جيم كلارك - هلاك القبيلة.. قصة قصيرة - ت: حسام الدين محمد)

بقدر ما يمكن لمورداك، من خلال رؤيته للسماء من ثقب المدخنة في سقف الكوخ، أن يقدّر، فإن ساعتين من الوقت بقيتا للفجر او ما يقارب ذلك.
ابتلع جرعة من الجعة من القدح قربه، وقرّر ان يبدو سكران مذهولا امام غريغ ، الشاعر، الذي بدأ بإنشاد مدائح لاولئك الموجودين في القاعة الدائرية للتاويسك (زعيم القرية).
عرس أخته كان حفلا مسيحيا بالتأكيد، غير ان باتريك لم يكن قد طهّر الجزيرة من كل اعتقاداتها الوثنية… وكما هي العادة، فإن التاويسك كان قد دعا الي وليمة عظيمة وليلة فرح للاحتفال بمناسبة زواج بادرياغ و برايد . اسم مناسب ايضا ، قال مورداك لنفسه وهو يضحك.
صوت غريغ المدندن بدأ يتصاعد اعلى فأعلى، واحس مورداك بالتعب من شرب الجعة وكما يحدث دائما عندما يكون مالاَّ، فإن افكاره اتجهت الى نيامه … التي يعني اسمها سماء وعندما يتذكر وجهها الفائق الجمال وشعرها المنساب خلفها، فإن مورداك لا يستطيع غير ان يوافق على حسن اختيار الاسم. لقد كانت محبوبة اكثر من اي امرأة في اردنا بهفويتسوغ، قرية مورداك.
نيامه حامل الآن بطفله الاول وهو لا ينوي الانتظار طويلا ليتزوجها حالما يولد الطفل.
حفل عرسه سيكون الحفل الثاني الذي يحضره، ربما.
كشخص غريب عن القرية، باستثناء رابطة الدم مع برايد اخته، فان غريغ كان في آخر قائمة من يستحقون مديح غريغ. نظر نظرة خاطفة الي فوق وتأكد من ملاحظته: السماء كانت تحمر مع طلوع شمس الصباح. كبت موجة اخرى من الملل وقرر الاستماع الى غريغ.
ومورداك، أخو زوجة بادرياغ الجديدة،
شخص يستأهل مديحنا،
فهو اثبت شجاعته في المعركة
ضد المهاجمين الشماليين في ارضه، “اردنا بهفويتسوغ”
النساء يصرخن لاثارة انتباهه
لكن عبثا، لأن عينيه كانتا فقط
لنيامه، عاهرة القرية.
القلائل الذين كانوا مستيقظين ضحكوا بقوة لما قاله الشاعر أما وجه مورداك فتصلب. أطبق اسنانه بقوة لكنه لم يقل شيئا، فأن يواجه كلمات الشاعر يعني ان يواجه زعيم القرية نفسه. كان واضحا ان غريغ لا يستلطفه لسبب ما، مسح الجعة عن فمه، وأنصت للمقطع الثاني.
مورداك ايضا طويل وقوي
ودائما يربح في المسابقات
انظروا! حتي في هذا اليوم هو قد ربح
لقد شرب جعة اكثر منا جميعا!
انتفض مورداك وصاح: “هذه حقارة! استطيع ان اتحمل مزاحاً بين أصدقاء، لكن ليس هذا القدح والذم”، كان يستعد لتحدي غريغ، عندما جاءه صوت من الجانب البعيد من القاعة. “أوكونور، أنا أحكي باسمي وباسم قريتي: هل ستجلس في مقعدك وتتجاهل الاساءات من شاعركم الي اكثر الضيوف احتراما، مورداك، ابن حماي الجديد؟”. كان ذلك صوت بادرياغ الذي انتصب بطول قامته، ومن ثوبه الصوفي، بانت عضلاته المتماوجة. سيف التحدي كان قد نُصب.
صوت بادرياغ الراعد ايقظ من كان نائما، وفجأة تصاعد ضجيج مزعج. كل شخص يريد ان يعرف ما الذي دفع ببادرياغ الي هذه الحالة من الغضب. ببطء، قام الرجل الشائب من المقعد العالي ومدّ قامته الطويلة.
“ما هو المشكل يا بادرياغ؟ هذه وليمة عرسك اليس كذلك؟ غريغ كان يحاول ان ينشر بعض المرح في الامسية. اكيد ان ضيفنا المحترم لم يشعر بأي تهجم، لأن احدا لم يقصد اهانته”.
النظرة التي القاها غريغ علي مورداك كانت متغطرسة جدا ومغرورة، رغم ذلك، فانها اظهرت حقيقة المسألة بقوة. استدار اوكونور نحو مورداك. “اذن، يا صديقي، هل شعرت بأية اهانة؟”.
كان هناك اكثرمن تلميح فولاذي في صوته، ورغم هذا ورغم نظرة التهديد التي صوبها بادرياغ عليه فقد قام مورداك واعلن في صوت عال: نعم، لقد كان هناك اهانة.
للحظة مخيفة كان الجمع ساكنا وصامتا. لا أحد تحرك، او حتى تنفس، ثم حدث كل شيء فجأة.
“إعتقلوه واحضروه لعندي مجردا من السلاح”. صرخ أوكونور، وقد أصبح وجهه قرمزيا. وفيما ناضل اثنان من الرجال السكاري لتنفيذ امر التاويسك اومأ الرجل الكبير لبادرياغ وغريغ ليتقدما نحوه. بدى على بادرياغ القلق. منظر العملاق احمر الشعر وقربه الشاعر الاصلع ذو وجه ابن عرس بدا مثيرا للضحك لصبية يافعة ضحكت عاليا لكن سعلة من ابيها اسكتتها بسرعة.
خلال فترة قصيرة كان الثلاثة ماثلين امام أوكونور.
مال الرجل نحو مورداك أولا.
– ما هي الاهانة التي ازعجتك، يا مورداك من اردنا بهفويتسوغ؟
لم يكن مورداك شخصا بليغا بطبيعته، فتلعثم مفتشا عن الكلمات المناسبة، ثم تكلم اخيرا:
الاهانة الاولى التي تلقيتها هي قوله عن نيامه انها عاهرة القرية. صحيح انها عاشرت رجالا قبلي، لكن ذلك لم يكن أبدا مقابل مال، وهي حامل بطفلي، انها خطيبتي ويجب ان ادافع عن شرفها كما اريد.
– لن يكون هناك جدال حول ذلك في القاعة، هل هذه هي الاهانة الوحيدة؟
مرة اخرى جمد مورداك قبل ان يجيب.
– لا، اوكونور، الاهانة الثانية هي قوله انني شربت جعة اكثر من اي رجل اخر في القاعة. مع جملته هذه، كان جميع في القاعة يستطيع سماع وقع المعدن على الخشب، فيما تخلى الجميع بسرعة عن اقداحهم.
تمعن اوكونور في الموضوع وهو يلمس لحيته البيضاء.
– الاولى، سأقبلها، مورداك، وغريغ سوف يتراجع عن قوله، الثانية يجب ان نجد برهانا عليها، لذلك ارفض التحكيم فيها. اذا وجدت قولك صحيحا، فان على غريغ ان يهجر الشعر. اما زلت تريد ان تحقق في الامر؟ اذا كنت مخطئا فان من حقي ان اعاقبك بتهمة القذف.
تقلصت عينا مورداك النسريتان وقال: نعم اريد التحقيق في الامر.
وافق اوكونور بهزة من رأسه وصاح بابنة اخيه التي كانت تقوم بالخدمة في الوليمة.
هرعت الفتاة بسرعة.
“نعم، يا عمي وزعيمي؟”
“ديدري، لقد خدمت مورداك هذه الليلة. كم قدحا من الجعة شرب؟”
جمدت الفتاة ذات الشعر الاسود لتجمع الرقم في عقلها ثم قالت: عشرة، وواحد نصف ممتلئ.
اومأ الرجل العجوز مبتسما ومشجعا بنت اخيه الصبية، وهل هناك احد في هذه القاعة تجاوز هذا المقدار من الشراب في هذه الليلة؟
احمرّ وجه الفتاة، وظهر على وجنتيها لون قرمزي. “واحد فقط”، تمتمت ديدري اخيرا.
“اخبرينا من هو، يا صبية”! قال اوكونور.
نظرت الفتاة الى اسفل لاخفاء احراجها، “انت اوكونور!”
غاضبا ومهانا بمواجهة كل رجال القرية، حرك اوكونور يده، كما لو انه يطلق الفتاة بعيدا، ثم حكّ لحيته، وفكر مجددا، وبعد صمت قلق، تكلم.
“غريغ، نتيجة قذفك وتحقيرك لزعيمك، فأنا أجردك من شعريتك. إذهب! أترك القرية ولا تعد. إعتبر نفسك منفيا”.
نظر غريغ غير مصدّق الى العجوز المطلّ بقامته العالية عليه ثم ترك القاعة.
صوت العجوز خفت الى ما يشبه الهمس وهو يخاطب مورداك وبادرياغ.
“لقد ربحت هذه المرة يا مورداك لكن تذكر ان غريغ وانا رجلان من الصعب استصغارنا. من الافضل لك ان لا تبقى طويلا في مويرثيمن، لكن عد بسرعة الى اردنا بهفويتسوغ، لأنهم أخبروني إنك غبت خمسة اشهر محاربا النورسمان. واريد ان أحذرك، ان غريغ ماكر ويبدو انه لا يحبك. من الأفضل لك أن تتجنبه اذا ما شاهدته في طريقك الى قريتك”.
سعل مورداك لينظّف حنجرته من بقايا الشراب وقال:
“سأغادر قبل نهاية هذه الصباح، اوكونور العظيم ولكنني أتمنى أن تسمح لي ببضع ساعات لأنام قبل أن أرحل”.
أومأ اوكونور موافقا: “نعم، ربما كان هذا أفضل، واذا كنت تحب ان ترى اختك مرة اخرى فعليك ان تدعوها لزيارتك. لقد أغضبت شاعرهم وأهنت زعيمهم، وهؤلاء الناس من النوع الذي يحقد”.
فكّر مورداك ان الزيارة لم تكن خيرا ابدا. كان يعلم دون أن يدقق في الأمر ان برايد كانت تنشج. لم تكن لديه اي فكرة لماذا تصرف غريغ هكذا، لكنه عرف ان اعمال الشاعر المستورة قد خرّبت لا عرس اخته فحسب ولكن ايضا العلاقة بين قرية مويرثيمن وبين اردنا بهفويتسوغ، وبناء لحسابات دبلوماسية فان زواج اخته ربما لا يتحقق.
خاطب اوكونور بادرياغ قائلا: “راقب مورداك الى ان يذهب. تأكد من أنه لن يتعرض لأية مشاكل، ورافقه الى حدود دنريلغن بوتبك”.
وافق بادرياغ قائلا: “سأفعل، اوكونور”.
كان الزعيم على أهبة صرفهم، حينما اندفع صبي (لا يبلغ اكثر من خمسة عشر عاما، لكنه طويل بالنسبة لعمره ونحيل) الى القاعة ثم ركض نحو النار في مركز الكوخ الدائري. توقف هناك وانحنى نحو اوكونور، ثم مشى حول النار بخطوات واسعة نحو المقعد العالي.
“ماذا هناك أيها الولد؟” دوّى صوت اوكونور ماك نيال بأعلى درجاته الآمرة.
“اوكـ ـ كونور العظيم، انا عائد لتوي من دن ديلغن، حيث سمعت خبرا عن موجة جديدة من غارات الفايكنغ. هناك رجل من تارا اخبرني انهم قد تقدموا الى الداخل حتى عشرة اميال، كما يبدو ان الدانيين والساكسون لا يستطيعون صدهم. لقد احرقوا ودمروا كنيسة اردنا دوار”.
تنفس مورداك بصعوبة “اردنا دوار! تلة بستان السنديان، انها بالكاد تبعد ميلا من تلة شجر الدردار، قريتي اردنا بهفويتسغ”. استجمع أفكاره بسرعة وحمل الاغراض التي معه.
“اوكونور، يجب ان تسمح لي بالرحيل. يجب ان اعود لقريتي في الحال”.
وافق اوكونور: “يمكنك الذهاب، مورداك. ليسدد الله خطاك. انا اسف لانني لن استطيع ان ارسل معك بادرياغ الان، اذا هاجمنا النورسمان فكل رجالنا يجب ان يكونوا موجودين للدفاع. ليكن الله معك، مورداك”.
احتج مورداك بقوة لكن دون فائدة. انطلق بسرعة من الكوخ، حاملا سلاحه، وروفق الى البوابة الشرقية للقرية. كانوا كأنهم يدفعونه وهو يخرج من البوابة الخشبية، ثم اغلقوها جيدا بعد خروجه. نظر مورداك الى الاعمدة الخشبية المرتفعة عشرة اقدام، المجمعة معا والمدقوقة بالارض لتشكل جدارا، ولاحظ اللاجدوى في كل ذلك. النورسمان سيحرقون الجدار الذي أتعب أهل القرية أنفسهم في بنائه، وبرغم مزاجه المعكّر فقد ضحك.
اتجهت افكاره نحو نيامه مجددا وانطلق مقتفيا الاثر الى دن ديلغن. وفيما هو يسرع الخطو كان الف سؤال ينفجر في عقله، ماذا لو لم يكن غريغ في الوليمة؟ ماذا لو… لكنه كبت هذه الافكار. لقد كان يبعد مسافة اسبوع او عشرة ايام عن قريته وعائلته واصدقائه، بالنسبة له هذا ما كان يهم الان. لقد كان يوما سيئا بالتأكيد.

بعد اسبوع

استفاق مورداك على صوت طيور تزقزق بعيدا في الأعلى. خلال الايام السبعة الماضية، لم يكن الطقس جيدا فقد حاصر المطر والضباب رحلته جنوبا، لكنه وصل وكلاو، ولم يكن بعيدا من تلة اردنا بهفويتسوغ.
لقد بدأ يومه بالقلق والحركة، كانت السماء عميقة الزرقة، وصافية من اي عيب رمادي، “هذا يمكن ان يكون يوما رائعا”، قال مورداك لنفسه.
مسح اخر ما بقي من طعام اشتراه في تارا، وغسل وجبته بماء ينبوع كان يصدر فقاعات من تحت شجرات السنديان، حيث كان قد لجأ البارحة، جمع حوائجه، ومستندا الى سيفه وقف.
مشى مسافة ثلاث الى اربع ساعات، وكانت الشمس قد وصلت الى منتصف السماء عندما لمح شكلا يترنح خلال الوادي الذي كان نازلا اليه. مع اقترابه، استطاع مورداك تميّز هيئة راهب، وعلى كتفيه كان يحمل حقيبة ثقيلة.
“اللعنة، انه من اردنا نوار” صاح مورداك.
مع صرخة مورداك، نظر الراهب الى فوق، والتمع الامل في عينيه لكنه عندما لمح سيف مورداك اصدر صوتا غريبا، وتحسس قبعته بارتباك، ثم بعد أن وضع حقيبته بحذر على العشب الربيعي، قام برسم اشارة صليب.
“ضع صليبك المقدس جانبا، ايها الاخ” صاح مورداك، مبتسما. “انا لست شيطانا لتخاف مني بل رجل مسيحي معمّد مثلك. سيفي هو طريقتي الوحيدة للدفاع ضد النورسمان الوثنيين الذين دمروا جزيرتنا الجميلة مجددا. كنت اخدم عند جدي، شيرات مكنيارت، في آمهين ماتشا، لأتعلم المبارزة وفن القتال، عندما هاجم الفايكنغ الشاطئ الشمالي ودُعينا للدفاع عنه. انا الان عائد الى قريتي، لأتزوج خطيبتي نيامه”. خلال حديثه كان مورداك يتقدم من الراهب، وصار على بعد ثلاثة اقدام من الرجل المنكمش خوفا والذي حدّق عن قرب الى مورداك ثم ضحك بقوة ومسح على ظهر مورداك.
“ألست مورداك مك لابريس! لقد تعرفت إليك الآن يا بني. انت الذي كنت تحضر كمية زائدة من الحليب للكنيسة خلال اشهر الشتاء مع اختك، انها ستتزوج، هذا ما سمعه الاخوة”.
اومأ مورداك برأسه مبتسما ببلاهة. لقد أحب دائما هؤلاء الاخوة المقلنسين في الكنيسة وقد احس بنفسه اندفاعا ليشرح همومه وافراحه ودموعه وقلقه للرجل العجوز، مثلما اعتاد دوما عندما كان طفلا. لكنه لم يفعل.
ظهر على وجه الراهب فجأة تعبير جليل “لقد نهبوا الكنيسة يا مورداك. كل الرهبان…” توقف ثم حاول مجددا. “قتلوهم خلال الصلاة يا مورداك، هؤلاء الوثنيين النورسمان دنّسوا كنيستنا بالجريمة”!
كان العجوز حزينا بشدة، وكان مورداك قادرا على رؤية الدموع تنحدر على وجهه بوضوح، وأجلس الراهب علي الارض.
“كيف نجوت من المجزرة يا أخ اندا؟”
الأخ العجوز ابتسم متحسرا فيما الدموع على وجنتيه تلتمع في ضوء شمس العصر.
“لقد تسللت. كنت ما ازال في حجرتي عندما جاء الأنجاس. عندما رأيتهم، اندفعت للاختباء. هناك استطعت ان اجمع هذه” وأشار الى الحقيبة المنقوعة بالدماء، المطروحة على العشب.
فتح مورداك الحقيبة ولهث عند رؤيته كنز الكنيسة يسقط نحو التراب. كتب مزخرفة بشكل جميل من المخطوطات، وكؤوس قربان مجوهرة، وصلبان مغلفة بالذهب، كلها انصبت على التراب.
عينا مورداك اتسعتا، ثم نظر الى اعلى والتقتا بعيني اندا.
“ما الذي ستفعله بكل هذا؟” اشارته المضطربة كانت مهيبة.
“أعتقد أنني سوف آخذه الي كنيسة اكبر” تمتم الراهب بحزن. “موناستربويك، على الاغلب. الاب ابوت تعلّم هناك. قلت انك عائد الى اردنا بهفويتسوغ؟”
تمتم مورداك موافقا “م م م. ما هي حظوظ القرية؟”
أومأ الأخ اندا مبتسما. الغابة في شمال وكلاو كانت كثيفة جدا في مواضع بحيث انها تجعل السفر مستحيلا. اذا لم تكن تعرف المنطقة، قد تضيع لأسابيع تحت غطاء الغابة. ربما كان قدوم النورسمان الى ابرشية اردنا دوار بالصدفة.
“لن يكتشف المغيرون تلة اشجار الرماد اردنا بهفويتسوغ بإذن الله. لكن الغابة كانت مكتظة بهم عندما غادرت يا مورداك. كانوا يبحثون عن الناجين لأخذهم رقيقا” تابع الراهب. نظر مورداك الي الغابة الكثيفة المنذرة بالشر، ثم ابتسم بكبرياء.
“من العار علي ان لا ادافع عن خطيبتي وارضى ايها الاخ. حتى لو لم أكن مطلوبا بدافع الواجب فيجب ان اذهب بدافع الحب”.
“قول جيد يا مورداك! سوف لن امنعك اذن، القدر اعطانا نحن الاثنين اوراقا خطيرة، وانا فقط اصلي لكي نصل كلانا دون ان نتعرض لاذى. يجب ان اغادر هذا المكان لخوفي ان الوثنيين يطاردونني. ليكن الله معك، مورداك” قال الراهب.
جمع العجوز كل الاشياء، في الحقيبة، وتوقف لحظة.
“خذ يا مورداك، ليس عدلا ان تغادر كل كنوز الكنيسة هذه التلة” قال الراهب بلهجة ابوية، مناولا اياه صليبا مذهبا.
رفع الراهب الحقيبة على كتفيه مع نخرة ضئيلة، وقف مورداك وراقب الرجل الجليل العجوز يختفي ببطء. مجددا شعر باحساس العبث يرتفع في صدره، لكنه لم يحس برغبة بالمزاح. لاحظ ان اندا لن يستطع الذهاب ابعد من ثلاثة اميال قبل ان يسرق، ويضرب ويترك للموت من قبل بعض الاجانب الطامعين بالذهب من مستوطنة الدانمركيين في دبلن، ابتلع انفعالاته وصلى ان يكون خاطئا، لكن في قلبه، احس انه مصيب.
بعد حوالي عشر دقائق من المشي، دخل مورداك تحت الغطاء الاخضر الذي كان غابة وكلاو. فكر ان اندا كان على حق. لا يستطيع احد من الدانمركيين اوالساكسون او الفايكنغ اكتشاف اردنا بهفويتسوغ دون دليل، بهذا التأكيد عزّى نفسه.
لبقية ساعات اليوم لم يتوقف مورداك ولم يقلل سرعته، وكان متحذرا مع ذلك، وقد اضطر مرتين لتغيير طريقه لتجنب الفتك به على يد النورسمان الطائفين بالغابة للسلب والنهب، لكنه كان الان قد اقترب من قريته. فكر مورداك انه اذا حالفه الحظ فسيكون هناك مع نهاية الليلة، وبالتدريج فتح طريقه عبر متاهة الاشجار، الى ان صار في الوادي تحت تل شجرات الدردار، المحيط بالقرية.
كان الوقت فجرا عندما بدأ مورداك الصعود الاخير للجانب الصخري للقرية. وهج الشمس الراحلة جعله في مزاج مرح وروحه طارت فرحا مع فكرة وجوده مع نيامه قرب موقد النار من جديد. فكر في نفسه قائلا: خمسة اشهر فترة طويلة في حياة اي رجل ، واخذ يتحزر عن الفترة الباقية لنيامه حتى تلد عندما انزلقت قدمه.
أرض، اشجار وسماء دارت حوله في كون مضيء وعندما توقفت اكتشفت مورداك انه متمدد عند قناة ماء وساقه اليسرى تنبض بألم حاد. بعد ثوان قليلة رفع نفسه الى وضعية جلوس ليستعيد هدوء ذهنه، كان ينزف من اسفل ذقنه بغزارة حيث جرح جرحا حادا بسقوطه على صخرة.
“يا الله! هل سأستطيع ان اصل الى بيتي بهذه الطريقة؟”
ساحبا ساقه قليلا ترنح في مشيته عبر طرف التل. كان يعرف مكانه جيدا. كثير من الاشياء كان يخبئها هو واخوه اوين من غضب ابيهما. اليوم كان هو الذي يختبئ من النورسمان. جلس هناك في القتامة المنذرة بالشر، وطوى ساقه بقطعة قماش اقتطعها بسكينه من ثيابه ومن مكانه راقب الشمس وهي تغرب ببطء خلف تل الابرشية المخربة وفكر محزونا، في اخيه اوين، المبتلى بوباء اثناء ولادته تركه من دون شعر.
الأصلع، هذا صار لقبه الذي يدعونه به، الى يوم من ايام اكتوبر قبل خمسة عشر عاما. قتيل وخمسة جرحى سقطوا قبل ان يأتي الاب ويجرد اوين من سيفه. اوين كان ماهرا في فن الكلمة، وهو ما اهله للتمرن ليصير شاعرا.
هذه كانت أمنيته التي لم تتحقق.
اثناء اللعب في احد الايام، قام كولن، ابن التاويسك (رئيس القرية)، بشكل غير مقصود بضرب اوين بعصاه. استدار اوين ورد على الاهانة بسرعة بشعر مقرف مشيرا الى عادات كولن اثناء الاكل. كولن، الذي ورث الفظاظة من أبيه قام ببساطة بالرد، على الاقل فإن عندي شعر، ايها الاصلع. عند ذلك قام اوين برفع عصاه الضخمة من خشب الدردار وضرب كولن حتى الموت. واقتضى الامر ان يتعاون هو وابوه على رفع اوين عن جسم كولن، فكر مورداك، دم احمر وسماء حمراء.
نُفي اوين من القرية بالطبع، لكن بتدخل من لابريس وكياران مكنيارت، جد مورداك، الذي كان زائرا انذاك، لم تحصل التضحية الطقوسية لأودن. نيسا، تاويساك القرية آنذاك، كان ما زال منتميا الى ديانة تموت ـ كان وثنيا ـ خمسمئة عام بعد (القديس) باتريك كان ما يزال هناك وثنيون في ايرلندا، لكن كانوا قلة. بموت ابنه، ثم زوجته واخيه بعد سنوات قليلة، نيسا كان اخر وثني في القرية. عندما مات، صار لابريس زعيما.
كان الوقت ليلا. جهز مورداك ثوبه على شكل كيس، ومتمددا فيه، صلى لله ان يكون جاهزا للمضي في الصباح. نومه كان متقطعا، وفي بعض الاوقات ظن انه سمع صرخات متفجعة، تقلب طوال الليل وأيقظه حلم مفاجئ قبل الفجر بقليل، ووجد السماء ما تزال شاحبة.
كان يتعرق من الحمى ويرتجف دون ان يستطيع السيطرة على نفسه، لاحظ انه لا يستطيع ان يقبل ما اكتشفه للتو. غريغ الشاعر في حلمه توحد مع اوين مك لابريس. كانا واحدا.
مترنحا على قدمه، لف مورداك ثوبه حوله وجمع ما معه. يجب ان يخبر احدا بهذا الامر. لاحظ الان السبب وراء فعلة اوين اثناء الوليمة. لقد اغضب كل الناس في اردنا بهفويتسوغ، ورؤيته لاخيه واخته في موطنه الجديد اغضبته بشكل قوي حتى فعل ما فعله. لكن ما الذي ربح من وراء ذلك في النهاية؟ لقد نُفي مرة اخرى.
عاضّاً على اسنانه ليخفف من ألمه، انطلق مورداك مجددا الى جانب التل. الهواء كان مشبعا بالدخان. يبدو انهم كانوا يدخنون سمك السلمون امس. بلع مورداك ريقه وهو يفكر بذلك.
وصل اخيرا الى نهاية التل ونظر الى الوادي تحته، باتجاه القرية، كانت مهجورة، الاكواخ والسياج المحروقة كانت الاشياء الوحيدة الباقية. النورسمان! ، صرخ مورداك، متجاهلا صرخات الالم المحتجة القادمة من ساقه، ركض نحو مشهد الكارثة، مخنوقا بقلقه والدخان. توقف في مواجهة كوخ والده، لابريس التاويساك، وحدق داخلا، ابوه وامه متمددين في السرير وقد أخرجت احشاؤهما، الشراشف المنقوعة بالدماء كانت الشاهد الوحيد للكارثة، فيما هو يتمايل، من كوخ الى اخر كان المشهد نفسه في كل بيت.
فجأة، هجم خوف مرعب على قلبه، مورداك اندفع الى كوخه، وانفاسه تتسارع، وساقه اليسرى لا يستطيع احتمالها، برعب يائس، انقذف الى الكوخ. كان خاليا، لكن الحطام الموجود كشف عن نزاع حصل هنا. فكرة واحدة استولت على مورداك الآن وهي: اين نيامه؟
مترنحا في القرية المدمرة، لاحظ مورداك بشكل مفاجئ، هذا كان (دييريد آن توث): هلاك القبيلة.
لكن بالنسبة لمورداك، لم تعد قبيلته، وابواه، او اصدقاؤه ليهمّونه. فقط وراء الجانب الغربي من السور، وجدها. وتقيأ ثم تقيأ.
على قطعة صخرية مسطحة تمدد جسد نيامه. كانت عارية، ووجهها الى اسفل. كان قفاها يحمل جرح مخالب النسر. هذا الشكل المرعب للأضحية الى اودن: شقوق طويلة لقطع في جانبي العمود الفقري، ثم كسر القفص الصدري وسحب الرئتين من التجويف مثل اجنحة النسر.
وهو يرتجف بشكل عنيف قلّب مورداك جسدها، فصار وجهها للامام. تقيأ مرة اخرى واخرى.
رحمها كان قد استؤصل. أبعد مورداك نظره عن التجويف الدموي ووقعت عيناه على ربوة على مسافة قريبة. ركز نظره عليها ثم تقيأ مجددا.
كان ذلك جنينه.
وقف مورداك على قدميه. رفع وجهه المليء بالدمع الى فوق وفتح فمه.
صرخ: “لماذا؟” وترددت صرخته المفجوعة حوالى الوادي، ثم ارتفعت الى السماء. لكن لم يكن من جواب هناك.
في الغابة، في معسكر الفايكنغ جلس اوين ماك لابريس، غريغ الشاعر. سمع الصرخة الرهيبة لأخيه وابتسم قليلا، رغم انه لم يجد متعة حقيقية في ذلك. لكنه على الاقل قد جلب موت القبيلة. بذلك كان مسرورا. قرية مويرثيمن هي التالية.
شعر بلطخة على وجهه، ونظر الى فوق. كانت السماء قد بدأت تمطر من السحاب الرمادي الذي تجمع خلال الصباح.
“اللعنة،” فكّر “سيكون يوما سيئا بعد كل شيء”.

ترجمة: حسام الدين محمد

* ولد جيم كلارك في بلفاست عام 1971. بدأ الكتابة في سن مبكرة جدا ونشر في عدد من المجلات الايرلندية المتنوعة وشارك في كتاب عن ميثولوجيا الخيال. قصته المنشورة هنا تحاول استخدام التاريخ الايرلندي القديم للتعبير عن حالات تاريخية ونفسية معاصرة، والأحداث تجري خلال فترة كانت فيها ايرلندا لم تعتنق بكاملها المسيحية وتتعرض خلال ذلك لغزوات من الفايكنغ وشعوب الشمال الاسكندنافيين.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى