الجنس في الثقافة العربية : برهان شاوي - ملاحظـات عـن الجنـس في الرواية

ربما من نافل القول أن نؤكد بأن الجنس هو أكثر التحريمات في الثقافة العربية والإسلامية التي تلتف حول المنظومة الأخلاقية..وهذا الموقف من الجنس ينسحب على حضوره في عالم الأدب شعرًا ورواية..وربما يمكن التأكيد هنا بأن هذا الأمر عانت منه أوروبا المسيحية أيضاً..ولنا في رواية ” عشيق الليدي شاترللي” للكاتب ديفيد هربرت لورنس (1885- 1930) المثال الأبرز..فقد كتب لورنس روايته الخالدة خلال شهر تقريبا حيث بدأها في 22 أكتوبر وانتهى منها في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر العام 1926…بيد أن الرواية رُفضت من دور النشر لأنها عُدت رواية جنسية فضائحية..
لكن لهذه النسخة الأولى قصة وتاريخ أيضًا..فقد نُشرت في أميركا العام 1944 بعد وفاة المؤلف..بيد أن دار النشر تعرضت لحملة مضادة وأستدعيت للقضاء والمحاكم..وتم ايقاف التوزيع..لكن بعد مداولات قانونية سُمح بتوزيع الرواية مرة أخرى.. أما في بريطانيا فلم تنشر إلا العام 1972.
بعد أشهر من كتابة النسخة الأولى للرواية قام لورنس بكتابة نسخة ثانية العام 1927 حاذفاً منها معظم تفاصيل المشاهد الجنسية بين البطلة الليدي كونستانس شاترلي وشخصية حارس الغابة أوليفر باركن..لكن حتى هذه النسخة المعدلة منعت في بريطانيا ولم تنشر إلا في ايطاليا العام 1952 وفي بريطانيا العام 1960 وأميركا العام 1972.!..إصرار لورنس على نشر روايته ، بعد رفض النسخة المعدلة الثانية، دفعه لكتابة نسخة ثالثة من الرواية خلال أقل من شهرين تقريباً ما بين نهاية العام 1927 وبداية العام 1928..وهذ النسخة كانت مختصرة إذ تم حذف ما يعادل 10% من حجم الرواية.
النسخة الثالثة للرواية نشرها لورنس بنفسه وعلى نفقته في فينيسيا بإيطاليا بداية العام 1930حيث كان يعيش، وبنسخ بلغت 1000 نسخة…وحين أرسل النسخ المطبوعة الى أميركا وفرنسا وبريطانيا تمت مصادرة الكثير منها لكنها وصلت للقارئ البريطاني.. ورفعت دعوى ضد لورنس نسخة الرواية الثالثة بدعوى أنه كتب رواية إباحية (بورنوغرافية)..وقد دافع لورنس عن روايته بمقال معروف له عنها… لكنه مات في تلك السنة 1930..
وصول نسخ من الرواية إلى بريطانيا جعلها مثار حديث الصحافة ودار نقاش طويل حول حرية الصحافة والأدب والتعبير..النقاش حول الرواية ومنعها وإقامة الدعوى ضدها دفع زوجته لنشر النسخة الثالثة عن دار نشر بنغوين بدفعة وصلت إلى 200 ألف نسخة يقال إنها نفدت خلال يوم واحد..وخلال سنة طبعت دار النشر منها 2 مليون نسخة.
**********
شخصيًا كثيرا ما يسألني القراء والأصدقاء عن هذا التركيز على ذكر التفاصيل الجنسية في رواياتي..وهل هناك ضرورة لها لذكر التفاصيل الدقيقة في المشهد الجنسي الروائي..؟ ألا يمكن عبورتلك المشاهد بكلمات موحية دون تعكير مزاج القارئ بمفردات قد تخدش الحياء..؟ بل هناك بعض القراء والقارئات من لم يمتلك الصبر كي يسألني وإنما تجاوز الأسئلة بشتمي على صفحات الفيسبوك وفي رسائل خاصة..واتهامي بالعقد النفسية وبأني أسعى إلى الشهرة من خلال ابتزاز القارئ..وفي أفضل الأحوال اتهامي بالعلمانية التي تريد تخريب الأخلاق والدين..!!.
لا أسعى إلى تبرير أي شيء..التبرير أمر لا يعنيني..لكن يمكن التوضيح بأني لا أكتب على طريقة الأفلام المصرية..البطل والبطلة يدخلان إلى الغرفة ويغلقان الباب..والبقية تجري في مخيلة المشاهد..لا.لا.الأمر ليس كذلك في الحياة أبداً..! فقد يكون الرجل ساديًا يضرب المرأة..وقد تكون هي مازوشية تحب العنف في الممارسة..وقد يكون هو عاجزًا..وقد يكون سريع القذف فيجعل من الممارسة الجنسية لحظات عذاب نفسي للمرأة..وقد تكون رائحته كريهة..وقد تكون هي باردة..و.و.و. في تلك التفاصيل تسقط الأقنعة..وتنهار الحواجز..ويكشف الإنسان لحظتها عن أعماقه الغامضة..وبالنسبة لي إذا كانا من شخصياتي الروائية فسأدخل معهما الغرفة لأكشف عن طبيعتهما..!.
الجنس..وبالتحديد تفاصيل العملية الجنسية هي التي تكشف عن شخصية الإنسان والطبيعة النفسية له..تكشف عن كل لحظات ضعفة وساديته وعجزه وحيوانيته..فمثلا..اللحظات التي عاشتها حواء ذوالنورين مع قابيل العباسي في متاهتي الثالثة ” متاهة قابيل”.. هي تكشف عن قناع شخصيتها القوية إذ بدت هشًة ومتهزًة ومنهارًة..فقد انهارت بشكل ماسوشي في لحظات الممارسة مع صديق ابنها الذي تزوجها بالقوة..وتكشف عن ضعف هائل ورغبة في اذلال النفس..وكأنها تكفّر عن عقدة ذنب وكذلك عن عقدة أوديبية معكوسة..وكذا في لحظات اغتصاب حواء اللهيبي من قبل رجل المخابرات آدم التكريتي وتابعه آدم الضبع..في متاهتي الأولى ” متاهة آدم”..أو ما جرى مع حواء صحراوي في ” متاهة الأشباح”..أو ما جرى لآدم بوناروتي في فلورنسا في متاهتي الخامسة ” متاهة إبليس”..أو ما جرى للسيدة ” إيفا سميث” في متاهة الأرواح المنسية” عند الدرج ..أو في شقة آدم زاباتو..!!.ولولا تلك المشاهد لما عرفنا طبيعة تلك الشخصيات على حقيقتها.
في التفاصيل الجنسية تتكشف الأقنعة الاجتماعية كلها..فأثناء الممارسة يتلفظ الرجل والمرأة ألفاظا تكشف عن شحنتاتهم النفسية..لكنهما يخجلان منها بعد لحظات من الانتهاء من الممارسة..
شخصيا أنتمي لمدرسة التحليل النفسي المابعد فرويدي، والتي يطلق عليها اسم ” اليسار الفرويدي”.. التي من مؤسسيها كارل غوستاف يونغ وأدلر وهربرت ماركوزة وإريش فروم..,وفي السرد الروائي انتبه إلى جانبها اللغوي..أي التوقف عند الألفاظ ودلالتها أوعند ما يسمى ب” زلّات اللسان”، وعن الجمل الساخرة والاستهزاء أو العنف اللغوي ودلالته النفسية في الكشف عن الشخص المتحدث..
حينما أكتب عن شخصية أو تركيبتها النفسية، برغم دراستي المسبقة ومعرفتي بتحليل الشخصيات من زاوية علم التحليل النفسي..أتوجه لمراجعة عشرات المصادر والبحوث والإحصائيات..والأفلام والفيدوهات والمحاضرات المصورة عن موضوع الحالة التي تكون الشخصيات الروائية فيها..!
صحيح أنني لا أكتب بحثا علميا..لكني استهدي بالطبيعة البشرية وما كتب الأطباء النفسانيون والاجتماعيون عنها..المشاهد كثيرة..لكنها لا تتشابه..ربما تتشابه في الجوهر لما فيها على الأغلب من عنف ظاهر..لكن ذلك يذكر بمقولات علماء النفس في الوضع البشري عند الممارسة..انه وضع عنيف وحيواني..أما تأثيراته النفسية على الشخصية فتلك اللحظات هي التي تكشفها..فبعد الممارسة يسارع البشر لإرتداء أقنعتهم الأخلاقية بسرعة..فهناك من النساء من تعتقد أنها اقترفت شيئا نجسًا عندما تمارس الجنس..لكنها مضطرة لإرضاء الزوج..لسبب قد يبدو بسيطًا هو أنها لا تشعر باللذة مع الرجل..أو أن الرجل من الأنانية بحيث ينتهي بسرعة ويترك المرأة في توتراتها النفسية..وربما تكتشف في نفسها ميلًا إلى النساء..أو أشياء غامضة أخرى تجري في النفس خلال تلك اللحظات..عموما..لو لم أذكر التفاصيل لما أستطعت أن أكشف عن ضعف الشخصيات وقوتها..
أنا أفهم أن لا يتقبل بعض القراء هذا الأمر وينفرون منه بل يتهموني بشتى أنواع الاتهامات الأخلاقية والنفسية..كما أفهم أن كل ذلك مرتبط بطبيعة القراءة..فكما يقول رولان بارت: “إنّ هذا (الأنا) الذي يقترب من النصّ هو نفسه سلفًا متشكِّل من تعدّد نصوص أخرى، وأنساق لا نهائيّة”……أي أن تجربة القراءة وموقف القاريء من النص الروائي وتقبله له ليس له علاقة مباشرة بالمؤلف.. وإنما بالقارئ نفسه..إذ تتعلق بذائقته..وفهمه..وطبيعته النفسية..ومنظومته الأخلاقية.. وبلحظة القراءة وطقسها..
هناك من يرفض البوح الجنسي التفصلي في السرد الروائي.، وهناك من يتقبله على استحياء..وهناك من يجده كشفًا نفسيًا جديدًا..وهناك من يرفضه في العلن ويتقبله ويرتاح له في السر، بل ويعيد قراءة تلك المشاهد مرات..وهناك من يعبر تلك المشاهد دون قراءة..وهناك من يكيل الشتائم للمؤلف ويتهمه بالتعقيد النفسي والهرطقة الأخلاقية..وهناك من ببارك جرأته على التوغل إلى تلك المناطق الملغومة.!.
البعض عاب عليّ استخدامي لبعض الكلمات النابية، المبتذلة، المكشوفة والفاضحة..بيد أنهم ربما لا يعلمون بأن تلك الكلمات التي استخدمتها هي فصيحة جداً من الناحية اللغوية..فمثلا مفردة (النيك) هي مفردة فصيحة جداً ووجدت حتى في عناوين كتب الأئمة والشيوخ الذين فسروا القرآن وكتبوا الرسائل اللاهوتية العديدة..فالعلامة الجليل جلال الدين السيوطي صاحب أحد أهم التفاسير القرآنية المعروفة ب (تفسير الجلالين) إلى جانب كتب أخرى في تفسير القرآن وتاريخ الخلفاء.. لديه كتاب معروف اسمه (نواضر الأيك في معرفة النيك)..فكيف بمفسر متميزللقرآن يذكر ذلك في عنوان كتابه..!!؟؟ بل إن أهم كتاب في التراث العربي الإسلامي وفي التراث الإنساني وهو كتاب ” ألف ليلة وليلة” مبني على حكايات جنسية جداً وبلغة جنسية أقرب للغة الشارع كما جاء في طبعة بولاق قبل أن تدخل عليه التعديلات ويحجّب ويعاد صياغة كلماته وحذف المفردات الفاضحة والمفضوحة منه..!!؟؟؟.
ولا أريد أن أذهب أبعد..على الرغم من أني توقفت عند ذلك في تعليق الكاتب البغدادي حول روايته في المتاهة الأولى ” متاهة آدم”..ووعيه لردود الأفعال المتشنجة التي سيواجهها نتيجة توغله في تلك المناطق المحرمة والمحجبة بحجاب الأخلاق..!.
وبشكل عام..الجنس كتحريم اجتماعي وقناع أخلاقي لا يصمد أمام أسئلة الإبداع..فكيف يمكننا فهم رواية ” السراب” المتميزة لنجيب محفوظ بدون تلك الإضاءات الجنسية الباهرة حول شخصية “كمال” وممارسته للعادة السرية، وكذا الأمر مع العالم السري والوجه الحقيقي للشخصيات في رواية ” خضراء كالبحار” لهاني الراهب..وكيف نفهم تلك الإنعطافة الهائلة في شخصية “بعطوش” في رواية ” اللاز” للطاهر وطار بدون مشاهد اغتصابه لخالته، وكيف نفهم عالم الشخصيات في معظم روايات حنا مينه..وكذا فؤاد التكرلي في قصصه القصيرة وروايته “المسرات والأوجاع”..أو عالم اسماعيل فهد اسماعيل..وعلي الشوك..وعلوية صبح وحنان الشيخ.. وغيرهم.
بل إن تلك الكشوفات الفاضحة لا يمكن الاستغناء عها في رواية ” عشيق للليدي شاترلي” للخالد د. ه. لورنس..ولا ” ربيع أسود” للمتمرد الكبير هنري ميللر..ولا ” مثلث فينوس” للكاتبة الفتية أبداً أنيس نن.. ولا يفوتني هنا الكاتب الكبير ” البيرتو مورافيا” الذي كرس للعضو الذكري رواية كاملة بعنوان ” أنا ..وهو ” تُعد من رواياته المهمة..ولا في معظم روايات هاروكي موراكامي مثل ” الغابة النرويجية” و ” 19Q4″ والأمثلة كثيرة.
وبعيداً عن تأويلات الجنس وسرد تفاصيله في الرواية فأن موضوعة الجنس بحد ذاتها تشكل خرقا للعقلية التقليدية ومواجهة مع النفاق الاجتماعي، ومواجهة مع أسئلة الحياة والموت والحب والحضارة كما يطرحها سيغموند فرويد وهربرت ماكوزه وإريش فروم..وغيرهم.. وطبعا هنا الحديث لا يطال هؤلاء الذين يبتزون القاريء بالعروض الجنسية التي لا تحتملها الضرورات السردية واللحظة الدرامية في البناء الروائي.
شخصيا، أفهم الكائن البشري ككائن بايولوجي..من لحم ودم ..وأعصاب..ورغبات نفسية غامضة..وهو مبتلى بوجوده الاجتماعي.. وتربيته العائلية في الطفولة..وهما اللذان يشكلان وعيه الفردي ووعيه الجمعي..ولا وعيه الفردي ولا وعيه الجمعي..فصراع الوعي واللاوعي يجد أكثر تجلياته وضوحا أثناء الممارسة الجنسية.. مهما حاولنا أن نحجبها بالأخلاق والدين والعيب وحرمة العلاقة..وهذا القمع النفسي نتيجة التربية والضغط الاجتماعي يدفعان الكائن البشري إلى التعبير إراديا أو لا إراديا عنهما في حقل نشاطه الجنسي..سواء كان رجلاً أو امرأة..وبما أنني أكتب الرواية النفسية والمعرفية فأنني لا أتردد أبداً في الكشف عن عالم الإنسان النفسي والذي يشكل الجنس بؤرة الارتكاز فيه، من خلال المشاهد الجنسية الواضحة والعنيفة أحيانا، وفق ضرورات السرد الروائي وبناء العالم النفسي للشخصية الروائية..فالجسد البشري هو أول حقل للإنتهاك وممارسة العنف..بما في ذلك الرغبة الجنسية القائمة على الحب!.
مرة أخرى.. أوؤكد القول بأن الجنس يشكل أحد التابوهات التي أحاول التوغل فيها من خلال أعمالي الروائية، إلى جانب مشاكسة المقدس ونصوصه المتوارثة وطرح أسئلة جديدة حول معنى الحياة والوجود والسؤال عن : من أين..؟ وإلى أين..؟ ومن هـو؟، وتفكيك عقلية العنف السياسي والتوغل في جذورها ودوافعها الحقيقة التي تكشف عن جانبها الجنسي أيضاً.
أما عن اتهامات ابتزاز القارئ والسعي إلى الشهرة المجانية فأقول إنني أطبع ألف نسخة من كل رواية..وهي موجهة لأكثر من ثلثمائة مليون عربي وأكثر من ذلك ممن يقرأون العربية!!! وحتى هذه الألف نسخة يتعذر على الناشر بيعها..!! فأي ابتزاز وأي سعي مجاني إلى الشهرة..!.. وأية شهرة أصلاً..!.
عموماً..بالتأكيد هناك كتاب لا يرون ما أرى..ولا يتفقون معي..وكل منا محق بطريقته..أما في ما يخص القرّاء، فلا يستطيع أي كاتب أن يتحكم بذائقة القاريء إذ تبقى القراءة عملية خاصة بين القاريء والكتاب.. ولا يمكن لأي كاتب أن يتدخل في إيقاف اي حكم قيمة يتشكل عند القاريء أبداً. مهما حاول في تقديم التوضيحات والشروحات والتبريرات.

كاتب وروائي عراقي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى