يحيى الطاهر عبد الله - الشّجرة

حدّثت نفسي بصوت يحبّه ضميري:
“والسّماء ذات الصّدع.. لقد خالف أمرا.. ممّا لا شكّ فيه أنّه خالف أمرا.. لهذا أمسكت به الشّرطة، هو صديق وأنا أحبّه.. لكنّي ما خالفت أمرا قطّ.. قطّ.. قطّ.. قط.. والله أمرا ما خالفت.. فلماذا لا يأخذ هو نفسه بما آخذ أنا به نفسي ؟ لماذا يا رب السّماوات !! ثم إنّه لا يجب أن يراني حتّى لا يّعي أنّه رآني.. وما من أحد من المارة، وهم قلّة، يعرف علاقتي به حتّى يأخذني بلوم.. ما من أحد.. ما من أحد يجرؤ، كما أن اليوم يوم راحتي.. ولي صديقة تنتظرني.. هناك بالحديقة تحت الشّجرة: يا لها من شجرة.. ساقها أملس صعب على الإنسان أن يعتليه.. صعب صعب.. جذورها الواضحة فوق الأرض تسعى طالبة لماء العين البعيدة.. لحاها أبيض ناصع البياض.. أوراقها الخضراء تلمع كأنّها أجنحة الطير ترفّ تحت الشمس.
***
ها هي، ها أنا، ها هو العالم، وهاهي الشّجرة يا للسّنوات:
قالت: كنت هناك.. كنت بالشّارع.. يوم كنت هناك.. يوم أمسكوا بك.. لم أجرؤ.. يا للسّنوات.
قلت: كنت هناك.. كنت بالشّارع يوم كان هناك.. يوم أمسكوا به.. لم أجرؤ.. وكنت أظنّ أنك هنا وكنت أنت هناك.. يا للسّنوات.
قالت: يا لك من ولد طيب.. يا لنا من أطفال مساكين.
قلت: يا لك من فتاة طيّبة.. يا لنا من أطفال مساكين.
(قلبي وقلبها مازالا محفورين على ساق الشّجرة باسمينا)
قالت: أذكر يوم أعطتنا ما يعطيه ثدي الأمّ: كان لبنا ناصع البياض.
قلت: أذكر.. كان دمعا ولم يكن لبنا ناصع البياض..
لا تجزم هل ذقت طعمه ؟
وخلعت نعليها ومدّت يدها: صغيرة مبلولة ترتعش. وكنا نطوف حول الشّجرة.
قالت: ولكن هل يعرف الشّجر الأمومة مثلنا نحن البشر ؟
قلت: للبن طعم.. والدموع مالحة.
قالت: ولكنّك لم تجرب.
وقالت: لا أنا ولا أنت.. نجرؤ.
وقالت: يا لها من شجرة.
فصرخت: نعم.. يا لها من شجرة.
[/size]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى