معن النقري - أكثر من قطيعة ابستمولوجية في قصة علم النِزاع وأَخَواتِه..

يبدو أنّ أكثر العلوم الناشئة حديثاً تحقّق مواصفات وسِمات العلْم المركّب، ومن هذه العلوم الجديدة التي تبلْورت ونشُطت عالمياً على نطاقٍ واسع منذ بضعة عقود فقط علم النزاع أو الكونْفليكتولوجيا، لذا سنأخذه كأحد الأمثلة التفصيلية لبيان تركُّبيته وتعدُّدية الاختصاصات التي تدعم ركائزه منذ لحظات التأسيس، كما سنهتمّ بنشوئِه على الأخصّ وتعدُّد وتبايُن الاجتهادات في هذا المجال، أحياناً حتى في البلد الواحد، بل وحتى لدى المؤلف الواحد أحياناً، ومن هنا وصْفنا لهذه القصة/ الحكاية في نشوء علم كهذا بأنها ضربٌ من القطيعة الابستمولوجية في مسارات ومنعطفات النشوء، لأنك ستجد «لوبيموفا» مثلاً تقدم معطيات متناقضة عن ذلك، وعندَ رصْد وقائع وإسنادات التوثيق لديها لا تجد حضوراً لاسم هذا العلم قبل بدايات التسعينيات، وعام 1992 بالتحديد، مما يكاد يتواكب ويتزامن مع فترة نشْر وانتشار العولمة في العالَم، ومفاهيم وتصورات التنمية البشرية أيضاً، غير أنَّ لديَّ وثائق وإسنادات توضح ذكْراً لاسم هذا العلم ـ علم النزاع/الكونفليكتولوجيا في بلدها ذاته وفي ثقافتِها ولغتِها منذ عام 1990 على الأقل، وكنتُ عالجْت ذلك توثيقاً في العام ذاتِه 1990، كما أنَّ تصفُّحي للأدبيات والمرجعيات والدوريّات الفلسفية بين الفينة والأخرى أكَّد لي حضور المصطلح هناك.. عندهم وفي ثقافتهم ولغتِهم قبل ذلك التاريخ بسنواتٍ عديدة ومنذ بدايات الثمانينيات، وسأتعرض هنا لأحد الكتب الروسيّة من عام 1982 ومراجعةٍ له عام 1983 في «قضايا الفلسفة» الأكاديمية حول «سوسيولوجيا النزاع»، إضافةً إلى منظوري الخاصّ لهذَين الجانبَين: علم النِزاع وسوسيولوجيا النزاع منذ عام 1990 نشْراً وتوثيقاً، مع توليفات لمفهوم النِزاع على الصِدام وترميزات (وغمزات ولمزات) إلى صدَّام حسين، وافتراضات أثر ذلك كله في إحدى أكثر النظريات المعاصرة انتشاراً حول هذا النِزاع/ الصِدام تحت يافطة وتسمية صدام الحضارات لدى هنتينغتون، مما يمكن توثيقه جميعاً في قرابة عشرة /10/ مِن منشوراتي الدورية والكتبية بهذا المنظور والتركيز، ومما يبدو ريادةً في الحديث عن علم النزاع نشوءاً وإضاءةً من جوانب مغْفَلة قياساً لما ستجده لدى «لوبيموفا» في كتابها المتخصِص المترجم إلى العربية في هذا المجال عام 2007 تحت عنوان «سيكولوجية» النِزاع، مع العلم أنَني أنبّه إلى أن الكلام على «السيكولوجية» يجوز لدى الحديث عن الصِفة أوْ الحالة… أما عند الكلام عن علم في هذا الحقل فيقتضي استخدام مصطلح ولفظة سيكولوجيا النِزاع.

وهكذا ستكون لديّ الآن ثلاث محطَّات ابستمولوجيَّة «متقطِّعة» في نشوء علم النِزاع/ الكونفليكْتولوجيا:

1 ـ التأريخ لتأسيسٍ بدأَ مع بدايات التسعيْنيّات (1992)، ومثاله ما لدى لوبيموفا في كتابها «سيكولوجيّة»/ سيكولوجيا /النزاع؛

2 ـ كتاباتي المنشورة والموثَّقة منذ أواخر الثمانينيات، والتي تثبت حضورَ اسِم هذا العلم ومصطلحه في الثقافة واللغة الروسيتين منذ عام 1990 على الأقل.

3 ـ توثيق لكتاب متخصص وناضج في «سوسيولوجيا النزاع» منذ عام 1982، وفي الثقافة واللغة الروسيتَين بالذات. وهذا ما أردت إيضاحه من انقطاعات أو تقطُّعات أو قطيعة ابستمولوجية في هذه المسألة ـ

حكاية نشوء علم النزاع وردائِفه
1 ـ لوبيموفا وسيكولوجيا النزاع

1 ـ د. غالينا لوبيموفا في كتابها «سيكولوجيا النِزاع» (تدقيقاً لتعريب «سيكولوجية» في ترجمة هذا الكتاب): هنا تجد في توطئة الناشر أن «هذا الكتاب»… محاولة هامة للربط بين جميع الأبحاث والدراسات [لاحظ الميزوْ في هذا م. ن] المتعلقة بموضوع سيكولوجيا النِزاع وعلم النِزاع Conflictology المنشورة خلال السنوات «الأخيرة» [لوبيموفا، ص5]، تابع معي في الصفحة 7 أيضاً:

«إن مصطلح نزاع هو ترجمة لكلمة «Conflit» الفرنسية وَ«Conflict» الإنكليزية، وهما مِن أصل الكلمة اللاتينية «Conflictus» التي تعني: صراع، نزاع، صِدام، تضارب، شِقاق، قتال». [أشَّرْتُ على الكلمات والمعاني الثلاثة الأولى لأهمية ذلك ودلالاتِه الكثيرة ثقافيّاً (م.ن)].

وتستخدم في الأدبيات السياسية والعلْمية والاجتماعية والنفسية بمعانٍ ومضامين عديدة [أشَّرْتُ أيضاً على الكلمات ـ والميادين ـ الأربعة الأولى لإيضاح الطابع الميزوْ/ بين الاختصاصي/ للمصطلح وللعلم المتَصل به على السواء. وفي الصفحة 7 ذاتها تجد أيضاً: إن النِزاع والتصادم والصراع ليس مجرد شرّ لا بدّ منه… [يبدو أن تأشيرَنا على هذه المعاني والدلالات وتأكيد أهميتها وتميّز حضورها ثقافياً عندنا يتوافق مع رأي واختيارات المؤلِفة ذاتِها أيضاً ـ (م. ن)]. وفي ص8 قائمة أوْسع بتعداد بعض ضروب النِزاعات: السياسية، الاقتصادية، الإنتاجية، الإدارية، البيئية وغيرها… [هذا يقودُنا إلى تصنيف مفهوم النزاع ذاته، في رؤيتنا ومنظورنا الأشمل في هذا الكتاب وتبوْيبه، كمفهوم تعدُّدي الاختصاص طامح لأن يكون علْمياً عاماً أوْ شبه عام، أو كمفهوم معرفي عريض وسيع الميادين والتخصّصات (م. ن)].

وفي ص 8 أيضاً تجد ما يُشبه تعريفاً لعلم النزاع Conflictology عند «يميليانوف» عام 2000 [وكانت تعريباتُنا قد عرَّفتْ باسمٍ كهذا، هو أوْ بِكنْيتِه لغيرِه، في صيغة «إيميليانوف»، وربما كان هذا أواخرَ السبعينيات في ترجمة كتابٍ لهذا «الأخير»(؟) حول الماسونية في جريدة البعث السورية مِن عَشَرات الحلقات ـ ترجمة حسين عمر حمادة ربّما (م.ن)]. اِقرأْ تعريف «يميليانوف» من عام 2000 لِعلم النِزاع: «هو منظومة المعارف حول طبيعة النِزاعات وآليات نشوئِها وتطورها، وحول مبادئ وتكنولوجيا إدارتها (يميليانوف، 2000، ص: 21). أما «سيكولوجية» النزاع فهي إحدى مكوّنات علم النِزاع» ـ انتهى؛ وملاحظتي وتنبيهي هنا ليس فقط إلى الميزوْ/بين/ الاختصاصي فقط، أو تداخلية وتعدّدية الاختصاص في العلوم الجديدة البازغة الناشئة حديثاً إجمالاً، بل وإلى اشتراكها في ميزات متشابهة مشتركة أيضاً تتمثل في وجود علم مركزي محوري كلي شامل تنتمي إليه وتصب فيه علوم فرعية عديدة، وهي هنا من أمثال: علم النزاع (الكلي الشامل العامّ) وتفرعاتِه الناضجة والنامية نسبياً منذ البدايات: سيكولوجيا وسوسيولوجيا النِزاع. وكي تعرف كتاب «يميليانوف» من عام 2000 الذي أورد فيه تعريفه لهذا العلْم في الصفحة 21 قد تحتاج إلى تصفُّح الكتاب كلِه مترجَما ومحطات مراجِع فصولِه المختلفة في أماكن مبعثَرة عبر كامل ترجمة الكتاب كي تجد ضالَّتَك، وقد فعلتُ ذلك حقاً: آ ـ لا وجود للإسناد في المكان والفصل حيث يرد التعريف أي لا وجود له في ص17 حيث ترد «مراجع البحث»، أي مراجع ما ورد منذ بداية الكتاب حتى آخر عنوان «نشوء علم النِزاع وتطوره» في نهايتِه حيث يلزم أن يكون، بينما ستجده في ص 58 في الذِكر الثالث لمراجع البحث ضمن القسم الأول للكتاب وفي نهاية هذا القِسم تماماً استعداداً لبداية القسم الثاني منه وستجد حينها أنه المرجع رقم 4 وبعنوان: الكتاب التطبيقي في علم النِزاع، سانت بطرسبورغ، 2000، وستجد بعده مباشرةً المرجع رقم 5: علم النزاع، بإشراف آ. س كارمين. سانت بطرسبورغ، 1999؛ كما ستجد قبلَه في الصفحة ذاتِها ـ ص58 ـ المرجع رقم 2 ـ الأحدث: ـ غريشينا ن. ف. «سيكولوجية» النِزاع. سانت بطرسبورغ، 2001.

وستكون قبل ذلك قد احتجْت إلى العبور صوب الصفحة 35 ـ مراجع البحث الخاصة بالبند 1 ـ 3 ـ النزاع، كظاهرة سيكولوجيّة (في منتصف القسم الأول من الكتاب)، وتكون حينها قد عرفت بصورة طبيعية وبداهةً أنَّ «يميليانوف» المسْنَد إليه في كتابِه لعام 2000ص85 قد ألف كتاباً مبكراً في هذا العِلم قبل ذلك منذ عام 1992، مذكوراً في هذه الصفحة السابقة ـ ص35 ـ هو: الكتاب العلمي في علم النزاع. سانت ـ بطرسبورغ، 1992، وإذا قرَّرتَ تحديد الريادة والأسبقية والتأسيس روسياً لعلم النِزاع في أقدم ذِكْر له في كتاب «لوبيموفا» فإنك ستحتاج إلى تصفح الكتاب كلِه وإلى القراءاة المتأنِية لسائر مراجع البحث المبعثرة في كل جزء من الكتاب لتكشف أنَّ أقدم الإسنادات المذكورة والمرجعيات الموثَّقة هنا هي كتاب يميليانوف هذا ولكن من عام 1992 آنف الذكر، وهذا بمثابة تأريخ جانبي وغير مباشر، في كتاب متخصص بالنزاع، لنشوء وبدايات علم النِزاع في الثقافة الروسية وفي اللغة الروسية، بقراءةِ ومن منظورِ لوبيموفا «المتخصصة» بذلك؛ وسيؤكّد هذا الاكتشافَ وهذا الاستنتاجَ عبورُك الأول في قراءة متأنِية لأول ذكْر لمراجع بحث فرعية من الصفحة 17 حيث لن تجد إسنادات أقدم من عام 1992 بل من عام 1993: دميترييف آ. ف، كودريافتسيف ف. ن، كودريا فتسيف س. ف. مدخل إلى النظرية العامة للنِزاعات: علم حل النزاعات القانونية. الجزء الأول، موسكو، 1993 [وَأُلْفِت انتباهَك إلى أن ارتباكات نشوء وتأسيس علم جديد كَثيراً ما مرَّت وتمر منطقياً بمراحل كهذه، بالحديث عن نظرية أو نظرية عامة قبل، أو بمواكبة، الحديث عن علم «x» في ميدان من الميادين، وكنتُ رصدْتُ قصةً كهذه تماماً مع الثقافة: مدخل ß نظرية ß نظرية عامة ß علم،(حول الثقافة)، وأوضحْتُ ذلك ونشرْتُه في دوريات وفي كتب، ودوَّنْتُ موضِحاً هنا أيضاً د. م. ن]، وبيَّنتُ في أمثلةٍ أخرى تصعيد وتناضُج العلوم الفرعية أحياناً وتلاقيها في نهاية المطاف لتصبّ في العلْم العام لميدانٍ من الميادين. وكان هذا ما أوضحتُ حصوله مع العلوم الفرعية الدارِسة للإبداع التي تؤسس للعلم العام الكلي الشامل الإجمالي، بل وقد تبدأ متوازيةً ليس فقط كعلوم فرعية، بل وكدراساتٍ للحظات جزئية متنوعة من الظاهرة الإجمالية ذاتِها (كالإبداع في مثالِنا): التفكير الإبداعي + الإبداع العلْمي + … إلخ، وقد يحصل ذلك بتركُّب وتركيب، مما رصدتُه بالملموس في مسارات نشوء وتطور علوم الإبداع (من الأقدم فالأحدث):

سيكولوجيا التفكير الإبداعي ß ثم: سيكولوجيا الإبداع، + وأيضاً: الإبداع العلمي والفني وو…إلخ ثم ß الإبداع؛ وكذلك وكمحصلة تركيبية ومركَّبة: سيكولوجيا أو سوسيولوجيا حالة جزئية (كالتفكير الإبداعي هنا) ثم سيكولوجيا أو سوسيولوجيا…إلخ الإبداع ككل، قبل الانتقال للحديث عن علم الإبداع بعامة وإجمالاً (متضمناً سيكولوجياه وسوسيولوجياه…إلخ) ([1])، أما هنا في تأريخ «لوبيموفا» لنشوء علم النِزاع ومرجعياتِها عنه فالإيحاءات عكسية، إذْ جاء علم النِزاع أوَّلاً (عام 1992) /، يميليانوف لنجد «النظرية العامة للنزاعات: علم حل النزاعات القانونية» [تركيب أوَّلي مرحلي + تأسيس فرعي اختصاصي/ قانوني ـ د. م. ن] في المرجعية المذكورة للتوّ من: موسكو 1993 [ص17 مِن مراجع البحث، في كتاب لوبيموفا المترجَم]، وستجد في هذه الصفحة 17 المرجع رقم 4 ـ زدرافو ميسليف آ. غ. سوسيولوجيا النِزاع، موسكو، 1996 [أبارك وأحبّذ هذه الصيغة الأنجح حتى ممّا في العنوان: سوسيولوجيا بدل سوسيولوجية؛ وتمنينا لو كان العنوان كله على هذه الشاكلة: سيكولوجيا بدل سيكولوجية ـ د. م. ن]. هذا مع العلم أن صيغة سيكولوجيا ـ الأدقّ ـ موجودة في مراجع البحث ص17، تابع معي عن عام 2001، حيث لا ذكْر لصيغة سيكولوجية كما في عنوان الكتاب المترجم، في هذه الصفحة:

المرجع 2 ـ غريشينا ن. ف. سيكولوجيا النِزاع . سانت ـ بطرسبورغ، 2001.

المرجع 7 ـ سيكولوجيا النزاع. مختارات/ إعداد ن. ف. غريشينا. سانت بطرسبورغ، 2001.

وهكذا نكون قد ذكرْنا كافة مرجعيات الكتاب المترجم المحتوية على مصطلحات علم النزاع وأخواتِه من يميليانوف إلى غريشينا ومِن عام 1992 حتى عام 2001 في اللغة/الثقافية الروسية، ولا يبقى، سوى ذلك، إلا القليل ممّا ندر أمثال ما في مراجع البحث ص96 (من مراجع البند 2 ـ 3 ـ في القسم الثاني من الكتاب)، إليكَها: مرجع 2 ـ أنتسوبوف آ. يا، شيبيلوف آ. ي. علم النزاع، موسكو، 1999. وكذلك في الصفحة 123 ـ مراجع البحث للبند 5 ـ 2 من القسم الثاني للكتاب الحالي المترجم وفيه ذكر لكتاب آخر (لِغريشينا) من عام 2000 هذه المرة: المرجع 4 ص123: غريشينا ن. ف. سيكولوجية (؟x) النِزاع . سانت ـ بطرسبورغ، 2000.

***

نعود إلى كتاب «د. غالينا لوبيموفا» المترجم للعربية ـ «سيكولوجية» النِزاع ـ إلى حيث توقفْنا وانقطعنا واستطردنا، أي إلى ص8 منه لتوثيق العبارة الفصيحة في بيان تعددية وتداخلية اختصاص علم النِزاع، إقرأْ معي: «اليوم تتناول مشكلة النِزاع بالبحث والدراسة العلوم العسكرية، وعلم نقد الفن، والعلوم التاريخية، والرياضيات، والتربية، والعلوم السياسية، والعلوم القانونية، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، والبيولوجيا الاجتماعية.».

وستجد في ص8 ذاتِها كلاماً مِن قبيل ما يلي: «لقد أصبح علم النِزاع مجالاً مستقلاً للمعرفة العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين: في الخمسينيات في الغرب، وفي التسعينات في أوروبا الشرقية وروسيا.». وقد أشرتُ تلميحاً، وسأثبت ذلك توثيقاً فيما بعد، إلى أنَّ نشوء وبدايات هذا العلم في أوروبا الشرقية وروسيا ليست في «التسعينات» بل في الثمانينيّات على أقلّ تقدير ـ هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى سأوثّق حديثي وكتابتي ونشري في هذا العلم هنا عربياً في دمشق قبل التاريخ المذكور أيضاً ـ أواخر الثمانينيات ـ، ومن جهةٍ ثالثة سأمرّ لماماً بنصوص وتوثيقات للمؤلِفة في كتابها هذا ذاتِه مما يتناقض مع هذه التأكيدات عن بدايات ونشوء علم النِزاع كلاً وأجزاء، ورابعاً: ثمةَ لديها آراء ونصوص كثيرة يناقض بعضُها بعضاً في هذا الخصوص مما سنصدفه لاحقاً.

وتحاول «لوبيموفا» التنقيب والحَفر في جذور منشأ علم النزاع وتطوره انطلاقاً من التعاليم الدينية، وفي الفلسفة، لتجد في ختام استعراضِها للجذور الفلسفية أنَّ: «دراسة النِزاع حتى نهاية القرن العشرين لم تتحول إلى فرع مستقِل من المعرفة العلمية» [ص13] وهذا يُناقض ما وثَّقناه للتوّ منذ قليل عندها في ص8 ـ (وستجد ذلك في هذه الصفحة الحالية) ـ من أن علم النزاع «أصبح مجالاً مستقلاً للمعرفة العلمية… في الخمسينات في الغرب، وفي التسعينات في أوروبا الشّرقية وروسيا.» (ص8) بل هو يتناقض بسذاجةٍ بائنة مع ذكْر كمّ معتَبَر من مرجعيات تحمل شارةَ وعنوان علم النزاع وأخواتِه باللغة الروسية ترد لديها في مرجعيات البحث عبر الكتاب كلِه وتوردها فيه توثيقاً وإسناداً، وكنَّا قَدْ فصَّلنا وأسهبنا في ذلك جيداً. فهنا تجد قطيعة (أو قطيعات) ابستمولوجية من نوعٍ آخر وجديد: ضمن آراء وتصورات وتقويمات شخص واحد ـ مؤلف/كاتب/باحث. ثم تجد تالياً قصة الكونفْليكتولوجيا/علم النزاع: في السياسة، وفي الوعي المجتمعي ـ وفي هذا الأخير محطات هامة نوثّق من بينها ما يلي (ص15): «منذ السبعينات من القرن العشرين أخذت تتطور في العالم أجمع الممارسة العملية لعلم النِزاع القائمة على المدخل السيكولوجي….» [التأشيرات لي ـ د. م. ن].

والرأي الصائب السليم المنسجم مع وقائع وواقعيات الكتاب ومرجعياتِه وإسناداتِه هو ذاك المخالِف لما سبق ذكْرُه، والوارد ص15 ـ 16 كما يلي: «بَدأت تظهر في التسعينات الكتب الجامعية الروسية الأولى المتخصصة في علم النِزاع، وأدخل علم النِزاع، كمقرر جامعي، في إعداد أصحاب الاختصاصات الإنسانية المختلفة كعلم النفس وعلم الاجتماع والحقوق، والدبلوماسية، والعاملين في الخدمة الاجتماعية، والمدراء ووكلاء الأعمال وغيرهم». [وضعتُ تأشيرات تحت العلوم والاختصاصات المختلفة لبيان طابع الميزوْ/بَين ـالاختصاصية في طبيعة علم النِزاع ـ د. م. ن]. وبالطبع سأقوم بالتعريف بأعمال (دراسات/مقالات وكتب) بالروسية قبل ذاك التاريخ أي قبل التسعينيَّات في ميدان علم النِزاع وأخواتِه تدقيقاً وتقويماً.

ونظراً لصلة علم النزاع الوطيدة بفرعيه ـ سوسيولوجيا وسيكولوجيا النِزاع (من قراءة واقع النشوء والتطور ميدانياً) يمكن تثمين استنتاج المؤلِفة في ص16 من ترجمة كِتابِها عربياً: «يمكننا القول أن علم النِزاع هو علم مستقل، مرتبط بصِلة وثيقة بعلم الاجتماع وعلم النفس…»… «ولا يوجد حتى الآن مفهوم موحد معترف به لوضعية هذا العلم. وعموماً يجدر بنا اعتبار علم حل النِزاعات مجالاً تطبيقياً»(ص16)([2])

***
2 ـ تجربتي الفكْرية مع عِلم النِزاع (الكونْفليكتولوجيا) وأَخَواتِه

احتجنا للكلام في النزاع وعلومه على وقْع التجربة والحاجة الموضوعية التطبيقية أيام احتلال صدَّام حسين للكويت منذ عام 1990 فكان من الضروري الحديث عن الأزمة والنِزاع والصِّدام… حينَها، وقد تجسَّد هذا بالملموس في قيامِنا بنَشْر موضوع على صلةٍ رمزية غير مباشرة وكذلك مباشرة بالحدث المذكور فكان أنْ نشرْت موضوعاً على حلقتين بعنوان: «العلم وتحوُّلات الوعي في المجتمعات النامية» في الدورية الأسبوعية ـ «الأسبوع الأدبي» في دمشق (اتحاد الكتاب العرب) نهايةَ عام 1990 وبدايةَ عام 1991([3]).

ونظراً لوجود اقتطاعات وحذوفات كثيرة ومعتَبرة فقد أعدْتُ نشْرَهما كما هما أصلاً في كتابٍ عام 1998 ـ 1999([4]) ولأن العودة إلى المنشور الدوري (في الأسبوع الأدبي) وحذوفاتِه ومقْتَطعاتِه للمقارنة مع الأصل كلَّ مرة قضية مربكة، فإنني أكتفي بالرجوع والإسناد إلى هذا الموضوع المكتوب نهاية عام 1990 كما هو باقياً سالماً في الكتاب المذكور عام 1999 ذاته وسنجد مرادنا في القسم الثاني ـ 2 ـ من الموضوع الوارد ص70 ـ 75 من الكتاب، حيث تجد كثيراً من الألفاظ والكلمات/المفردات الموجَّهة لخدمة الهدف التطبيقي التأزُّمي/ النِزاعي/الصِّدامي حينها، أمثال: الصِّدام الأكبر… (ص71)… صِدام في ثقافة العالَم الثالث(ص72)……. «صَدْم» العلم للثقافة الوطنية… (ص72)… وهنا إشارة إلى كتاب أوْ دراسة بمصطلح النِزاع /«الصِّدام» conflict

conflict: BOWLER P.J. Will Science and technology bring withen third world culture ? «Science Forum», 1977, vol. 10, N3…

وستجد في ص74 أيضاً: … بما يقلل ـ ما أمكن ذلك ـ من احتمالات التأزّم والصِّدام.

وأما النص متعدّد الدلالات والأبعاد والوظائف الذي أوردناه عام 1990 والذي تجده في ص74 من كتابِنا ذاك فهو التالي:

«من الطريف أنَّ يو. بيتوشكوف في مقالة جديدة منشورة في مجلة «الحياة الدولية» بعنوان «الباراسيكولوجيا والكونفليكتولوجيا» يدعو إلى إنشاء علم جديد مختص بدراسة الأزمات وحالات «الصِّدام».. أي أنه يدعو إلى خلق «علم الأزمة»([5]). والحقيقة أن العرب بدورهم لم يتأخَّروا في هذا المجال فطالب بعضُهم بإنشاء «علم اجتماع الأزمة» لمواجهة أحداث الخليج بصورةٍ خاصة وبالإفادة من خصوصياتِها، ولا ندري إن كان هذا استمراراً لردود الفعل العلمية الأخرى أَم أنه رد فعل مستقِلّ» .

وقد وثَّقْتُ هذه اللحظات المذكورة آنفاً في كتابي الصادر عام 2009 في دمشق ثم عام 2010 (في جزْءَين)، وتضمَّن الجزء الأول (2009) أكثر اللحظات والمفردات السابقة النزاعية/الصدامية ثم اختتمْتُها بالتساؤل التالي: بَعد هذا كلِه أتسألني لِم هذا «الصِّدام» لدى «هنتينْغْتون» في كلامِه على «صِدام الحضارات»؟

وجاء ذلك في الكتاب بجزئه الأول تحت عنوان «3.3. نحن وصِدام الحضارات» (ص102 ـ 103)، وقد أنصّص توثيقاً هنا هذا الذي ورد هناك([6]).

وقد تابعنا هذه «القصة» في الجزء الثاني من الكتاب (عام 2010) تحت عنوان «نحن وهنتينغتون وصِدام الحضارات: (قراءة أخرى لهنتينغتون ولأسرار صِدام الحضارات) (ص36 ـ 43)([7]).

وكان سبق ذلك نَشْر هذا الموضوع في الدوريات (قضايا وآراء في ج. البعث) فجاء بعنوان: قراءة أخرى لِهنتينغتون ولأسرار صدام الحضارات (ج. البعث، ع13847، الأحد 10/1/2010، ص15)([8]).

غير أنَّ المادة الأهم المتصلة بمحورنا الحالي ـ النِزاع / الصِدام ـ ورمزيات ذلك وملابساتِه غابت كلياً من المنشور الدَّوري، فكان لِزاماً عليَّ تثبيتُها وتأكيدُها في الكتاب، حيث وردت في ص41 منه كما يلي (ج2، عام 2010): «بقي علينا أن ننبّه إلى رمزية قويّة في مفهوم الصِّدام ـ صِدام الحضارات وقد أبدأ من تجربةٍ خاصة مع احتلال الكويت حين اضطرنا الحال إلى استخدام وفرة من المفاهيم والمصطلحات التي توظّف رمزية الصَّدم والصِّدام في السياق الثقافي: صَدْم العلم للثقافة الوطنية وإمكانات الصِّدام بينهما، الكَونْفليكْتولوجيا كعلْم حول النِزاع أو الصِّدام…إلخ كان هذا كله ينطبق على أوَّل حالة صِدام ضمن الوطن العربي في عصرنا الحديث بهذه الحدَّة وبطلُه «صدّام» حسين أيضاً، فلننظر في الأمر ملِيّاً، ولمزيدٍ من التفاصيل يمكن مراجعة مقال صاحب هذه السطور بعنوان «العلم وتحولات الوعي في المجتمعات النامية» المنشور وقتَ الأحداث المأساوية ـ أيْ قبل هنتينغْنون بسنوات ـ في «الأسبوع الأدبي»بداية عام 1991(العدد 247 في 24 كانون الثاني) ومِنَ العجز الاعتقاد أن الرموز الثقافية غير قابلة أو غير قادرة على الترحال عبر اللغات والثقافات والحضارات». ـ انتهى.

وغير خطّ النزاع / الصِدام/ الأزمة وعلومهما: علم النِزاع/الصِدام، وسوسيولوجيا الأزمة ومسارات ذلك، كان ثمةَ مسار «موازٍ مهَّد للتوحيد بينهما أعني مسار العلاقة بين الثقافات والحضارات في نوسان وتأرجح بين الوِفاق والانسجام والتكامل، وبين التناقض والمواجهة والنِزاع والصِدام والصِراع … إلخ وبدأ هذا المسار الآخر لدينا منذ بدايات الثمانينيات في أكثر من مكان، وخصوصاً في فصل أكاديمي من الرسالة حول عولميات الثقافة… في ظل الثورة التكنولوجية، بما فيه من طروحات وأفكار ورؤى تُخالف وتعاكس صدام الحضارات كما جاء به هنتينغتون لاحقاً بعد أكثر من عقد: في مقال في «الشؤون الدولية» (المجلة الأكاديمية) أوَّلاً، عام 1993، ثم في كتاب بالعنوان ذاتِه للمقال المذكور، ولكن عامَ 1996؛ وهذا الفصل مِن رسالتنا (بالروسية) هو الذي تستطيع أن تتعرف عليه/إليه بل وتقرأه بالعربية، إذ ترجمْنا ذاتنا بعد أواسط الثمانينيات وانتهى المطاف بالفصل مترجماً ذاتياً ومنشوراً عام 1992 في العدد 70 من فصلية الفكر العربي في بيروت، وفيه أسبقية وسَبق على سائر الصُعُد: كوكبياً/عولمياً/كونياً…إلخ، والنظام (بل النُظمْ) العالمي الجديد كلاً وأجزاء، وإعادة البناء (البيريسترويكا) وخصوصاً تحديد العلاقة الثقافية/الحضارية غرباً ـ شرقاً، شمالاً ـ جنوباً، وماضياً ـ حاضراً…إلخ([9]).

واستمرّ هذا الخط وهذا المسار لاحقاً بعد هنْتينغتون وصدور أعمالِه وانتشارها كالنار في الهشيم حول صِداميّة الحضارات (أي بَعد عام 1993 ـ مقالةً، ثم بعد 1996 ـ كتاباً بصورةٍ أخص)، فقمنا بنشر معالجة تفصيلية لهذه الآراء وأبعادها وخلفياتها الكثيرة في منشورات دورية وكتب عديدة:

1 ـ هنتينغْتْون وَ «صِدام» الحضارات، جاء مُوَلَّفاً تحريريّاً في صيغّةٍ معدَّلة في ملحق «نوافذ» (ج. المستقبل) عام 2002 في بيروت (25 أيار/مايو 2002)([10]).

وتحسُّباً من الحذوفات والاقتطاعات، كالعادة، وثَّقْتُه ذاتَه وكما هو أصلاً في كتاب صدر لاحقاً عام 2003 في دمشق([11]). ثم في كتابنا التوثيقي المبتكر نهجاً وطريقةً عام 2007 في الصفحة 117 ـ صورة كاملة لِمنشور ملحق نوافذ([12]).

2 ـ نحن وصدام الحضارات: ص102 ـ 106 من كتابِنا لعام 2009 (في جزئِه الأول) «أفكار ورؤى ومشروعات تأصيلية…».

3 ـ نحن وهنتينغتون وصدام الحضارات (قراءة أخرى لهنتينغتون ولأسرار صدام الحضارات): ص36 ـ 43 مِن كتابِنا لعام 2010 (في جزئِهِ الثاني) بالعنوان السابق ذاتِه ـ «أفكار ورؤى ومشروعات تأصيلية جديدة». مع العلم أن هذا الأخير منشور دورياً أيضاً، مع التقطيع والتشويه والحذوفات العجيبة في دوريات محلية سبقت الإشارة إليها ـ أعني: «قراءة أخرى لهنتينغتون ولأسرار صدام الحضارات»؛ ج. البعث، ع13847، الأحد10/1/2010، ص15 ـ قضايا وآراء.

***
مرْفَق ـ تنصْيص توثيقي: نحن وصدام الحضارات([13])

في مقال بعنوان «العلم وتحولات الوعي في المجتمعات النامية» على حلقتين رصدنا تأثيرات العلم على الثقافة في المجتمعات النامية وذلك في أسبوعية «الأسبوع الأدبي» (التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق)، جرى نشر الحلقة الأولى في 27 كانون الأول 1990 (في رأس السنة)، أما الحلقة الثانية فنشرت بداية العام التالي مباشرة في 24 كانون الثاني 1991 [ص2]([14]). وقد جرى توليف الحلقة الثانية بخاصة لتتلاءم رمزياً مع حادثة احتلال صدّام حسين للكويت حينها، فأتت مليئةً بمفهوم الصدام والنزاع عبر موشور ثقافي وديني ضمناً، وهنا بعض العيِّنات:

«… وفي نهاية المطاف هل صحيح أن ممثلي فروع المعرفة الطبيعية الإنسانية من «المحمديين المحافظين» حسب تعبير ب. ج. باولر، أستاذ التاريخ في إحدى الجامعات الكندية، لا يؤمنون بنظرية التطور؟ أو أن الصِدام الأكبر بين العلم والدين يظهر في العالم الإسلامي حقاً؟..

هذا ما يرد لدى ب. ج. باولر في مقالته بعنوان «هل سيؤدي العلم والتقانة إلى صِدام في ثقافة العالم الثالث؟» [ثم يأتي الإسناد الذي يتضمن مقالة باولر بالإنكليزية في تورونتو عام 1977 والذي يحتوي على مفهوم النزاع ـ Conflict وقمنا بتوليفه إلى مفهوم الصِدام عن قصد وبتوظيف رمزي] ونتابع في هذه الحلقة الثانية في الأسبوع الأدبي/ك2، 1991 ما يلي أيضاً:

«وعلى المثقفين العرب… الانتباه إلى أن الكلام عن «صَدْم» العلم للثقافة الوطنية لا يصدر دائماً عن حسن نية، بقدر ما قد يريد التهويل والتخويف من تطوير «العلم» وامتلاكه».

ونتابع أيضاً: «والذي يلزم البلدان النامية حقاً هو الاهتمام بمسائل دقيقة وحساسة كهذه، طلباً لمزيد من النجاحات والإنجازات والإغناء المتبادل لعناصر كل من العلم والثقافة معاً؛ وبما ينسجم مع منطق العصر ومع ضمان الاستمرارية والوحدة التتابعية التاريخية في وقت واحد أيضاً، وبما يقلل ـ ما أمكن ذلك ـ من احتمالات التأزُّم والصِدام».

ونتابع أيضاً في الحال: «من الطريف أن يوبيتوشكوف في مقالة جديدة منشورة في مجلة «الحياة الدولية» بعنوان «الباراسيكولوجيا والكونفليكتولوجيا» يدعو إلى إنشاء علم جديد مختص بدراسة الأزمات وحالات الصِدام ـ أي أنه يدعو إلى خلق «علم الأزمة» [الإسناد: يوبيتوشكوف: الباراسيكولوجيا والكونفليكتولوجيا، مجلة «الحياة الدولية»، ع10، أكتوبر 1990، ص108 ـ 113، بالروسية] والحقيقة أن العرب بدورهم لم يتأخروا في هذا المجال فطالب بعضهم بإنشاء «علم اجتماع الأزمة» لمواجهة أحداث الخليج بصورة خاصة وبالإفادة من خصوصياتها، ولا ندري إن كان هذا استمراراً لردود الفعل العلمية الأخرى أم أنه رد فعل مستقل».

بعد هذا كله أتسألني لم كل هذا «الصِدام» لدى هنْيتنْغْتون في كلامه على «صِدام الحضارات»؟ ـ انتهى المرْفَق ـ التنصيص التوثيقي.

***

وكما نلاحظ من هذين المسارَين المتَناظريْن يوجد ربْط بين مفاهيم النِزاع/الصِدام، وعلوم هذا النِزاع/ الصدام، ثم نظريات ذلك كلِه في إحدى أهم نظريات الصَّدام والصِدام والنزاع التي اشتهرت وسُوِّقتْ عالمياً بكثافةٍ وعناد ـ أعني نظرية هنتينغتون في صدام الحضارات، التي لا تجد لها أثراً البتَّة لدى «لوبيموفا» في كتابها حول «سيكولوجية» النِزاع، مع أنها في صلْب موضوعِها، ومع أنَّ كتابها يتواكب ويتزامن تقريباً مع مسارات هذه النظرية الفظيعة!!([15])

والآن أريد توثيقياً إثبات اهتمامي بالطابع المركَّب والمنظومي (والميزوْ/البَيْني) تعدديّ وتداخليّ الاختصاص للمحور الحالي الذي في أساسِه النِزاع / الصِدام، وحوار وصدام الثقافات/ الحضارات تالياً، وذلك بالرجوع إسناداً إلى أحد أحدث منشوراتي الدورية (ج. البعث 10/1/2010) والكُتُبيَّة (أفكار ورؤى… الجزء الثاني ـ 2010) والموضوع ذاتُه أشرْتُ إليه هنا غيرَ مرة، وسيكون رجوعي واعتمادي على المنشور الدوري لأنه حتماً وحكماً متضمّن ومستَغْرَق في الكتاب، ماذا نجد في المنشور الدوري، تركُّبياً، وهو البِعنْوان: قراءة أخرى لهنتينغتون ولأسرار صِدام الحضارات؟ تابعْ واقرأْ:

الجهد الحقيقي الذي لزم عام 1984 كان تلبية متطلّبات كثيرة جداً لُبِّيتْ كلياً بمنهجية مركَّبة وهي:

1 ـ استخدام المنطق المنظومي وَالمنطلق/ المدخل المركَّب وَتعدُّدية وتداخُلية الاختصاص تجاه قضايا الثقافة.

2 ـ إدخال الثقافة في مركَّب النظام الدولي / العالمي الجديد وجميع مشروعات المستقبل المنظومية…

3 ـ مركّب المشكلات الغلوبالية/ الكوكبية العالمية الشاملة… الثقافة كمشكلة غلوبالية/ كوكبية… في منظومة المجتمع البشري… مركَّب المشكلات الغلوبالية/الكوكبية حينها [مجدَّداً د. م. ن].

4 ـ الثقافة… كجزء من استراتيجيّة مركَّبة للتنمية الوطنية المستقلة… وهكذا وصولاً إلى استخلاصات في النِهاية مِن قبيل: … لقد انتصرت هذه المنطلقات وَالمداخل وَالمقارَبات جميعاً في نهايات المطاف…

***
3 ـ نيتْشيبورينْكو وَ«سوسيولوجيا النزاع» البورجوازية عام 1982

كما أن «لوبيموفا» وقعت في قطيعة، بل وانقطاعات وتقطُّعات، ابيستيمولوجية مع ذاتِها مراراً، فإنها حين رجَّحت نشوء علم النزاع وردائفِه بداياتِ التسعينيات، قد وقعتْ مجدداً في قطيعة ابستمولوجية مع «بيتوشكوف» الذي لاحظْنا ووثَّقْنا كيف أنَّه نهاية عام 1990 دعا إلى إنشاء علم جديد باسم علم النِزاع (كونفليكتوجيا)، وستجد وتكتشف حصول قطيعة ابستمولوجية أخرى جديدة بينهما معاً (لوبيموفا وَبيتوشكوف) ـ من جهة وتراث المسألة سوفييتياً (روسياً ضمناً)، حين تجد أسبقيةً وسبْقاً كانا قد حصلا بالفعل قبل حوالي عقد آخر مِن عام 1990: إنه كتاب منشور وبالروسية ومنذ عام 1982 بعنوان «سوسيولوجيا النِزاع» لمؤلِفِه نيتشيبورينْكو([16]).

بل وستجد قراءةً هامة لهذا الكتاب قام بها الاختصاصي الشهير والبارز «آ. س. بوغومولوف» ونشرها في المجلة الأكاديمية المتخصصة والعريقة «قضايا الفلسفة» في العام التالي (1983) في العدد والشهر الثاني (والمجلة شهرية)([17]). وقد أهتمّ بهذه القراءة/ المُراجعة ما أمكن وبقدر ما تسْنح لي الفرصة.

وقد اتضح أن الكتابَ ومراجعتَه على السواء غنيّان ومليْئان وفيهما منظورات وجوانب عديدة للرؤية، سنستبعد من بينها الجوانب العقائدية/الإيديولوجية التي كانت حامية الوطيس في ذلك الزمن، للتركيز أكثر على المعلومية الموضوعية وعلى التشبُّعات المعرفية المفيدة في الأحوال كافةً. وفي السياق تُعالَج التناقُضات والنِزاعات في سلةٍ واحدة.

يبيِّن «بوغومولوف» أن سوسيولوجيا النِزاع لم تلفت بعْد ما يكفي من الانتباه إليها والاهتمام الذي تستحقّه (ص171) وهو يشير إلى ندرة الأعمال التي جرى التعريف بها في هذا الباب، والتي أتى كتابٌ غير كبير استثناءً لذلك هو كتاب «ب. ليوفي» ـ «صراع طبقي أم نزاع اجتماعي؟» (ترجمة عن الألمانية، موسكو، 1976)، وبالتالي فإن عمل نيتْشيبيرينْكو الحالي يسدّ ثغْرةً في الأدبيات العلْمية لهذه المسألة.

ولدى المؤلِف وفرة من المفاهيم والمصطلحات المعالَجة المميزة ضمن مَباحث سوسيولوجيا النِزاع، تجد من بينها: «الموديل النِزاعي» (النموذج الصِدامي)، واقتراح طرق التحليل السوسيولوجي المناسِبة: «المقارَبة النِزاعية»، وَ«التوجُّه النِزاعي»، و«الآفاق النِزاعية» وغير ذلك، مع معالجة وتحليل النظريات والنُظَيْريات السوسيولوجية للنِزاع ذات التأثيرات والحضور الأكبر، لِتكوين تصوُّر متكامل عن هذا الاتجاه في الدِراسات السوسيولوجية، وعن أساسها النظري والمنهجي/ الميتودولوجي، واستخدامِها الايديولوجي.

ويرصد المؤلِف تطور «سوسيولوجيا النِزاع» مِن لحظة نشوئِها نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وممثِلوها المبكّرون هم أمثال: ل. غومبلوفيتش، غ. راتْصِنْغوفر، أوْ. سامْنِر، آ. سْمولّ، غ. زيمميل.

وكان «غ. زيمميل» هو ذاته صاحب المصطلح فهو الذي أَدخل في التداوُل مصطلح «سوسيولوجيا النِزاع» ذاته. والكتاب الحالي يوصِّف خصوصية مادة أوْ موضوع «سوسيولوجيا النِزاع» بما يسمح بِفَرزِها كاتجاهٍ خاص للدراسات السوسيولوجية كما للنظرية السوسيولوجية سواء بسواء، وبِرَبْطِها بطرح المشكلات النظرية ـ المنهجية لظاهرة النِزاع الاجتماعي كما هي (هو). ويبين مؤلِف الكتاب أن علماء الاجتماع الغربيّين أبدوا اهتماماً حيّاً نشِطاً بـ «باراديغما النِزاع» [الباراديغما/«البارادايْم» أي الإرشادية/ النموذج الإرشادي ـ د. م. ن]. فصارت هذه الباراديغْما/الإرشادية «واحدةً من الباراديغْمات المهيمنة للتنظير السوسيولوجي/ علم الاجتماعي» (ص25). وفي الكتاب تحليل لنظريات النِزاع علم الاجتماعية/السوسيولوجية الممثَّلة في نظريّات (أوْ تصوُّرات):

«النِزاع الوضْعي ـ الوظيفي» لدى «ل. كوْزير»، و«الموديل/النموذج النِزاعي للمجتمع» عند «ر.داريْندورف» و«النظرية العامة للنِزاع» عند «ك. بوْلْديْنْغ».

والعمل المُراجَع يثير الاهتمام ليس فقط بمعلومِيَّتِه، باعتبارِه فعلياً الأولَ في الأدبيات «السوفييتية» من حيث التحليل النَقدي المعمَّم والمنظَّم (الدَّؤوب) لهذا الاتجاه في علم الاجتماع/السوسيولوجيا «البورجوازية»، بل ولأنه الاتجاه الذي دأب فيه علماء الاجتماع الغربيون على، وبذلوا جهودَهم لِـ، إصلاح النظرية السوسيولوجية العامة للوظيفية البنْيوية([18]). وفي الكتاب مقابلات بين الجدل/ الديالكتيك وبعض الشبَه (أو «افتعاله») مع هذا الاتجاه الغربي الجديد، اعتماداً على مواد النظريات الكونفليكْتولوجية (عِلم النِزاعية) المعاصِرة في هذا الاتِجاه، وعلى «المقارَبات النِزاعية» فيه أيضاً، ويختتم المؤلف بإيضاح الأهمية الموضوعية والشاملة لِما يصفه توثيقياً بـ «المعالجة الإيجابية الفعّالة للمشكلات النظرية للنِزاع الاجتماعي…»(ص141).

([1]) ستجد حكايات وقصصاً نشوئية وارتقائية لعلوم بازغة كهذه: علم الثقافة + علم الإبداع (أوعلومهما) بإسهابٍ وغزارة في كتابي: الثقافة والإبداع والملْكية الفكرية، دمشق، 2003؛ وخصوصاً في الفصل الثاني ـ الإبداع وعلوم الإبداع.

([2]) الكتاب المترجَم في علم النزاع هو: «سيكولوجية» النِزاع، تأليف د. غالينا لوبيموفا، ترجمة د. نزار عيون السود، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق ـ 2007، 184 صفحة.

([3]) العلم وتحولات الوعي في المجتمعات النامية (حلقتان)، الأسبوع الأدبي، دمشق (اتحاد الكتاب ع.)، العددان: 243 في 27 ك1 1990، وَ 247، في 24 ك2 1991.

([4]) تنمية العلوم والتكنولوجيا دولياً وفي العالمين العربي والنامي؛ دار «الأنوار»، دمشق/ بيروت، 1999، ص66 ـ 75.

([5]) يو. بيتوشكوف: الباراسيكولوجيا والكونفليكتولوجيا، مجلة «الحياة الدولية»، ع/10/، أكتوبر، 1990، ص108 ـ 113، بالروسية.

([6]) أفكار ورؤى ومشروعات تأصيلية جديدة؛ دمشق، 2009 (الجزء الأول)، ص102 ـ 103: نحن وصِدام الحضارات.

([7]) أفكار ورؤى ومشروعات تأصيلية جديدة؛ دمشق، 2010 (الجزء الثاني)، ص36 ـ 43: نحن وهنتينغتون وصِدام الحضارات…

([8]) قراءة أخرى لِهنتينْغْتون ولأسرار صِدام الحضارات؛ ج. البعث، ع13847، الأحد 10/1/2010، ص15 ـ قضايا وآراء.

([9]) التقدم العلمي ـ التقني والحياة الثقافية في البلدان النامية؛ مجلة «الفكر العربي»، بيروت، العدد 70، ت1 ـ ك1 1992.

([10]) «صِدام الحضارات» في متناول غير الأميركيين؛ «نوافذ»/ ملْحق فكري ـ ثقافي لصحيفة المستقبل/، بيروت، السبت 25 أيار (مايو) 2002م، ص8.

([11]) ذاتُه لاحقاً بعنوان: هنْتينْغْتون و«صِدام» الحضارات، في كتابِنا: العولمة (الكوكَبة) منْهجياً ونظرياً وتطبيقياً، دمشق، 2003، ص80 ـ 87.

([12]) صدام الحضارات في متناول غير الأميركيين ـ سكانر عن منشور ملحق نوافذ من ج. المستقبل في ص117 من كتابِنا: مؤلَّفات وتغْطيات على الإنترنيت وفي الدوريّات/ توثيق ذاتي/، دمشق 2007.

([13]) من كتاب: أفكار ورؤى ومشروعات تأصيلية جديدة، توثيق، دمشق 2009، 180 ص، مِن ص102 ـ 103.

راجعْ أيضاً كتابَنا: العولمة (الكوكبة) منهجياً ونظرياً وتطبيقياً، دمشق 2003، 170 ص. ولاسيما، ص80 ـ 87.

([14]) لاحقاً صدرت الحلقتان في كتابنا «تنمية العلوم والتكنولوجيا دولياً وفي العالمين العربي والنامي»، دار الأنوار، دمشق/ بيروت، 1999، ص70 ـ 74 بصورة خاصة.

([15]) سيما وأن بعض أحدث إسنادات ومرجعيات «لوبيموفا» أتت من عام 2001 أيْ بعد 8 سنوات من ظهور مقال صدام الحضارات وخَمْس سنوات من ظهور الكتاب بالعنوان ذاتِه.

([16]) ل. آ. نيتْشيبورينكو: «سوسيولوجيا النِزاع» البورجوازية، موسكو، دار الأدبيات السياسية (بوليتْ إزداتْ)، 1982، 142 صفحة («التقدم الاجتماعي والفلسفة البورجوازية»).

([17]) آ. س. بوغومولوف: عرض وقراءة لكتاب نيْتْشيبورينْكو المذكور في الصفحات 171 ـ 172 مِن المجلة الأكاديمية الشهرية «قضايا الفلسفة» (يُصْدرها معهد الفلسفة الأكاديمي)، العدد 2، 1982 (ع2/1982).

([18]) سْتْروكْتورني فونكْتْصيوناليزم = Structural Functionalism [د. م. ن] هو الوظيفية البنْيوية، وليس البنْيوية الوظيفية كما اعتدنا في العربية على مصطلحاتٍ دوَّارة كهذه في ثقافتِنا بالصيغة المقْلوبة.


د. معن النقري


منقول لكل فائدة عن أكثر من قطيعة ابستمولوجية في قصة علم النِزاع وأَخَواتِه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى