محمد السيد ياسين الهاشمي - حيـــرة.. قصة قصيرة

أبتعد عن أمه التي بلغت من العمر عتيا، ترك معها أخاه ألأصغر وأخته، إستأجر منزلا متواضعا يعيش فيه مع زوجته وأولاده الأربعة الصغار في محلة (المحمودية) عيشة بؤس.. يشتغل ليله ونهاره لتأمين حياة أسرته..

في مساء شاحب خانق من أماسي الصيف الحارقة..عاد (عباس) متعبا.. ملابسه مبتلة منن العرق المتصبب من جسمه،. استقبله الأطفال يصرخون.. أمنا.. أمنا.. اندهش وصاح :

– ما ذا بها يا رب.. يا ستار

وجدها تتلوى من الأوجاع الشديدة في البطن.. خرج يريد الطبيب.. وهو لا يملك سوى أجر الطبيب وثمن العلاج.. كانت مصادفة على غير انتظار (زادت الطين بلة)

إلتقاه صديق من شباب محلته القديمة، أخبره عن تردي حالة أمه.. ودعوتها له لتراه قبل موتها.. فوجئ بهذا الخبر.. وصدم به، لأن ما به من حال لا يمكن تأجيله.. وخدمة زوجته واجب إنساني.. فهل يتركها تعاني المرض والأوجاع، وقد تكون النتيجة ما لا يحمد عقباها.. أم يعود للقاء أمه.. لقد زاده ذلك شقاء على شقائه.. فمرض زوجته والاحتمالات السيئة التي يخشاها.. ولا راعي لأولاده الصغار.. وهو في طريقه الى الطبيب.. وتلك أمه التي تود أن تكحل عينبها بمشهد ولدها، حتى يكون طيفه أخر ما ينعكس فيهما من الدنيا..

فجر الخبر في صدر (عباس) زلزالا.. فدق قلبه دقة عنيفة قال باقتضاب وهو يكابد شعورا ملؤه التشاؤم والخوف.. فزوجته عزبزة عليه وأمه مطلوب البر بها.

– لقد أوقعتني يا صديقي في بلبلة وحيرة، لا أعرف كيف أتخلص منهما، ولا كيف أعالجهما فما أنا فاعل الآن وأنت ترى بنفسك حالتي ؟ هل أمضي الى أمي ؟ أو اتم مشيتي الى الطبيب ؟

صمت صديقه وترك الأمر له..

فكر (عباس) طويلا وبتعقل.. والألم يعتصره، والموقف محير.. صعب.. يحتاج

الى اتخاذ قرار سريع وصائب.. إقتنع بأن خدمة الحي أولى من خدمة الميت.. فأمه قد تجاوزت الثمانين حولا.. وهذا سن النهاية.

قرر مراجعة الطبيب.. والمساء يزحف في خطوات حاسمة غاشيا الطرقات والأزقة والمآذن… الشمس تدلف نحو مغربها في بطء.. و (عباس) في قلق يقض جوانحه وحيرة شديدة تكتنفه. وصل عيادة (الدكتور مصطفى) في شارع (المعارف)..كانت تغص بالمرضى.. فهو طبيب محسن وكريم.. طالما عالج الفقراء وواساهم في أيام المرض..

كلمته دائما للمريض : (إنك ستشفى سريعا) يسمونه (طبيب المدينة)..

يسر له المراجعون دخول غرفة الطبيب قبلهم لشدة ما لاحظوه من حالة زوجنه المرضية.

إنتبه الطبيب الى (عباس) الذي كان في وضع مرتبك يعلو محياه الكدر.. سأله :

– ما بك ؟

أجابه وقلبه ينعصر أسى :

– أرجو اكمال فحص زوجتي لأطمئن عليها.. وسأروي لك مما أعاني.. مستجيرا بك..

– حسنا.. وبدأ الطبيب بفحص المريضة.. وظهرت النتائج سليمة لا تدعو الى القلق والخوف.. خصص العلاج ورفض تسلم أجور الفحص.. لأعتبارات انسانية..

عاد الطبيب ليسأل (عباس) : –

– ما ذا حصل لك ؟

-روى (عباس) للطبيب، ذي الوجه الهادئ والقلب النبيل تفاصيل الأمر الذي عاناه قبل وصوله العيادة..

رد الطبيب بهدوء : –

– انتظرني.. وسأبدد حيرتك..

أكمل فحوصات مرضاه المزدحمين في صالة الأنتظار وأسرع مع (عباس) وزوجته، فاصطحبهما في سيارته،ليزور أمه.. وضع في حقيبته بعض الأدوية التي قد يتطلبها الأمر..أوصل الزوجة الى منزلها.. واتجها الى دار الوالدة في محلة (السراي)

أخذ (الدكتور مصطفى) يتحدث مع (عباس) وهما في طريقهما قائلا : –

– يفترض أن توفق بين أمك وزوجتك في التعامل الأسري .. فالأم تحت قدميها جنة.فمنزلتها جد عظيمة.. وأوصى بها الرب الكريم : (وبالوالدين إحسانا )

أجابه (عباس)

– رأيك هو الحق.. ولكنها طاعنة في السن .. وتعاني أمراضا متنوعة.. ولا جدوى من عودتي لها.. وحالة زوجتي تستدعي العلاج.. وهي شابة.. عماد البيت والأسرة..

فيرد الطبيب الانسان : –

– ولكن رضا الرب في رضا الوالدين.

قال (عباس) :

– سمعت قولا للسلف الصالح : (إتقوا الله في الضعيفين)

يعني أحدهما المرأة.. التي هي ريحانة وليست قهرمانة.. وعلي أن أحسن صحبة زوجتي ليصفو عيشي..

وأردف مضيفا : –

– عيال الرجل أسراؤه.. وواجبه الأحسان اليهم..

وصلا الى الدار.. وتوجه الطبيب لفحص (أم عباس).. لوى شفته، وهز رأسه.. غادر البيت هامسا في اذن (عباس)

– إن الساعات القلائل القادمة ستكون الحاسمة لوالدتك.. إلتف الأبناء حول أمهم.. باكين.. طالبين العفو والصفح منها..

وعلى حين غرة هبط عليهم الزائر الأخير (قابضا) منفذا مهمته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى