حسين عجة - مفـــاتن

"المرأة التي أهديها نصي تظن أنها شجرة"
"أنا أقتربتُ من موتي حين قبلت المغامرة"

على عتبةِ الباب عاشقٌ، أنتظرتُ قدومها الفائض، فيضان برائحته البدائية قبل ولادة أرض قد تجذره؛ ظلالها تومأ أنها ستكون مُبعثرة، خائفةً والفجر على أهبة إرتداء ثوبه، وضع زينته، سحب قامته الممشوقةِ من النجوم التي تطوقه. حدس أبيض، أتركوا لي، إلتماس ساخن، توسل حتى، حياء المفردة، فقيرة في نظر البعض، باذخة ربما عند أقوام لم يمروا بعد بالقرب من سمائي الخالية، المغتبطةِ؛ مُخاض أو إضافة، قطرة بعد قطرة، رهبة بعد رهبة، دوخان ينازع لكي يضع على عاتقي حمل العواقب الثقيلةِ، طواعية أو بدفع قوة مبهمة، أخشى أن تكون عاجزة عن عكس مخاوفي وضربات قلبي المتسارعة.. مفاتن إتضرع بغية إنتزاعها من يدها الممدودة كالهواء بلا عائق، للكل يمنحُ روحه، قلبه، وما يلمه بعجالة في نفحات صوته. ديوتيما الحبيبة، اسم لقصيدة قادمة. صرت ربما تعرفين لماذا أبدلت جمال سحنتك، الحروف الأولى من بهاء طلعتك، اسمك. ما يحدث الآن، من حولي، في ضبق المجال الذي لا يعرفه سوى ثلاثة عناصر لا أجرأ على التلفظ بإلقابها الشامخةِ : إنتِ، الله، وما تدفعني نحوه القوة المبهمة، لنقل أنا الفاقدة لكل كلام أو شهية تظل طويلاً أسيرة أمام نافذة الفجر المقدسة. عون لا أخفي حاجتي له، غير أنه لا يضخ عطائه في دمي إلأ إذا ما جاء من دمكِ.

بالأمس، صاحياً أو على وشك الثمالة الكاملة، تحدثنا برطين ثلاث لغات عن العشق، عن السقوط المباغت ليس في حوض الرغبة، ولكن عن شراسة المعركة، عن مشقة الطراز المتفرد الذي تظنين بأنك أخترتيه قبل أختياره لك؛ آيروس لم يأخذ بيننا كامل وقته، أوقفتِ إنتِ عجالته الدائرة الكونية السابح فيها بمتعةً، بالكاد ذكرته أنا وحزمة مخاوفي المشدودةِ عند الخاصرةِ، دمدمتِ فجأة بالحرف القاطع، أنقله بنصه، لكي ينعم من يمر صدفة بالقرب منا بنسائمه : لا يُقال، بالدقة المطلوبة، الوقوع في الغرام إلا بلغة واحدة من لغاتنا الثلاث : العربية. لن أنسى، ما دام لي شوط آخر في الحياة والكتابة ما فاض عن صوتك من سحر شل ومازج بضربة خاطفة توازن الكون وناموسه المعلق برقاب الكائنات الهائمة، التائهة، ونحن منهم، إن كان ذلك في صحارى الرمل والفجيعة أو هنا في ظل القباب والبنايات الشاهقة. حين تًطلْعتُ ساهياً بدهشتي المُطاوعة، قلت في دواخلي، عبر الأثير ووشوشة التواصل : لن يمسني خيط آخر غير هذا الشعاع المتولد عن جنون ما يزال في باكورة عمره. كيف أكون إنتِ؟ يا جزئي المضيع، يا بتلة روحي المدفونة في أفلاك أحياناً أتخيل أنها أقرب لي من رعشة الشريان الأكبر أو الوريد الأصغر على بعدها المضني الذي سيغدو من العبث مقارنته بمسافة أميال الكون وشهقته المحاصرةِ. لن أرضى أن يرتل أحد غيرك قداس جنازتي. ما أحشوه الآن على جسد الأوراق الغافلة لن يكون من مشاغل المجازات العابرة، قطعت أملي فيها، لتعلمي، منذ ما طِلَعتْ فضية وغير مألوفة أول شعرة شيب في رأسي؛ بنفس الحرف القاطع كالموس الذي أستعرته مرة من أناملك؛ أريد فقط صعود الكلام حتى قصبات هوائي المغلقة، آملاً أن لا يشغلني صوتٌ آخر غير رغبتي في ضبط إيقاع محنة كيف يقول المرء : أحبكِ. كل خطوة تشرعين فيها، لا تنطق بمشيتك، تقترب بالأحرى من أسطورة قلبك. هنا، وهنا فقط، ربما أرى ما أنا حاضر لتلقفه : منزلك الملائكي وروحك المشتعلةِ. حقل تتدافع فيه الأدغال على أنواعها وآثار رحلتها الممحية-الحاضرة، فتنة وذبذبات صوتك. أستحي، من عشقي لها، أن أقول ضحكتك.

مرت بعافيتها المعهودة والقلق، الإضطراب الذي تفبركه في نفوس الخلق النائمة؛ الساعة السادسة، وأنا ما زلت أدق على آلة صامتة، من فوق حوافي طاولة مُهدمة كل ما في الكلمات من قوة ، كلل ضعف ومقاومة، أتوسلها، وبالكاد تسعفني قدمي على الوقوف، باسم العصافير التي تحدثنا عنها كقسم آخر نلجأ إليه في كل مرة لكي يتدرب الاحياء والموتى على مناشدة آلهة أخرى غير تلك المذكورة بمخطوطات الله المقدسة، أكثر من مرة أُغمى عليَّ في الغرفة وما زلت بعيداً عن التلويح بمفاتن صمتك، اسمك، ديوتيما العاشفة، أناديك: كيف يُنزع الجسد بمثل هذه القسوة عن وطنه، أعصابه وعروقه التي كانت، منذ أيام، تشده إلى روحه وقلبه؟ تلك حالتي بنبضها والغبار الذي يغلفها. مرات ومرات أسمعتك صوتي بهديل الحمائم المنذورة منذ الطفولة لفيأه : عندما أشتهيك أشتهيك. ليس للدنيا رشاقة الصعود على السرير الذي ظننت بين طيات شراشفه، عطره أو حنان شمه قد تنامي معي من فوقه أو تحته. كنت أريد أخذك، إنت كما إنتِ، أو حين تكفين أن تكوني إنتِ، لكن على رائحتك البقاء حتى تحرس ما بقي في جوانحي من حرقة.

غداً قد ترين بعينك المجردة ما ينزف من خاصرتي، أنا الذي ولدتُ من أحدى غرائبك المنفلتةِ " أتلمُ سنبلة الصحراء كل النساء"؟ أو الأخرى الناضحة بالعرق والجزر التي لم تولد بعد من أجله " أمسك عليك من تلابيب الذاكرة". تحدثنا بحنان لا عائلة ولا مرفأ يشبه فيأه؛ تحدثنا عن الذين رحلوا عنا، عاشقو الصدفة، عنهم كلهم كانت مسامرة الليلةِ، عن ذكراهم دون أن نأخذ الأوراق الشفافة، مساحة الدموع الغارقةِ، عن شقيقة لم تكمل نصف الرحلة، وما رُتلْ عنها من قداسة الكلام وجنون المحبة.

صرت مُغرماً بتلفتاتها، كما يغرم القلم بالمحبرة الناشفة. تصعد أحياناً إلى أفق أنفاسي وجولاتي الخرساء العبثية ما بين طاولة الصمت ومطبخ العائلة المُشتتة، هنا ليست مرثية لأحد، "كاندس" الجميلة، هكذا كنا نسميها، هي المهوسة بالعطر والبتلات المهملة لم تمت، لم تُغَيبْ بأرادة أحد، لم تمسها قوة الطبيعة وما فيها من طلاسم محيرة : أختطفها، هي الوردة، واحد من أمراء الملائكة الذي لا يقاوم أمره أو شهيته، المسيح ربما نفسه، كما يشتهيك إنتِ رواق العمل، زهاء الدار، بشر يقطنون في تخوم أو كواكب أخرى، كما تفيض عيني أنا بلؤلؤها الثقيل، تحث قلبي وشعلته على التشبث بإذيال ثوبك. هدية الرائحة المُننظرةِ.

مغفرة، لم يحالفني الحبر الأسود الذي يسند أرقي لكي أذكر ضوء الباحة، لكي ألقي التحية على ضيوفك، في اليوم الواحد أكثر من مائة، نسيت ذلك كله، فيما كان يحرقُ وجهي جمر السيجارةِ، نَسيتُ المرور بلعبتك الصغيرة، القناع المُغرمِ بحجب الشمس عن الرموش الغاضبة. إنتِ. ثانية، غاب أو تبدد بين يدي الوقت لكي ألوح، من ضفة الرمل الواقف عليها، نحو سحنتك أمام الكلب، في الحديقة وفضاء الكون من خلفك، لم أذكر فستانك الأصفر، ولا تلك المرأة السعيدة التي خطت بإناملها من فوق شفتيك الأحمر القاني سحر لا يضارع قولك، ما يتبرعم في قصائد العام القادم في خطك. تَعشقكِ. حواء أو هاجر، كما تشتهين منذ ولادتك.

.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى