عبد الرحيم جيران - السهو السردي الحكاية التي لم ترو في الليالي

يتصل السهو بعلاقة السارد بفعل سرده، وبقوّة ذاكرته، وبوعده بحكي حكاية أو حدث يُؤجِّلهما، أو يعطي معلومات غير متطابقة مع ما سبق سرده. والسهو السرديّ غفلة عن شيء معلوم لدى السارد، لا عدم قدرته على تذكّره.
ولا تخلو الليالي من أن يعرض السهو للسارد، خاصّة في صدد حكاية «أمامة وعاتكة» التي ذُكرت نصّا في الليلة السادسة، ضمن حكاية «الصياد والعفريت»، لكنّها لم ترو: « ثم صرخ المارد وقال بالله عليك أيّها الصيّاد لا تفعل وأبقني كرما، ولا تُؤاخذني بعملي، فإذا كنت أنا مسيئا كن أنت محسنا، وفي الأمثال السائرة يا محسنا لمن أساء كفى المسيء فعله، ولا تعمل عمل أمامة مع عاتكة».
لقد جاء ذكر عنوان الحكاية على لسان العفريت في هيئة وعد لا بدّ من إنجازه بعد تحريره من القمقم، بيد أنّه لم يفعل؛ الشيء الذي يُعدُّ سهوا سرديّا يُخالف تقاليد الحكي؛ إذ إن كلّ الحكايات المُؤطَّرة المُتضمَّنة تسرد ما أن يُعلن عنها. فكيف يُبرَّر هذا السهو السرديّ؟
هناك افتراضات أربعة:
أ- افتراض أوّل وهو الأضعف، ويتمثَّل في صمت مقصود عن هذه الحكاية من قِبَل شهرزاد، بوصفها ساردة خارجيّة، ومردّ هذا إلى أنّ الحاجة إلى سرد هذه الحكاية لم يَعُد مطلوبا بعد تحرير العفريت، لكنّ هذا الافتراض لا يستقيم، نظرا لأنّ تحريره جاء بموجب تعاقد مع الصيّاد يقوم على أمرين هما: التعهّد بعدم الإساءة إليه، ورواية حكاية «أمامة وعاتكة».
ب- افتراض ثانٍ، وهو ضعيف، ويتعلّق بما إذا كانت شهرزاد قد غفلت عن الحكاية، أم تفادتها قصدا. لكن قد يُذكِّرها شهريار أو دنيا زاد بوصفهما مسرودين لهما في حالة الغفلة؛ ومن ثمّة يتعذَّر أن يعرض لها السهو. وقد يحتمل أيضا أنّ الحكاية كانت شائعة ومعروفة لدى كلٍّ من شهريار ودنيا زاد، ولا داعي لسردها، لأنّها إذا فعلت تضرّ باستراتيجيتها الماثلة في إدهاش شهريار. ولكون حكاية «أمامة وعاتكة» قد تكون معروفة، لم يطالب هذا الأخير ولا دنيا زاد بروايتها. وقد يحتمل أن شهرزاد تعمّدت ألّا تروي الحكاية لشيء فيها لا يتلاءم مع ما ينتظره شهريار من الحكي وفق رؤيته إليه، أو مع المُحرَّم الذي ينبغي عدم الاقتراب منه (أمامة اسم لحفيدات الرسول (ص)). لكن إذا كان الأمر على هذا النحو فَلِمَ ذكرت شهرزاد حكاية «أمامة وعاتكة»؟ أهي فلتة لسان؟ أم تعب السهر وقد أضعف قدرتها على التحكّم في ما ترويه من حكايات؟
ج- افتراض ثالث، وهو أقلّ ضعفا، ويتّصل ببنية الحكاية ومُبرِّراتها الأخلاقيّة، وترتيب الأولويات في هذا الصدد؛ فربّما كان عدم سرد حكاية «أمامة وعاتكة» ناجما عن كونها غريبة عن منطق الليالي، وتضمّناتها الأخلاقيّة. وحتّى نقرر مثل هذا الحكم ينبغي بناء منطق هذه الحكاية غير المروية، وفق ما يُراد أن تكون تمثيلا له. ويتحدّد هذا التمثيل في تحويل معادلة (مقابلة الإحسان بالشّر) إلى معادلة أخرى (مقابلة الإساءة بالإساءة)؛ فالعفريت أراد أن يروي تكذيب ظنّ الصيّاد، الذي يتحدَّد في الشكّ في توبة العفريت عن الإساءة في حالة إذا ما حرّره، وما يعقب عدم قبول التوبة من ندم. وينبغي قراءة الليالي في إطار السجال بالحكايات التي يُعَدُّ كلٌّ منها كلمة حجّة مقابل كلمة حجّة أخرى. وهكذا لن تكُون رواية «أمامة وعاتكة» إلا كلمة - حجّة تضادّ كل ّالكلمات الحجج (الحكايات) التي تُبرهن على صحّة معادلة (مقابلة الإحسان بالشرّ) وتضمّناتها الأخلاقيّة؛ إذ من المفروض أن تُبرهن على الندم على عدم قبول إمكان التوبة، وعلى الشكّ، وسوء التقدير. قد تكُون حكاية البازي المُتضمّنة في حكاية «يونان وذوبان» تمثيلا للندم، لكنّه ندم ناجم عن سوء التقدير، لا عن الشكّ وعدم قبول التوبة؛ وحتّى الندم من المفروض أن يكُون في حكاية «أمامة وعاتكة» مُختلفا يعقب عدم الردّ على الإساءة بالإحسان، ولو من باب التجريب. ومن ثمّة يعدّ تسريد الندم وفق هذا المنطق، مضّرا بمنطق الليالي الأخلاقيّ.
يُعَدُّ هذا الافتراض الثالث - على الرغم من ضعفه - مُمْكِنا مقبولا يُفسِّر القفز على حكاية «أمامة وعاتكة»، لأنّها تُمثِّل من حيث منطقها وتضمّناته الأخلاقيّة استثناء يُخلّ بتمثيل العالم، الذي تُصاغ بموجبه الليالي. وينبغي التنبّه - في صدد هذا الافتراض الثالث - إلى أنّ المعادلة التي تتحكّم في الليالي (مقابلة الإحسان بالشرّ) تتّصل بالثقة في التاريخ، التي تُمثَّل من خلال الثقة في الوعود التي تُعَدُّ شخصيات الليالي تمثيلا لها؛ فحكاية «الصيّاد والعفريت»- وما تتضمّنه من حكايات ومن ضمنها حكاية «أمامة وعاتكة» لا تروي أرضيتها الأخلاقية إلّا فوق أرضية فقدان الثقة، بما يعنيه من شكّ في الوعود، وفي الارتباطات المُقدَّسة (الزواج: خيانة ابن عمّ ابن الملك المسحور له)، وفي السلطة وتعهّداتها تُجاه خدّامها (شكّ الملك يونان في الحكيم ذوبان).
هكذا يُعَدُّ الوثوق في التاريخ وإمكان تحقّق التضمّن الأخلاقيّ (الإحسان بعد الإساءة) أمرين منافيين لما تسعى الليالي إلى تمثيله سردا؛ ومن ثمّة تُعَدُّ كلّ حكاية تُقام على هذا التضمّن إخلالا بها. فهل كان هذا التنافي وراء عدم تظهير حكاية «أمامة وعاتكة» على مستوى النصّ الليليّ، لأنّها تمثّل الندم على عدم الإحسان بعد الإساءة؟
يُعَدّ الافتراض الرابع الأقوى في هذه الافتراضات، وهو يتّصل بعمليات التدوين، لا بشهرزاد؛ وهذا يقضي بأنّها روت حكاية «أمامة وعاتكة»، وأنّ عدم ذكرها في النصّ عائد إلى عمل المُدوِّنين الواقعيّين. ويَرِدُ - هنا- احتمالان: إمّا أنّهم لم يُسجِّلوها، أو سجّلوها لكنّها ضاعت؟ والميل إلى ضياعها بعد عملية التدوين أشدّ إقناعا. ربّما تكُون النسخة التي وصلت إلى المُدوِّن الأخير، أو من تكفّل بطبعها ناقصة، ولم يتنبّه إلى نقصها هذا. وإذا كان الأمر كذلك فالسهو مُتأتٍّ من جهة غفلة من أخرج النصّ في نسخته التي وصلت إلينا. لا يتعلّق الأمر - إذن - بسهو سرديّ قد طال حكاية «أمامة وعاتكة»، وإنّما بضياعها، لكنّ الأثر على وجودها ظلّ مُسجَّلا في النصّ في هيئة وعد لم يُنفذ.
ما نصل إليه في النهاية هو أنّ «ألـــف ليلة وليلة» غافلت لقرون كلّ من اقترب منها، غافلت من راجعها وطبعها، ومن قرأها بوساطة الحكاية التي ظلّت تتكلّم، ولم يُتنبَّه إليها، وظلّ اثرها موجودا في النصّ مثل الوشم على ظاهر اليد، يُذكِّر بقدرة الليالي السرديّة على أن تُمارس السحر مثل شخصياتها الساحرة على القرّاء، فتجعلهم لا يرون، ومُصابين بالعمى، فلا يتساءلون عن عدم وجود حكاية «أمامة وعاتكة».


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى