسَنة كـ: اليتيمة- المنصفة - المسمّطة- المنقحات- المحكّكات- المقلّدات- الحوليات... وبعد مجيء نور الإسلام, و إن قيل بوهن الشعر فلم يقل بوهن نقده, إذ الوهن أصلا حكم نقدي لهذا الشعر, وقد تطور النقد خلال القرون الأربعة الأولى, فهذا ابن سلام الجمحي يضع كتابه: «طبقات فحول الشعراء» وثعلب يضع كتاب: «قواعد الشعر» والمبرد

يضع: «الكامل» والجاحظ واحد من الأعلام الكبار في القرن الثالث الهجري، فكان يوفّق بين القديم والجديد في نظراته النقدية خاصة في نقد الشعر، ومن المحاولات النقدية في هذا القرن كتاب: «الشعر والشعراء» لابن قتيبة, أما في القرن الرابع الهجري فنشأت اتجاهات نقدية مهمة تأثرت من جهة بكتابات علماء الكلام ومناهجهم ومن جهة أخرى بكتابي أرسطو: «الشعر» و«الخطابة»، فكتب ابن طباطبا: «عيار الشعر» وكتب الآمدي: «الموازنة»، والنقد الذي أظهر تأثرًا بالثقافة اليونانية كان عند قدامة بن جعفر والفارابي والتوحيدي والعسكري وعبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني، ووضع القاضي الجرجاني كتاب: «الوساطة» الذي يعد آخر كتاب نقدي منهجي في الحركة الشديدة حول المتنبي وكانت فكرة: «الإعجاز» من الاتجاهات النقدية الواضحة في القرن الثالث الهجري، وكذلك فكرة: «عمود الشعر» وفكرة: «النظم»... وهكذا تطور النقد كمّا وكيفا عبر القرون الخمسة الأولى للهجرة، مما أعطى زخما معرفيا قل نظيره في حضارة من الحضارات من حيث عمق تناول الظاهرة النقدية التي لم تدرس بالطريقة اللائقة من طرف أساتذة اليوم المنبهرين بشمس الغرب, وهم الذين لم ينهوا بعد تراثهم دراسة وتمحيصا وسبرا. فما إن يطلع علينا دارس للنقد القديم إلا ويلوح في وجوهنا بسيف الانطباعية والذوقية التي خيمت على النقد العربي الأول, وحتى إذا تمكن من زرع الحكم في قلوبنا قبل عقولنا يعاود ليلوح لنا بالنقد الأخلاقي ليزرعه مرة أخرى في القلوب والعقول!, لكن، هل فعلا كان النقد العربي القديم نقدا انطباعيا ذوقيّا فأخلاقيا؟؟

إن من يقرأ التراث النقدي العربي, سواء في العصر الجاهلي أو في القرون الخمسة الأولى, ستظهر له بشائر الانطباعية و الذوقية فالأخلاقية, و ذلك لأسباب عديدة منها:

*المصطلحات المستخدمة في النقد و التي غالبا ما ترتبط بمصطلحات ذات أحكام ذاتية غير مؤسسة.

*الدراسات الحديثة التي قيدت وعي الدارس ووجهته نحو الحكم بالانطباعية حتى لم يعد قادرا على توجيه أسئلة جديدة للنص النقدي غير الأسئلة القديمة فلقي الإجابات المتداولة نفسها.

*انقطاع الصلة بين المصطلحات النقدية القديمة، ونظيرتها الحديثة والاستلاب الفكري للدارس الذي جعل من الدراسات الغربية مرجعا لا مناص عنه في فهم العالم.

*ضياع التراث النقدي و الفكري القديم في كثير من مفاصله التي تقيم علاقة بين الموجود الآن من كتب و بين المنهج المتبع في كتابتها وكتابة مادتها, فتجد كتابا مكملا لآخر غير موجود، أو غير موجود الكتاب المكمل له فتضيع الحلقة العلمية.

*ضعف الاهتمام بالنقد العربي القديم وقلة البحث العلمي، وحتى الدراسات المقدمة هي إعادة لمواضيع قتلت بحثا ولم تعد تقدم جديدا يذكر في هذا المجال.

*عدم استعداد الدارس العربي لتقبل الوصل مع الماضي لما يمثل لديه من ماضوية و سلفية عززت لديه أنها لا تكرس إلا التخلف والرجعية... إن الحكم على النقد العربي القديم بالانطباعية و الذوقية و الأخلاقية, لهو حكم بدوره يحمل الكثير من الانطباعية بل من الاعتباطية, إذ كيف للدارس في العصر الحديث بما تخوله المناهج الحديثة والوسائل المتاحة أن يرضى بالإجابات المقدمة من طرف أسلافه المحدثين؟ دون أن يكلف نفسه عناء مساءلة النصوص من جديد, ومحاولة البحث عن إجابات جديدة ربما تقلب التصور القديم رأسا على عقب, فتحيل الحقائق سرابًا تولد من الاستلاب الفكري الذي عاشه العربي خلال القرون الثلاثة الفائتة -و ما يزال بعضهم يحاول تكريسه وعيشه إلى الآن- في عصر الكفر بكل المسلمات حتى الصحيحة منها والمقبولة!.

لا أحد ينكر أن الشعر العربي القديم، في العصر الجاهلي خصوصا، وفي القرون الأولى للإسلام، عرف تقدما كبيرا وتطورا منقطع النظير, قل أن تعرفه تجربة أدبية, لكن هذا الشعر لم يصلنا منه إلا المتطور و النامي, فهل ولد هذا الشعر كذلك بهذه الدرجة من التقدم و النمو؟؟ طبعا لا, إذ لا بد أن هذا الشعر قد سبقته تعثرات و سقطات ومحاولات تطورت مع الزمن, إلى أن وصلت إلى الإتقان الذي وصلته في العصور التي وصلتنا منها المدونة الشعرية التي بين أيدينا, هذا التطور الذي لا بد أنه استغرق قرونا ليصل إلى النضج الذي رصده المتلقي له الآن و في كل زمان, السؤال المطروح الآن هو: كيف تطور هذا الشعر؟ لقد اقترح الباحثون مسألة ارتباط الشعر بالدين, فهو كمادة عبادة كان حريا به أن يتطور للعناية و القدسية التي أحيطت به, لكن هل يكفي ارتباط نتاج أدبي بالدين والعبادة ليتطور؟ أليس هناك العديد من الديانات المنتشرة أكثر من وثنية العرب ولم تطور الأدب المرتبط بها؟ فالتراتيل البوذية والهندوسية وحتى المسيحية لم تجد انتشار الشعر العربي ولا تطوره, و بغض النظر عن هذا العامل أو ذاك, فلا بد أن ما طور التجربة الشعرية العربية هو عدم قبول السيء منها من طرف الجمهور المتلقي وعدم القبول هذا لا بد أنه ارتبط بأحكام قيمة، تطورت إلى أحكام نقدية مواكبة لتطور الشعر, إذا؛ فالنقد واكب التجربة الشعرية وسار معها بشكل متواز, فهل تطور الشعر دون أن يتطور عامل تطويره الذي رافقه, والذي هو النقد؟؟ لا شك أن شعرا متطورا كالشعر العربي واكبه تطور في نقده، إذ الواحد منهما يغذي الآخر و يسهم في تطوره و إنضاجه, و بالتالي من المعيب أن نحكم على طرفين في المعادلة نفسها بتميز واحد دون الآخر, فمن أين يأتي إذا الحكم على النقد العربي بالتقهقر و التخلف؟؟ إن هذا الحكم أتى فقط من جهة واحدة –و لا شك-, هي المصطلح النقدي المستخدم, إذ إن النقاد العرب استخدموا مصطلحات تبدو في ظاهرها مصطلحات توحي بالانطباعية والذوقية والأخلاقية لكنها في الحقيقة تحمل حمولات معرفية نقدية مختلفة تماما عن حمولاتها المعرفية المتداولة في اللغة الاعتيادية, وهذا الأمر يخص مرحلة الجاهلية بالقدر نفسه الذي يخص به مرحلة القرون الأولى من الإسلام, و إن كانت هذه العقود قد عرفت تدوينا كبيرا, إلا أن ضياع عدد كبير من المصنفات ساهم في إحالة الوضع إلى ما هو عليه العصر الجاهلي, وإنك تجد الآن إشارات وإلماعات في الكتب النقدية الموجودة بين أيدينا لمعارف لا نعرفها قد تكون وجدت في كتب قبلها, و لعل كتب المعتزلة و غيرهم التي وجدت آثارها أو كلها في بلدان عدة دليل على ضرورة مراجعة التراث النقدي و تفقد ما ضاع منه من خلال الموجود ومن خلال المخطوطات التي تحتفظ بها أسر عربية وغربية سواء علمت قيمتها العلمية وهو القليل أو لم تعرفها و هو الأمر الشائع، ومن خلال التنقيب في المصنفات الموجودة وقراءة ما بين سطورها وتوقع المعارف الضائعة, ولعلنا نأمل بوجود مخطوط يقلب تصورنا حول النقد ليرشدنا إلى معاني المصطلحات النقدية الغربية القديمة كما أرشد حجر رشيد العلماء إلى معاني اللغة الهيروغليفية... لقد كان المجتمع الإسلامي مجتمع الأخلاق, و كان يقصي كل من سولت له نفسه كسر المنظومة الأخلاقية التي ساهمت بشكل كبير في تطور هذا المجتمع و بناء حضارته التي أنارت العالم شرقا و غربا, فكيف سمح هذا المجتمع بمنظومته السياسية والاجتماعية والفكرية ببروز أشعار و شعراء يبدو شعرهم منحطا أخلاقيا من وجهة نظر جل النقاد؟؟ إن الانحطاط الأخلاقي الذي حكم به النقاد على تجارب شعرية بصمت التاريخ العربي إنما هو حكم من عندنا نحن القارئون للنقد العربي القديم ولم يكن للنقاد القدماء ناقة ولا جمل في هذا الحكم, إذ ما تبدى لنا أنه حكم أخلاقي إنما هو تشابه مصطلحي قصد به النقاد شيئا وفهمناه بحدود ما تخوله لنا اللغة الاعتيادية المتداولة الآن وفي الكتب غير النقدية القديمة, في الوقت الذي نحن فيه أمام مادة لها لغتها الخاصة التي لا تشبه اللغة المتداولة سواء في عصرنا أو في العصور السابقة. إن الدارس للمصطلح النقدي الحديث يجد التباعد الكبير بين منطوق المصطلح النقدي في اللغة النقدية وبين منطوقه في اللغة الاعتيادية أو في منظومة مصطلحية خارج المجال النقدي, و الكل مسلم بهذا و متقبل له، وبالمقابل يصف بالجهل كل من تداخلت عنده المصطلحات بين معناها النقدي و معناها في المجالات الأخرى, لكن في المقابل لا يصف أحد نفسه بالجهل حينما يقرأ لغة نقدية بمصطلحات نقدية ويتمثل معنى هاته المصطلحات كما تعود عليها في حقول أخرى. إن النقد العربي الذي استمد قوته من قوة الشعر الجاهلي المبدع ومن قوة الشعر الإسلامي المتمكن ومن التراث اليوناني والروماني ومن فحول النقاد والشعراء والأدباء وعلماء الكلام... لا يمكن أبدا أن يتهم بالانطباعية والذوقية والأخلاقية, إنه أكثر تفتحا من عقولنا اليوم الذي حكمت على الشعر القديم بالمنطق الأخلاقي في تناول النقد لها حينما لم تقصه و لم تقلل من شأنه، وما وصوله اليوم بين أيدينا إلا نتاج التمييز بين اللغة الشعرية والنقدية من جهة وبين اللغة الاعتيادية من جهة أخرى, وهو الأمر الذي لم نستطع تفهمه لتقديسنا للأحكام الجاهزة و المتوارثة, ولعدم قدرتنا على فتح متون الكتب والبحث والتنقيب عن المعاني الحقيقية للمصطلحات النقدية التي ميزت النقد القديم، بدل أن نحكم عليها بعقليتنا أحادية التفكير والمنغلقة، وإن وصفناها نرجسية منا بالمتفتحة!. إن المقال الذي بين أيدينا ما هو إلا همسة في أذن الباحثين والدارسين لفتح صفحة جديدة للبحث والتنقيب في المصطلح النقدي القديم الذي سيعيد قراءتنا للتراث رأسا على عقب, وسيسهم في تخليصنا من الاستلاب الفكري، وسيمد صلتنا بتراث متقدم يمكن أن تنهل منه منظومتنا النقدية اليوم، وتتكامل مع ما ننهله من الغرب الذي وإن بدا محكم البناء والتنظير إلا أنه لن يكفينا لمقاربة نصوصنا, بل وسنتفاجأ بتقدم التراث القديم وسبقه في استشراف المناهج النقدية الحديثة, و إن كان الموضوع صعب التناول؛ لقلة المصادر، وضياع المعطيات، وقوة البصمة التي أوجدها الاستلاب الفكري فينا, إلا أن الوقت قد حان لفتح ملفاتنا ومحاولة بناء نظرية أدبية عربية كفيلة بتأطير الحاضر ومد الجسور بين الماضي التليد والحاضر المريض؛ لإصلاحه واستخلاص البلسم الشافي للحالة المرضية التي يتخبط فيها نقدنا الحديث الذي لم يفلح حتى في توحيد ترجمتنا للمصطلحات النقدية الغربية فما بالك أن يبني نظرية نقدية قادرة على التعاطي مع النصوص؟. إن وضعية دراسة المصطلح النقدي العربي اليوم لتشعر بالإحباط, و بالمقابل نتبجح بإصدار أحكام القيمة على النقاد القدامى تهكما وانتقاصا من جهودهم و تبخيسا لعملهم، ونحن الذين لم نكلف أنفسنا عناء فهم مصطلحاتهم التي هي مفاتيح كلامهم, إذ ظل الحديث عن النقد العربي القديم لا يخرج من إطار التأريخ و إبراز سطحي لعوامل النشأة و التطور, و إثارة قضايا محورية فيه لا تقارب المسألة بعموميتها, و التركيز على حقب بعينها دون فهم مفاتيحها المصطلحية اللازمة لفهم المنهج المتبع, و التي تعتبر عتبة فارقة في فهم النص النقدي, و حتى إن حدث أن التفت أحدهم إلى المصطلح النقدي, فهو لا يعدو أن يكون حديثا مارا عابرا, وإشارات طفيفة لا تسمن ولا تغني من جوع, كما فعل الأستاذ محمد منظور في كتابه: "النقد المنهجي عند العرب" وإحسان عباس في: "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" وحتى حين كتب الأستاذ عبد الرزاق جعنيد كتابه: "المصطلح النقدي" فهو لم يتجاوز الأحكام المسبقة عن النقد, والتي أشرنا لها في كلامنا سابقا, وحتى مع الدراسات المتقدمة للعبقري الشاهد البوشيخي، والأستاذ إدريس النقوري والأستاذ أحمد مطلوب، التي أخرجت المصطلح النقدي من بكريته وخاميته إلى التصنيع الفكري والتساؤل النقدي, قلت حتى هذه الإلماعات المتقدمة لم يستفد منها الباحثون لطرح التساؤل الذي يهدم أطروحة الانطباعية و يقيم أسس بنيان العلمية, أو على الأقل, يسائل حقيقة هذه الانطباعية التي توارثناها من غزو الفحول من العرب المستغربين الذين سيطروا على ثقافتنا العربية هم ونظراؤهم من الغرب المستشرقين. إن البحث العلمي مرتبط بالمجتمع وما دمنا نعيش تخلفا على كل المستويات فمن المستبعد أن يخوض هذا المخاض الثوري أحد, لكن كيف يكون المفكر مفكرا إذا لم يستشرف معارف سابقة لعصره؟ و أتمنى أن يكون هذا المقال المتواضع فاتح شهية فيتاميني للكبار من الدارسين لتسجيل اسمهم في التاريخ, عل المستقبل يخبئ لنا ما يقلب تصورات الحاضر ويرد الاعتبار للنقاد القدامى بما ينفعنا اليوم في فهم أنفسنا و تراثنا وثقافتنا التي تعتبر المنطلق الوحيد لبناء حاضر صلب على أساس متين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى