حجّاج أدّول - سيرة الملظلظ وقريته النوبية

من حظ قريتنا أنها تكاد تقع تحت الشمس مباشرة. لذلك يقال إنها من أسخن الأماكن على وجه الأرض. خاصة انه لا أمطار تبلل مناخنا. وكيف تسقط الأمطار ولا سُحب تأتينا، إلا من ندف نادر يمرّ علينا مرور الكرام، خلال شهور الشتاء الثلاثة. ثم خواء سماوي منها طوال الشهور التسع الباقية. ستة شهور من التسعة يقال عنها ساخنة، وشهور صيف ثلاثة يقال عن سخونتها أنها سخونة “مُوَلْوِلَة”. وبسبب شمسنا الجبارة، صار لوننا بلون البلح المستوي. لون بني لا هو أبيض ولا هو بلون القمح الناضج، ولا هو بالطبع تابع للون الأبيض وتطرّفه الأشقر. لوننا لون أراه ويراه البعض جميلاً، ويراه البعض عكس ذلك.

حتى ليالي صيفنا حين تختفي الشمس بلظاها، تبقى ساخنة خانقة وكأنها ليلٌ نهاري! نقول لأنفسنا.. إن الشمس بجرمها الظاهر اختفت، لكن الخبيثة تسخر منّا، فهي مختبئة في مجال ما وتبعث شعاعها الناري خفية لتكوينا وتشوينا. حتى أن الطيور الليلية الجارحة وهي تحلّق، تصرخ صرخات الجوع المخلطة بصرخات الضيق من السخونة. صحيح أن قبّة السماء ليلاً تبدو رائعة المنظر، لمن يتناسى الحرارة وينشغل بالجَمال الرباني.

فالنجوم لآلئ مبعثرة في سمائنا بعبقرية مذهلة. لآلئ قريبة من الأرض تكاد تلامس قمم نخيلنا الكثيف. والقمر البَدْرِي حين يبدأ في الصعود مُصفراً من جانب قبة السماء، يخشى أطفالنا أن يشتبك هذا البدر الهائل، بجريد النخيل فيتعطل عن استكمال صعوده، وحين يهبط من الناحية الأخرى، فربما يصطدم بقمم جبالنا التي تحيط بنا من خلفنا.

كنتُ بين أحد عشر طفلاً من جيلي، كَوَّنا عصابة مقدامة. عصابة لي الشرف أن أكون عضواً فيها. يترأسها كَمْبال. كَمْبال أطولنا وأجرؤنا وأغمقنا. كَمْبال هو أول من دخّن السجائر فينا، وأعقبها بلفائف البانغو، وأوّل من تجرّع خمر العَرقي، وأول من ركب على ظهر الحمار وساعد أباه في عمل الحقل. وأول من مارس العادة السرية، وأول من عاشر تلك المرأة الشهوانية، والتي لم تترك لا رجلاً ناضجاً ولا صبياً خُط شاربه وبدأ يحرن تجاه النساء، كما الجحش الذي كاد يستوي حماراً. كَمْبال أكثر واحد فينا نال ضرباً من أبيه وتوبيخاً من كبار القرية. وكل أفراد عصابتنا نالوا أكثر من تحذير ألا يصادقوا كَمْبال وألا يتبعونه!

وكلنا حطمنا نصائح أمهاتنا وتهديدات آبائنا واستمررنا في صداقة كَمْبال واتّباعه. وكَمْبال آخر واحد تزوج. وأيضاً هو آخر من استسلم من الفتيان، وركب مركب التهجير التي انتزعتنا من قرانا. يا له من وَلدُ مغوار زعيمنا المفدّى كَمْبال.

أعمارنا كانت ما بين الثامنة والعاشرة. شقاوتنا قالوا إنها زادت عن أجيال القرية السابقة، والسبب بالطبع كَمْبال المجرم. كَمْبال الصايع. كَمْبال قليل الأدب. كَمْبال الذي لا يعطي وقاراً مناسباً للكبار الخ. كل هذه النعوت تصدر من كبارنا، لكننا أفراد عصابته، ظللنا معجبين بكَمْبال ونحترم جرأته، ونطيع أوامره طاعة عمياء، وكأننا أعضاء في خلية سرية متطرفة.

بحر النيل هو أهم ما في قريتنا. فمنه نشرب ومنه نسقي زرعنا وبهائمنا، وفيه نسبح ونلعب ونُشْعِرُ ونعزف الطنبورة ونغني، وأيضاً نرقص. بحر النيل حياتنا وقريننا الدنيوي وبدونه لا نوبة ولا نوبيون، ونوقن نحن أهل النُوبْ، أن في أعماق نيلنا يعيش أخوتنا ناس النهر، والسمك مجرد نوع واحد منهم. لذلك قديماً قبل الرسالات لم نستحب أكل السمك، فهل يأكل المرء قريبه؟! إلا إذا جاع جوعاً بالطبع. وقرى ناس النهر العُشبية منتشرة على مستويات العمق، وكل مستوى بقبائل مائية معينة. وأكثف قبائلهم عدداً وأعمقها تاريخاً، تلك المبنية من نوع غريني، ومستقرة على القرار الطيني.

والنيل أهم طريق اتصال بين قرانا وبعضها، وبين قرانا والعالم الخارجي. وليس هذا البحر النهري يعطي الهدوء والجمال فقط، فنستخف به ونقول إنه بحر مُدَجّن، لا. فهو كائن حي متقلب يثور ويبطش خلال فيضانه، ويبرز عضلاته الموجية الهائلة فيرعبنا، وكثيراً ما يغيظنا ويلقي علينا عدداً من التماسيح البشعة. وفي ليالي المحاق الشتوية، يخيفنا ببعض ما يخيف فعلاً. فعلى ضفافه تتمشى الغولة “فانالاندي” بدلال، فهي واثقة أنها جميلة ومتأكدة أنها قوية.

“فانالاندي” غولة شريرة عارية دوماً. طويلة يصل طولها لطول رجلين طويلين منّا. شعرها أسود مائي ناعم، ملقي خلف ظهرها ويصل حتى منتصف عجيزتها، وتتقاطر منه المياه دوماً. ومن الأمام ثديا “فانالاندي” متهدلان طويلان، حلمتاها تلامسا جانبي سُرّتها. ولم يصف لنا أحد وجهها. فما من إنسي اقترب منها أو اقتربت منه وبقي حياً. الوحيد الذي اقترب منها قليلاً ذات شتاء، ولمح ما لمحه رغم الظلام، وقال أن عينيها رأسيتان وليستا أفقيتين مثل أعين البشر، الوحيد هو “سيدين” المتجول في البلاد نوبية وغير نوبية فتعلّم حركات المكر وأعاجيب الدهاء.

وما تعلّمه هذا هو الذي مكّنه من الهرب من فانالاندي التي من حسرتها لهروب إنسي منها، صرخت صرخة قوية واصطكت أسنانها، فسمع أهل القرية صوت الرعد ولمح البعض وميض البرق لأول ولآخر مرة في تاريخهم. لكن هذه قصة أخرى. نعلم من هذا، أن “فانالاندي” ترعب الكبار قبل الصغار، ورعبها أشد بأساً من رعب تمساح يتسلل لناحيتنا كل حين.

الزوارق الصغيرة بقوة المجاديف تبحر في النهر. والمراكب الأكبر ذات الشراع، تتصاعد في النيل معتمده على نسائم الشمال وهي تدفع الأشرعة العالية العريضة، أو يهبط المركب ضاماً شراعه معتمداً على تدفق مياه النهر جنوباً.

يهبط نوبي من مركبه على الضفة. يكون داخل جلبابه الأبيض الفضفاض وعمامته الضخمة المهيبة، والتي مهمتها الأصلية، إخفاء أمّ الرأس من سطوة الشمس عديمة الرحمة. يمر النوبي وفي قدميه مركوبه الأحمر على عدد من أشجار السنط، وغابة من النخيل النضيد. ثم مساحات من الأرض الزراعية الخضراء، يلقي السلام على رجال يفلحون في الأرض، على رأسهم طواقي ملونة. وطرطشات الطين منتشرة على سيقانهم وأذرعتهم. ملبسهم جلباب أزرق سميك قماشته، قصير الطول قصير الكُمَّين، هذا قبل ظاهرة البُلو جينس الأمريكي بعشرات السنين.

النساء والفتيات يساعدن الرجال وهن في جلابيب بسيطة. وعلى رؤوسهن طرح سوداء. وإن كان مزارع ليس في حاجة لحماره، فيدعو صاحب العمامة المهيبة، ليركب الحمار فيوصله لبيته، وعندما يصل، يترك الحمار الذي سيعود وحده وقد اكتسب ثواباً فعله لآدمي لن ينل منه شكراً.

صاحب العمامة يصعد كثبان رملية كهرمانية، تلمع بصفارها لمعاناً باهراً تحت أشعة الشمس. ثم يصل للبيوت الواسعة بجدرانها ذات الرسومات الملونة.. صف من أهرامات معتدلة عليها صف من أهرامات مقلوبة. صف من طيور متشابهة تماماً. نباتات منتشرة وأشكال جمالية تم نسيان دلالاتها الدينية والاجتماعية التليدة. أبواب البيوت الضخمة التي تعطي شبهاً بأبواب المعابد الفرعونية. أعلى الأبواب قرص معدني يعكس “آتون” شمس البلاد، وربما فوقه تمساح صغير محنط.

■ ■ ■

حياتنا بسيطة، ومن لا يعرف ولا يحس بأعماقنا، يظن أن حياتنا فقيرة! هي باليقين ليست فقيرة، فالجمال الرباني للمنطقة بالغ الروعة، يكفي هذا النيل الفطري. ومتطلبات الحياة بالفعل بسيطة يقدر عليها الكل. ونحن بأسلوب معيشتنا أقرب للسعادة ببلحنا وحصاد خضرواتنا ونيلنا وجبلنا. فتعوّدنا على الابتسام، بغض النظر عن جمال أسناننا وسلامتها. والانعزال النسبي الذي ساد على قرانا، بثّ فينا عادة الأمان وطَبّعنا بطبع المحب للسلم، والمتجاوب مع البشر جميعهم بألوانهم وأديانهم كلها. حتى كان بناء سد خزّان أسوان، لتتكون بحيرة تغرق الأراضي الزراعية جنوبها، وقرانا النوبية هي التي جنوبها. وكلما تم إعلاء ذاك الخزان، يتم إغراق مساحات إضافية من زراعاتنا. فيضطر آباؤنا مزارعو تلك الأراضي الغريقة، يضطروا للهجرة شمالاً فوجاً بعد فوج، لدواعي أكل العيش وإعالة الزوجات والأبناء. من وقتها بدأ صفاء نفوسنا في التلوّث.

■ ■ ■

فجأة.. بوادر الغنى والتكبر والتبطر، بدأت تظهر على فرد من عصابتنا، هذا الفرد بعد ذلك بسنتين عُرِفَ بلقب الملظلظ. رغم أنه سمين من يوم مولده. كلمة الملظلظ في المدن الشمالية تقال على الشخص الذي كُسي شحماً ولحماً. وكلما تحرك حركة سريعة، تلاعب شحمه ولحمه كأنهما أمواج لدنة تتراقص. لم يكن ملظلظنا بهذه السمنة الزائدة، لكنه بالنسبة لنا سمين. فكلنا نحاف كما النخيل، وهو سمين يماثل شجرة جميز تليدة! فأطلق عليه كَمْبال نعت الملظلظ سخرية وحسداً في نفس الوقت.

فصاحبنا الملظلظ تَلَظْلَظ وأيضاً صارت جلابيبه وطواقيه جديدة. تلك الطفرة بدأت بعد أن رحل أبوه من القرية وأقام في الإسكندرية، وعمل عند واحد خواجة يهودي بالغ الغنى. يمتلك مصنعاً للشيكولاته وسينما يقال عنها ستراند. أبو الملظلظ ينال راتباً هائلاً، لذلك يرسل لعائلته كل شهر ورقة بنكنوت عريضة مثل ملاءة السرير، من فئة الجنيه الكامل! وكل شهر شهرين ثلاثة على الأكثر، يرسل كرتونة متخمة بالحلوى والبرتقال وغيرها من أعاجيب مدن بحري الغنية. وحين أرسل شحنة حلوى عرفناها في ما بعد باسم الشوكولاتة، وصلت الشوكولاتة عجينة بنية لزجة سائلة، بسبب تعرض الكرتونة للظى شمسنا التي لا ترحم قلقاس رؤوسنا، فهل ترحم شمسنا تلك العجيبة الرقيقة الناعمة الشوكولاتية؟!

ذات صباح، أتانا الملظلظ حاملاً على إصبعيه بحرص شديد وفخر أشد. قطعة لدنة من العجين غامقة اللون، وقتها لم نكن قد أكلنا ولا شاهدنا ولا سمعنا عن الشوكولاتة. سمح الملظلظ لكل منا أن يلحس لحسه سريعة بلسانه، “سسسي. آحححح. فووو”.

هذه ملخص أصوات صدرت من كل منّا بعد نال لحسته. إنه يقيناً عجين حلو عجيب. صَرّح لنا الملظلظ باستعلاء إنها المدعوة بالشوكولاته! كل هذا من خيرات إسكندرية، التي سمعنا أنها ماريا وترابها زعفران. نسأل كبارنا من أهل الذّكر.. ماذا تعني ماريا؟ يقولوا معناها مريم. نسأل.. مريم ستنا التي أتى ذكرها في القرآن؟ لا. ماريا امرأة خواجاية شقراء رائعة. تسير متبخترة في منطقة محطة الرمل التي تطل على البحر المالح، وهي أجمل منطقة بالمدينة، عندما تسير ماريا وهي نصف عارية وشعرها يهفهف مع نسائم البحر، عطرها الزعفراني ينتشر ويغمر كل الموجودين في المنطقة! نستمع مندهشين من هذه المعلومات المؤكدة، رغم أننا لم نفهم معنى شقراء ولم نتصوره. نقول لبعضنا.. أبو الملظلظ يعيش هناك ويشاهد ماريا الشقراء نصف العارية، ويتنسم زعفرانها الساحر، ويأكل شوكولاتة الخواجة اليهودي كما يحلو له، ويشاهد السينما كل ليلة! محظوظ أبو الملظلظ ابن الكلب.

الخيرات تنهال على الملظلظ من سكندرية أبيه ونحن لا! والملظلظ يتعمّد إغاظتنا وتفجير أحقر المشاعر فينا، هذه المشاعر الحقيرة ضربها الغليان حتى أنها دفعتنا دفاً للتطرف غير المحمود. يأتينا هذا القاسي ويقرب وجهه من أنف كل منا، ويفشخ فمه على آخره ويفح، لنشم باطنه المحمل برائحة البرتقال، أو الحلاوة الطحينية التي طفحها على الصبح. فنضربه ضرباً مؤلماً بحجة أننا نمزح، حتى يبكي ثم نطيب خاطره بكلمتين كاذبتين، فيبتسم! فالملظلظ به سذاجة وغباء نستغلهما لنشفي غليلنا منه. بعدها بدأ في الوقوف أمامنا على بعد خطوات عديدة. ثم من جيب جلبابه المقلم أحمر وأزرق، يستخرج حبّة كرملة. يرفع يده عالياً بها ليرينا إياها، حمراء رائعة أو صفراء باذخة. وقبل أن نهجم عليه يكون قد ألقاها في فمه ويحطمها بأسنانه، احتياطاً إن أمسكنا به وفشخنا فمه بأصابعنا الحاقدة، لن نستطيع أن نستخرج تلك الثروة المهشَّمة من فمه، فقد سبق الضرس العزل.

أرجاء القرية مترامية. كلها ملاعب مغرية. حين يستغنى عنا أهالينا ولا يطالبوننا بالعمل معهم في الحقول، نرتع ونلعب على مساحات الرمال تحت رسغ الجبل. مطاردات بين سيقان النخيل. السباحة عرايا أولاد وبنات بجوار الضفة، ثم تركتنا البنات حين كبرن قليلاً ولم يعدن يسبحن عرايا معنا، ونحن بالمقابل رفضنا أن يلعبن معنا على مساحات الرمال الممتدة، أو بين سيقان النخيل، فهن ضعيفات بطيئات غبيات.

كل هذه الألعاب تكون صباحاً أو عصراً أو ليلاً، لكن ظهراً مستحيل. السبب أن شمس الظهيرة قاتلة. قاتلة بمعنى الكلمة. تضرب اليافوخ فيذهل العقل فتزغلل العينيان فيسقط الجسد أرضاً في حالة دوار ويُفَلْفِصْ قليلاً والروح تغادر لبارئها. الأهل يحذروننا من اللعب وقت ظهيرة الشيطان، حتى اللعب داخل أفنية بيوتنا، وهي أفنية واسعة، ممنوع اللعب في أرجائها ظهراً! نعم إنها ظهيرة الشيطان.

يؤكدون أنه في الظهيرة كل البشرية تكون مختبئة من الشمس تحت أسقف البيوت، أو تحت ظلال النخيل إن كانوا يفلحون في الحقول. تاركين الفرصة لأطفال الشياطين والعياذ بالله، يلعبون براحتهم بدون مزاحمة من أطفال البشر. فهل أنتم يا أطفال، أطفال شياطين أم أطفالنا نحن؟ نحن أطفالكم. إذن، ابقوا في البيوت خلال ظهيرة الشيطان.

نتسرب من بيوتنا في بداية العصر، رغم تهديدات أمهاتنا بأن ظهيرة أطفال الشياطين لم تنته بعد، وقد يصطدمون بكم وينكلون. الشمس قد مالت قليلاً عن منتصف قبة السماء، لكنها مازالت حامية. نجري لنتلاقى عند بيت كَمْبال. ثم على امتداد الرمال نسرع عدواً سرباً طفولياً حفاة بجلابيب كالحة، في ما عدا جلباب الملظلظ اللامع القشيب دائماً. الرمال ساخنة. نتفادى ثعباناً لا يزحف، بل يقفز قفزات سريعة على سطح الرمال. فالرمال ساخنة جداً وبإمكانها حرق باطنه. والعقارب لا يمكن أن تخرج من تحت الأحجار في ظهيرة الشياطين. نحن الذين نخرجها، بأن نرفع عنها الحجر، فتسرع مضطربة وكأنها مركب تسبح بمجاديف سيقانها على بحر الرمال، لتتلقي رميات أحجارنا حتى تتفسخ.

فوق الرمال الكهرمانية الصافية. نحترس من الاصطدام بالصخرة التي لا نعرف كيف أتت هنا، في نفس المكان الذي نفضل اللعب فيه؟ هل هي نبتت مثل النباتات، أم تدحرجت من الجبل بعد أن ركلها الغول الرهيب حاكم سلسلة الجبال العالية؟ صخرة عريضة طولها يصل لطول كتف أطولنا. استخدمنا هذه الصخرة وجعلناها نوعاً من لعبنا وتحدياتنا لبعضنا.

نخفف من قسوة الرمال برفع قدم وترك قدم، ثم التبادل. لماذا نذهب أولاً إلى الرمال التي مازالت مشتعلة؟ إنها فكرة من أفكار كَمْبال الخبيثة. فكلما حاول طفل أصغر منا أن ينضم لنا، نستدرجه هنا لتحترق باطن أقدامه الصغيرة، فيبكي ويعود سريعاً لبيته. نضحك عليه ساخرين شامتين من طفولته الطرية.

نسرع هابطين كثبان الرمال، مخترقين الزارعات ونتفادى جذوع النخيل حتى نصل للضفة. نخلع جلابيبنا وسراويلنا التحتية ونقفز في بحر النيل لنتبرد سعداء بكل هذا الجمال وكل هذا الانطلاق. نسبح ونلعب ونرش المياه على بعضنا. لا نابه طبعاً حين تأتي الفتيات ويهبطون عرايا قريباً منا، يلقون علينا ببعض الكلمات الساخرة من باب جر الشكل، ثم يسبحن ناحية عمق النهر استعراضاً، فنرد عليهن بكلمات أقسى من كلماتهن، ثم نسبح ونصل لعمق النهر لنبين لهن عجزهن، ثم لا نابه بهن. سخيفات.

الصخرة خاصتنا، بها طرف من قمتها مستوي بعرض وطول ثلاثة أشبار. نصعد الصخرة سريعاً ونقف على هذا الجانب المسطح أطول فترة ممكنه، ثم نقفز حين لسعة الصخرة تزيد عن حدها. بالطبع كَمْبال هو أشجعنا وأقدرنا على التحمل، وهو الذي يبقى واقفاً ثابتاً على القمة أطول فترة ممكنة.

يوماً أصر أخي الأصغر أن يتحمل لسع الرمال ليبقى ويلعب معنا. فتآمرنا عليه وتحديناه أن يقف على سطح الصخرة النابتة وسط ملعبنا الرملي، أخي الصغير تحمل الوقوف على الرمال الساخنة، ولم يبك ولم يهرب عائداً للقرية. فتحديناه أن يقف على سطح الصخرة النابتة. صعد الصخرة، لكن بمجرد وقوفه على الجانب الأملس برهتين، حتى تجسد الفزع على سحنته وصرخ وقفز على الرمال الأقل سخونة باكياً وجرى مسرعاً عائداً للبيت. وهناك أمي سطّحته على ظهره ورفعت ساقيه لأعلى، وأخذت في سكب كيزان المياه الباردة على باطني قدميه، حتى أفرغت الأزيار الثلاثة من مياهها. ولم يحاول أخي بعد ذلك أن يلعب معنا، وحين عدت للبيت، ضربتني أمي بقبضة يمناها ضربتين على ظهري وانتهى الأمر.

ذات صيف بالغ الحرارة، صديقنا الملظلظ زاد من غيظنا وإذلالنا بدرجة لا تحتمل. النهار السابق أذلنا وهو يعرض علينا قطعاً من قشر البرتقال، الذي أكلته عائلته ليلة أمس، وشمّمنا رائحة البرتقال الرائعة التي تفوح من فمه، فقد أكل واحده كاملة بعد الإفطار. ابن الكلب المفجوع. وهذا الصباح ابتعد عنا خطوات ثم واجهنا ووجه مشرق فرحاً بنفسه وبما يطفحه.

أخرج من جيبه حبّة كرملة وعرضها لامعة تحت الشمس. وقبل أن نهجم عليه ونمسك به لنكسرها بأسنان أحدنا، ونوزع قطعها المبعثرة على بعضنا، كان الخبيث قد ألقاها في فمه وهو يضحك على تلهفنا وحسرتنا. وفي سرعة كان قد حطمها بأسنانه وأخذ يستحلب شظاياها. نظرنا لبعضنا. كنا العصابة بكامل أفرادها، عشرة وهو الحادي عشر. هجمنا عليه وأمسكنا بذراعيه ودفعناه بظهره ناحية الصخرة. الملظلظ يضحك وسائل الكرملة يسيل من جانب فمه.

لا يعلم أن كَمْبال من أمس قد خطط مؤامرة بشعة لمعاقبته إن زاد من دلاله وإذلاله لنا. ولما أحس الملظلظ بأن ظهره قارب الصخرة، بانت الحيرة في وجهه، ماذا سيفعلون بي؟ ثم أدرك ما يراد به حين انحنى اثنان منا وأمسكا بساقيه. أحدنا سحب جلباب الملظلظ لأعلى. صرخ الملظلظ..

- لا. لا. حرام عليكم. لا. كَمْبال حرام عليك.

أنا سحبت سرواله الداخلي لأسفل. حمله كَمْبال من وسطه لأعلى وأجلسه غصباً على الجانب الأملس من الصخرة. هنا صرخ الملظلظ صرخة تبين مدَى الألم الذي يعانيه. مؤخرته تلتهب بنار الصخرة. يلعننا بأقذع اللعنات، ونحن لا نأبه بلعناته، ومستمرين في الإمساك به وإبقائه جالساً لتتشبع مؤخرته بنار الصخرة، كما تشبعت نفوسنا من نار حرماننا من الشوكولاتة والبرتقال والكرملة والذي منّه.

تركناه وتقهقرنا للخلف ضاحكين، نكاد نتنسم رائحة لحم مؤخرته المشوي. الملظلظ بقي جالساً يصرخ فهو في ذهول ألم، وغاب عقله عن التفكر لحظات إضافية قبل أن ينتبه أننا تركناه. قفز بعيداً ليسقط تحت الصخرة ومؤخرته مرتفعة راية استسلام، وتركناه يعود للقرية وهو يتعثر في لباسه المكوم عند نهاية ساقية. يسير ويتعثر فيسقط ويقوم ليلتفت ناحيتنا ويشاهدنا ونحن نضحك، فيسبنا..

– يا أولاد الكلاب. أنتم أولاد الكلاب.

يعود للولولة ومحاولة العدو ناحية القرية، فيتعثر. فيلتفت ناحيتنا ويلعننا بأولاد الكلاب. حتى انتبه لعرقلة سرواله له. انحنى ورفعه وأسرع في انسحابه المخذي. أسرعنا نحن ضاحكين صائحين صيحات الانتقام. وصلنا غابة النخيل ومنها إلى مياه النيل. وكلنا حين عدنا لبيوتنا نلنا عقاباً متفاوتاً من والدينا.

أمه دارت على كل بيوتنا تشتكي ما حل بمؤخرة ابنها من حروق. تبكي غيظاً من إذلاله. وتؤكد أننا عصابة أولاد الكلاب كما أطلق علينا ابنها هذا اللقب. وعند أمي خاصة كان لومها أشد، فهي وأمي بنات خالة، أي أنها في حكم خالتي، فكيف رضيت أنا أن يهان ابن خالتي من أطفال ليسوا أبناء خالتي؟ كيف أتناسى صلة الدم، وأكون في صف الطفل المجرم كَمْبال؟ وكيف أنه بيدي أنا تم إنزال سروال ابنها وكشف مؤخرته؟! إذن..

– ابنك ولا تغضبي مني يا ابنة خالتي.. ابنك من عصابة أولاد الكلاب، أي أنه ابن كلب. لا تغضبي فابني راعى أان ابنك ابن خالته، ولم يصم عصابة كَمْبال بمسمى أبناء كلبات!

أبي هددني بالضرب وهو يحاول وضع تعبيرات الغضب على ملامحه، وأنا لمحته يمنع نفسه من الضحك بصعوبة. فضحكت فصفعني كفاً خفيفاً على قفاي ثم تركني مبتعداً.

الملظلظ بقي أسبوعاً كاملاً محبوساً في بيته. لا يستطيع الجلوس على مؤخرته مثل بقية البشر. دائماً مستلقي على بطنه وجلبابه مسحوب لأعلى ظهره. وأمه ترطب مؤخرته المحروقة بالسمن وبعض معاجين أعشاب الجبل. ولما قابلت أمه أمي بعد ذلك، أقسمت بأن علاج مؤخرة ابنها احتاجت لرطل سمن حلال! وفي أول ظهور للملظلظ لم يأت لينضم إلينا، فقد حذرته أمه. نحن تسللنا إليه وهو يسير في حقلهم. أول ما شاهدنا كرر شتيمته.. يا أولاد الكلاب. لم نغضب. دار حوار بين كَمْبال وبينه. بدأ كَمْبال..

– نحن في حزن عميق بسبب ما فعلناه بمؤخرتك.
– أنتم حقاً أولاد كلاب.
– الله يسامحك. فقط نطلب عرضها علينا.
– أعرض عليكم ماذا؟!
– مؤخرتك.
– عيب يا أولاد الكلاب.
– لا تسبنا يا صديقنا، لا تنس أنك عضو في عصابتنا. نحن لا نريد أن نراها بغرض قبيح. فقط لنعرف هل الحرق سبب لوناً غامقاً فيها أم لوناً فاتحاً؟

أنهى الملظلظ الحوار بالانحناء وكبش الرمال وقذفها على كَمْبال وعلينا، ونحن نبتعد ضاحكين. غير آبهين بلعناته بما تعود عليه..

– يا أولاد الكلاب.

■ ■ ■

سافر الملظلظ على مركب البوسطة لأسوان، ومنها للقاهرة ثم للإسكندرية. حيث مصنع الشوكولاتة وسينما استراند. سسسي. آحححح. فووو. سيأكل الشيكولاته بكميات بحجم جبالنا الراسخة خلف قريتنا، ويشاهد السينما التي لم نشاهدها نحن، وربما أخذه أبوه ليريه مارياً الشقراء التي تسير نصف عارية، وعطرها زعفران يفوح على منطقة محطة الرمل! كان هذا أبلغ عقاب أخذناه نتيجة لمؤامرتنا التي أحرقت مؤخرته، وجعلته يهجر القرية.

بغيابه لم يشاركنا الملظلظ بقية معاركنا وشقاوتنا التي كانت تضايق كبارنا، فَهُم في هَم غرق أراضيهم الزراعية والفقر المدقع الذي جثم عليهم، وشتات العائلات بهجرات متواليات نتيجة لفقد الرجال والشباب لمهنتهم الأساسية وهي الزراعة. ورغم ضيق نفوس أهل القرية بتلك الكارثة، كانت ليالي الأعراس مستمرة، فالحياة مستمرة. ليالي العُرس ثلاثة فقط بدلاً من سبعة.

أهمها ليلة الحنة، حيث ذروة منظومة الرقصات والأغاني العديدة. الرجال في أبهى جلابيبهم البيضاء والعمائم فوق وحول رؤوسهم في أضخم وأعلى مستوى. والبلغ حمراء ممسوحة. والنساء في طرح ملوّنة، وأنواع من المصوغات الذهبية التراثية، والموروثة من سنوات عز بعيدة، قبل عصر السدود والاغراقات. المصاغ تبرق من أول الجبهة للأنف للعنق ولا ننس أقراط الأذنين. ملبسهن رداء الجرجار، أسود شفاف يشف عن جلباب ملون تحته، فتكون ألوان ما تحته وكأنها تتحرك تحت سطح مائي. وتلك الأعراس أهم معلم لها هو النخلة! رغم أن غابة النخيل التي غرق أغلبها بعيدة! كيف؟ الرقصات ساخنة والأغاني رائعة، والكل يرقص ويغني ويفرح، لكن لا يمكن أن تتعمق كل هذه التنويعات المبدعة بدون رحيق البلح، بدون خمر العرقي. فأغلب الرجال والشباب يشربونه فهو المشروب القومي، خاصة في الليالي المبهجة. ولن يغني المغني مبدعاً، ولن يضرب ضارب الدف مندمجاً، ولن يعزف العازف منسجماً ولن يرقص الراقص هائماً، ولن يتجرأ الشاب للمغازلة الرائقة الرائعة لفتاته، سوى بِكَم معين من جرعات العرقي. فلن تتقبل منه المبتغاة غزلاً جافاً لم يرطبه الانتشاء. الخلاصة.. لن يشارك الجميع بحميمية نوبية إلا بجرعات من هذا السائل الأسطوري المنعش.

حفل الزفاف في ساحة رملية واسعة. مشاعل متوهجة وفوانيس منيرة على جدران بيوت وأغصان شجرتين، فتكون الأنوار صفراء تضيء أماكن أكثر من غيرها، وهذا هو المطلوب من أغلب الحضور. فبعض التلاقي وبعض الاحتكاكات، يشجعها ضعف الإنارة الساحر.

الرقص الذي يصاحبه الأغاني، شراكة بين الذكور والإناث. منظومة رقصات متنوعة تعيش حالات النهر النيلي. فمرة في رقصهم هُم بالفعل أمواجه، ومرة هُم جميعاً عنف دواماته، ومرة النساء يكُن أسماكه، ثم يتركون حالات النهر، وينتقلون رقصاً للتعاجب برشاقة وطول أجسامهم، هُم النخيل الطويل وجريده يميل بمرور النسيم عليه. ثم حمحمة الحمام واليمام. والخيول لها نصيب. مع رنّات نغمات الطنبورة وضربات الدفوف، فرقعات متواليات هي تصفيق منتظم لكفوف الرجال، فتتصاعد مشجعة لعلعة زغاريد النساء.

وهكذا تمضي الساعات، ويطول الليل. وكل فترة، تتسلل جماعة أصدقاء لجانب بعيد نوعاً بحيث لا تصله أنوار المصابيح والمشاعل. ليس للاختباء، فما سيشربونه مباح مثل الماء والهواء على رأي طه حُسين. المقصود بالابتعاد النسبي، هو الصحبة الخاصة. يجلسون على الرمال دائرة يتناولون كؤوس العرقي، ولفائف البانجو مع ضحكات منطلقة. ثم يعودون لحلبة الرقص الساخن المحتشدة، وهم أكثر نشاطاً وأعمق إخلاصاً، فيرقصون مع الكل بصدق ونشوة وإتقان. ليذهب غيرهم ويقومون بنفس الطقس المغذي للانطلاق المبدع.

المطرب الأساسي مع أصدقائه اختلوا جانباً. يجلسون في الظلام وعلى جانب مدير الحلقة، زجاجة العرقي بعافيتها، أي لم ينتقص منها جرعة. يبدأ الري. كؤوسهم تمتلئ لتفرغ محتواها اللذيذ في الأجواف المتلهفة. آخر انسجام. الشاب موزع عصير الحياة، يمد يده ليتناول الزجاجة الثمينة ليفرغ منها على الكؤوس التي لا تمل من الملء وسريعة التفريغ، فلا يجد الزجاجة! وامصيبتاه. اختفت الزجاجة. أحد الشاربين الذي تأثر كثيراً بأكثر من جَلسة عرقي، قال..
– يووووه. ألن تتركنا العفاريت في حالنا. حتى ساعة المزاج يتلصصون علينا ويسرقون مزاجنا ويفسدون علينا أفراحنا؟

المطرب برطم وغضب غضباً شديداً، فلا مزاح في أم المزاج. لا مزاح في العرقي. عاد للحفل وشارك في الغناء لكن بدون نِفْس. حتى لحقه المنقذون بجلسة استثنائية تجرع فيها ما يحتاجه وما يفيض، تعويضاً من شوشرة المزاج التي حدثت له.

الأطفال لا يقتربون من وسط الحلبة، هم خلف الرجال يقلدون أو يتنحون على جانب وحدهم ويقيمون رقصهم الخاص. عصابتنا تفعل ذلك، وتأتينا البنات من أترابنا لنرقص سوياً. لكن الولد كَمْبال الذي بالكاد يتخطى عامه الثاني عشر. تواجد في معمعة الرقص يشارك الكبار في ثقة زائدة واستغراق هائل. ضحك الجميع على حركاته الغريبة. ولما زاد من التطوح والصياح بعيداً عن أسلوب الرقصات وكلمات الأغاني، تبين لمن حوله أن هذا الولد الصايع سكران طِينة! شابين يسحبانه بعيداً وإذا بالمطرب الرئيسي يصل إليهم ثائراً ويصفع كَمْبال على قفاه ويلعنه..

– يا سارق زجاجة العرقي يا وسخ!

■ ■ ■

تكر الأيام صعبة علينا معشر النوبيين. بكينا ونحن نترك بيوتنا ونخيلنا وجباناتنا. بكينا ونحن نحمل ما تيسّر من أسرتنا الجريدية وصناديقنا التي تحوي ملابسنا وحُصُرنا وغيرها. هبطنا لضفة النهر حزانى ننتظر المراكب التي سنرحل عليها، كنت من ضمن الفتيان. عاصرنا تلك المأساة التي نورثها لأبناءنا ولأحفادنا. وكان كَمْبال مثل النساء والفتيات، أكثرنا بكاءً وحسرة. وكان آخر من ترك الموطن ووضع قدميه على تلك المركب الجربانة التي رحلنا عليها.

تم تهجيرنا على وعد من الزعيم عبد الناصر، أننا سننتقل بجوار النيل في منطقة خضراء، فذهبنا مصدقين له، فوجدناه قد ألقانا في جهنم حمراء، مثلما غنى متألماً مطربنا خِضْر العطار. أيام وليالي التهجير كانت غاية في الحزن العميق، وكانت بنا فرحة عابرة مثل سحبنا الخفيفة، حاولنا بها التخفيف عمّا بنا من قهر. فرحة أننا سنهرب من الفقر الذي تسبب فيه تشييد خزان أسوان ثم تعليتيه، فاغرق حقولنا على دفعات، حتى أتى عليها، والآن قبل استكمال السد العالي الذي سيغرق كل بلادنا، أكد لنا موظفو عبد الناصر، أننا سننتقل لحقول لا تقل خصوبة عن حقولنا، ونسكن في بيوت أجمل وأحدث من بيوتنا. وكانت كل هذه الوعود كذب في كذب في كذب. تجرعنا مؤامرة نصب كبرى.

عبد الناصر قبلما يغرق النوبة كلها ويطردنا من موطننا، أيضاً كان قد طرد الملك فاروق ثم طرد الخواجات من كل بر مصر. طردهم بأغنيائهم الذين عمل لديهم آباؤنا طباخين وسفرجية وبوابين وسائقين، وكانت هذه المهن وقتها، من أرفع المهن شأناً لكل الآتين للمدن من أقاليم مصر. كان الخواجات أبواب رزق للنوبيين، بعد أن أغرقت معظم أراضيهم خلال العهد الملكي. وكأن عبد الناصر قد قرر أن يستكمل ما بدأته إغراقات العهد الملكي بنا، وكأنه كما تخصّص في الطرد، قد تخصّص في بهدلة النوبيين.

مثل قديم كان يقال في مصر، وربما في بلدان أخرى، يقول المثل.. كلما رفعت حجراً تجد جريجياً مهاجراً تحته! فقد كان أبناء اليونان يهاجرون من بلدهم لكل أنحاء المعمورة. صار النوبيون مثل اليونانيين. في كل وادي وكل فيافٍ هائمون. في بلاد حرف الضاد، أو أي حرف لاتيني، ستجد نوبياً يعمل بإخلاص، يتعايش مع أهل المكان وينسجم معهم ويحبهم ويحبونه، لكن إن تعمقت معه، ستجد جوفه بحيرة حزن، موازية لبحيرة المياه الشاسعة التي صنعها جبروت عبد الناصر فأغرقت بلاده. ستجد في كل مكان نوبياً حزيناً على وطنه الغريق.

■ ■ ■

تخطينا الثلاثينيات من العمر، وأنجبنا أطفالاً نشتكي من شقاوتهم. ولم تجتمع مجموعتنا بجميع أفرادها أبداً بعد تهجير عبد الناصر. كنا في قرانا النهرية إحدى عشر طفلاً منذ سنوات أفلت، الآن صرنا في شتات، فإن تواجدنا خمسة معاً، نسعد بأنفسنا سعادة هائلة، خاصة لو كان بيننا كَمْبال. فمازال كَمْبال محور عصابتنا وهو مفجر ضحكنا. وسواء كان معنا الملظلظ أم لا، فيجب أن نتذكر مؤامرة حرق مؤخرته. وإن كان معنا الملظلظ وبدأنا نضحك بدون سبب، يضطرب هو، فضحكنا بدون سبب، سببه أننا سنتكلم عن مؤامرة حرق مؤخرته. يحاول إدعاء الثبات. ثم ينظر إليها نظرات رجاء، فلا تعطي نظرات الرجاء فائدة، فينظر إلينا نظرات تهديد، وبالطبع ستذهب تلك النظرات سُدى كما النظرات التي سبقتها. يتنحنح كَمْبال ليقوم بدوره المحتوم. يسأل المظلظ في براءة مدّعاه..

– اسمع. سنوات طويلة مرت، اعتذرنا لك خلالها أكثر من مرة. وترجيناك عشرات المرات أن تسمح بعرضها علينا؟
– عرض ماذا يا كَمْبال؟
– عرضها. لا تتغابى علينا. هيّا.
– عيب يا كَمْبال. لم نعد أطفالاً كما كنّا.
– لماذا تخجل؟ لقد شاهدناها من قبل وقت ما أحرقناها لك. نريد أن نتأكد هل الحرق سبب لها لوناً غامقاً أم لوناً فاتحاً؟
ونحن نضحك بشدة ويسعل بعضنا من عمق وشدّة الضحك. كالعادة يفقد الملظلظ أعصابه ويقف استعداداً للمغادرة، ويلعننا كالمعتاد..
– يا أولاد الكلاب.

بعد أعوام طالت قاربنا من مشارف الأربعينات من العمر. صار الملظلظ اسمه الحاج فلان. هذا لأنه سافر وعمل بالخليج، وبالمرة أدى فريضة الحج، سافر الملظلظ فالخواجة اليهودي تم تأميم مصنعه الشوكولاتي ولم يتركوا له سينما الاستراند. تدهور حال المصنع وباظت السينما وأغلقت بعد سنوات. واستولت الحكومة على قصر الخواجة الذي ترك مصر متحسراً مثله مثل غيره. الملظلظ مات أبوه حزيناً على أيام العز التي عاشها مع الخواجة اليهودي، أما الملظلظ الذي عيّن قبل التأميم في مصنع الشيكولاته، فقد استقال بعد تدهور حال المصنع بسبب الإدارة الحكومية الفاشلة.

لم يتنازل الملظلظ عن لقب الحاج. من ينسى ويناديه باسمه المجرد، حتى لو فخّمه وقال له يا أستاذ، لا يعجبه، يذكره خلال الحديث بأنه زار بيت الله الحرام. صار الحاج. عندما لا نلاقيه فترات تطول، كنا نشتاق لجلسة يشاركنا فيها ليكون ضحكنا عميقاً كما كنا نضحك ونحن صغار. وكلما تواجد، بالتأكيد يحدث ما يحدث في كل مرة. ينتهي تواجده في جلستنا وهو في أشد الغضب، ويتركنا لاعناً إيانا، بأولاد الكلاب. وفي مرة وقف على باب بيت أحدنا الذي استضافنا فيه، وقف وقال أنه لم يندم أبداً بإطلاق نعت أولاد الكلاب علينا، وأنه سعيد جداً أننا صرنا مشهورين بين أبناء قبيلتنا كباراً وصغاراً بهذا النعت الذي نستحقه، عصابة أولاد الكلاب. ثم خرج وهو يقسم انه لن يجالسنا بعد ذلك أبداً، فلم نعد من مستواه خاصة أنه حج بيت الله ونحن لا.

في مقهى هادئ بالإسكندرية تلاقينا. معنا زعيمنا كَمْبال وأيضاً حضر من أصبحنا نناديه بـ الحاج فلان. تحسرنا أولاً على الإسكندرية التي لم تعد ماريا. الثغر الجميل كاد يكون قرية عشوائية كبيرة. طالت جلستنا في ود ومرح. حتى ضحك كَمْبال بقهقهة عميقة. فضحكنا كلنا ضحكاً عميقاً. رغم أننا في مقهى عام ولسنا في بيت أحدنا في جلسة خاصة، لم نستطع كتم الضحك. فغضب الحاج فلان وقام بسبنا بسبابه المعهود، وأضاف لعنات على أم كَمْبال ثم غادرنا، رغم أننا لم نحك كلمة واحدة من تلك المسخرة المؤخرية.

لم نعد نتقابل صحبة إلا نادراً. ثم تخطينا الخمسينيات ومات منا اثنان، أحدهما مات في بلد خليجي والثاني قضى نحبه في قرى التهجير، قرى الشتات. أصيب الضاحك الكبير كَمْبال بجلطة، تسببت في شلل نصفه الشِمال. صار سيره صعباً ويستحسن أن يستند على أحد. أما الحاج فلان الملظلظ، فهو مازال محتفظاً بلظلظته، فقط أصيبت ركبته بآلام وصار يستند خلال سيره على عصا أبنوسية أنيقة. وكلنا عصف بنا المشيب وأمراض توزعت علينا كل حسب نصيبه.

في عيد من أعياد الأضحى تجمع سبعة منّا في قريتنا التي هُجرت وألقيت في صحراء جرداء، لا نهر فيها ولا نخيل ولا بيوت واسعة ولا مرح ولا فرح، فقط نضطر للمرح والضحك المصطنعان حتى نخفف عن قلوبنا أوجاعها. في بيتي الضيق تجمعنا. كنا جلوساً ودخل آخرنا كَمْبال المشلول مستنداً على كتف ابنه. أول من قام له وأخذه بالأحضان كان الحاج فلان الملظلظ. بكيا معاً في تعاطف عميق. جلسنا نشرب الشاي ونأكل البقسماط ونتضاحك. وكل منا متوتر من سيرة حرق المؤخرة أن يأتي بها أحد، لم نعد لا أطفالاً ولا شباباً ولا رجالاً وتخطينا مرحلة الشيخوخة أيضاً، وصرنا من يقال عنهم عواجيز. لم نعد نتوقع مشاغبات كَمْبال المشلول، الذي بكى على كتف الحاج فلان الذي كان سابقاً الملظلظ.

نتسامر في هدوء حتى فاجأنا كَمْبال بضحكته الجديدة الغريبة بسبب فمه المعوج. ضحكنا بعمق كلنا حتى الحاج فلان الملظلظ ضحك أعلى وأعمق من ضحكنا. ولما بدأنا نهدأ، إذا به يلعننا ويقسم أنه لم ينس واقعة حرق مؤخرته يوماً في حياته. وإنه كل يوم يكرهنا ويلعننا، ويحبنا ويشتاق إلينا معاً. فزدنا ضحكاً حتى أتت زوجتي وابنتي وابني متعجبين، ثم انصرفوا ضاحكين على طفولة عصابة العواجيز. ضحكنا يهدأ قليلاً ثم يتصاعد ولا يتوقف. وإذا بالحاج فلان الملظلظ يقوم من مقعده ويركن عصاه ويقول:

– سنوات طالت يا أولاد الكلاب وأنت تتحدوني بأن أعرض عليكم مؤخرتي. فها هي.
استدار ورفع جلبابه عالياً وانزل لبساه الداخلي قليلاً حتى بانت أعلى مؤخرته. بنيّة اللون من غير سوء. قال وهو يواجهنا ويرفع لباسه لأعلى ويترك جلبابه ينسدل..
– استرحتم يا أولاد الكلاب!



* قصة جديدة لكاتب المصري حجّاج أدّول تصدر قريباً ضمن مجموعة قصصية بعنوان “الجِمال مطمئنة”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى