حليم يوسف - بلاد الخوف.. فصل من رواية - الترجمة عن الكردية: فواز عبدي

بلاد الخوف
فلأمت، أنا ابن الخوف،
ليرضى الأب و… ليعش الرئيس إلى الأبد

***

الخوف، مرة أخرى الخوف.

دخلت المطبخ، أيضاً كان الطعام قد احترق. بدأت رائحة الطعام المحترق تتغلغل إلى روحي. كأن الجن يعيشون معي، وقبل أن أصل إلى المطبخ، يعمدون إلى حرق الطعام. تركت كل شيء في مكانه واتجهت إلى غرفتي جائعاً. نتيجة الألم الحاد انبطحت على الأرض. وساورني خوف ورحت أفكر في تلك البثرة في مؤخرتي. أتمنى ألا تصيب حتى الذئاب على قمم الجبال. ظهرت بثرة في ملتقى أعلى الردفين، تتسع رقعتها يوماً بعد يوم. المشكلة أنني لا أستطيع البوح لأي كان حول مصيبتي هذه. أمس حملت المرآة الصغيرة ووقفت أمام المرآة الكبيرة لأرى بوضوح مكان الألم. كانت هناك بقعة حمراء في أعلى الردفين. هذا لا يهم. لكن خوفي هو أن تتحول هذه البقعة الحمراء إلى ذيل، وتتحول معها كل مخاوفي وأحلام اليقظة إلى حقيقة.

إذا ما حدث شيء من هذا القبيل، فإن السبب في كل هذا هو سمكو.

سمكو الطفل الذي علمني اللعب بأذيال الحيوانات المقطوعة.

ربما يثأر الله منا على تلك الأيام التي علاها الغبار. كان سمكو حافياً على مدار الأربع والعشرين ساعة في اليوم. بيده كان يخلع حذائي من قدمي، ويخبئه، ثم يحمل قطعاً حديدية حادة ودواء. وتبدأ المتعة الكبرى في البحث عن الضحايا من الحمير والأحصنة والنعاج والعنزات بعيداً عن أعين الكبار. كنت أربط قائمتي الحمار الأماميتين وأبطحه أرضاً، ثم أربط قائمتيه الخلفيتين كطبيب مختص، فيحمل سمكو قطعه الحديدية وخلال لحظات يقطع ذيله، وحتى يوقف نزيف الدم كان يبدأ بمداواته. كان يرش “الدواء الأحمر” مكان الجرح، ثم يرش الكحول، يضمد الجرح بحرفية ثم يترك الحيوان المسكين.

امتلأ المكان بالحمير مقطوعة الأذيال.

قليلاً ما كنا نحصل على ذيل حصان، لأن الخيول قوية وعنيدة، كنا نأخذ من ذيلها أطول الشعر، ثم نأتي بتنكة مدورة، نربط الشعر إلى التنكة نصنع منها طنبورة. كان سمكو يعزف على تلك الطنبورة العجيبة أما أنا فكنت أرغب في الغناء. كم كان الغناء عذباً بعد ذلك التعب والكد في صنع تلك الآلة الغريبة. تلك الآلة التي طلبتُ مئات المرات من والدي شراءها لي، دون أن أحظى بجواب. كان سمكو يملك صوتاً جميلاً يتألم مع آلام الحيوانات مقطوعة الأذيال وأنين ها. قوة خفية إلهية كانت تجذبنا إلى حفلات العذاب هذه والأغاني والرقص… لم يكن الكبار يسمحون لنا بالمشاركة في حلقة الرقص في الأعراس، لأن رؤوسنا ما كانت تصل إلى مستوى سرتهم، كما كانوا يقولون. إذاً علينا أن نخلق أفراحنا بأنفسنا، لذا اخترنا ركناً ميتاً من حوش قاسمو وفي كوخ مهجور أقمنا معرضاً للأذيال المقطوعة. زيّنّا الجدران الأربعة بالأذيال القصيرة والطويلة والمتنوعة. ابنه قادو هو من وجد لنا هذا المكان، وأصبح شريكنا في عالمنا الخاص هذا.

كان قادو عدواً لدوداً للكلاب والقطط. يباغتها من الخلف وينقض عليها بجرأة تفوق جرأتنا في الاقتراب من الأحصنة التي لا تكف عن الصهيل والحمحمة في ذلك العراء الساخن والمغبر كقلوبنا الملتهبة. جلس سمكو في وسطنا، ينظر بنشوة إلى الأذيال الكثيرة المعلقة فوق رأسه والمتأرجحة في الهواء وعلى الحيطان. كان منتشياً باعتباره الأسبق في هذه الفكرة الجهنمية التي جندنا أنفسنا لها طوال الوقت حتى اجتاحت عوالمنا المنفتحة على آخرها أيادي الكبار بجرنا إلى المدارس..

لقينا في الأيام الأولى آلاماً في الدروس، بسبب اللغة التي ما كنا نفهم منها شيئاً، أصعب بكثير من تلك الآلام التي كانت تعاني منها تلك الحمير التي كنا نرميها أرضاً ونقطع أذيالها. الهمهمة التي كانت تجول في صدورنا، لو سمعت لكانت أعلى من تلك التي كانت تصدرها تلك الكلاب والقطط التي كنا نشحذ السكاكين لقطع أذنابها دون رحمة. في الدرس كان وضعي أشبه بوضع تلك القطة التي تدوس على ذيلها وتجبرها على الصمت!

كانت لغة المعلم غريبة. تخرج الأصوات من فمه بطريقة مضحكة.

وحين كنا نضحك، كان يؤنبنا، يشد آذاننا، ويبربر صارخاً فينا بكلمات غير مفهومة. تطير الجُمَل من فمه متلاحقة سريعة. كنت أعلم أنه يوجه إلي أسئلة، لكن ما هو الجواب؟ الله أعلم. بكيت في اليوم الثاني حين أجبرني والدي على الذهاب إلى حفلات التعذيب والتي كانت تسمى “الدروس”.

– عليك أن تتعلم لغتهم يا بني، كي لا تبقى حماراً كوالدك.

لم أعد أصدق أن أرى نهاية هذا الوقت الصعب، لأرمي الملابس المدرسية والكتب في حوش الدار، وأركض حافياً مع سمكو وقادو إلى العراء نحو الآفاق المفتوحة وأذيال الحمير. بعدها كنا ندخل كوخنا المليء بالأذيال الرائعة. سعادة غامرة كانت تملأ قلوبنا الصغيرة في عالمنا الخاص هذا الذي شيدناه بعرق جباهنا. ازدياد عدد القطط والكلاب والحمير مقطوعة الأذيال في سائر البلد نشرت العديد من الأسئلة. لم تكن المسألة بحاجة إلى كبير عناء ليستدلوا على مكاننا. فجأة هاجم الكبار كوخنا المليء بالأذناب المتنوعة. وخلال دقائق قضوا على ما تعبنا في بنائه سنوات، وهرب كل منا حافياً في اتجاه، ليس من أجل الصيد هذه المرة، لكن خوفاً من عقوبة الكبار. خوفي من والدي جعلني ألا أعود إلى البيت تلك الليلة. يومها كان قادو الوحيد الذي وقع في أيديهم. ربطوه من قدميه إلى سقف الكوخ، وهو يصرخ ويحلف بأغلظ الأيمان على أنه لن يقطع أي ذيل بعد اليوم. حقيقة فقد وفى بعهده، وتحول شيئاً فشيئاً إلى إنسان رقيق. ما عاد يـُرى في يده غير القلم والأوراق البيض.

بعد سنة، عوقب ثانية لأنه لم يكن يرسم غير القطط والكلاب والحمير مقطوعة الأذيال.

أعادتني أمي إلى البيت كي لا أغيب عن المدرسة، بعد أن عاهدتْ على ألا يمسني والدي، شرط ألا أعود إلى هذا العمل الشائن. هكذا تركْنا سمكو وحيداً يمارس عمله، والذي كان جاهزاً دوماًَ لقطع أذيال مخلوقات الله البكماء الخرساء.

الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، أسأل نفسي: ترى، أهذه البثرة في مؤخرتي نتاج تلك السنوات؟ هل يثأر الله مني بسبب أعمالي تلك؟

إلى الآن لا أعرف سبب تلك العداوة مع المصابيح التي كانت تزين شارعنا؟ تلك المصابيح التي كانت تسعد الكبار. كنا نتسابق أنا وسمكو وقادو في كسرها، وما أن تسقط واحدة على الأرض وتتناثر قطعاً صغيرة حتى نطير فرحاً. ما الذي فعلته هذه المصابيح المسكينة حتى نحطمها بكل هذه السعادة المصحوبة بالرقص والغناء؟ إذاً بإمكاننا أن ندع الناس في الظلام، ونخبئ جسد هذا العالم الذي يقف ضدنا في ظلام دامس. لكن، لا أعلم كيف سأتخلص من هذه البثرة في مؤخرتي، وكأن كل شخص يدس يده ويلمس مؤخرته مخافة أن يكون قد نبت له ذيل. في هذا البلد الذي ملك الخوف فيه حتى الحجارة والصخور، يبدو أنني، ومنذ أكثر من ثلاثين سنة، أعيش وسط غبار هذا الخوف ودخان ه.

أنا ابن الخوف.

الخوف من انفجار لغم في الحدود التي تحتضن بلدتنا الطينية. البلدة المرمية ما بين “سَرْخَتْ” و”بِنْخَتْ”… من الأعلى تسقط علينا لعنة حكومة سرخت من فوهات بنادق الجنود؛ هؤلاء الجنود الذين ينظرون باتجاهنا مراقبين أربعاً وعشرين ساعة في اليوم. ليلاً، يراقبون من علبة معدنية مربعة مرفوعة على أرجل حديدية، ونهاراً ينزلون إلى حفر مربعة الشكل. مستعدون دوماً للقتل. وما بين محرس وآخر هناك ألغام وجنود. أما لعنة حكومة بنخت فقد تَحُلُّ علينا في أية لحظة، في لحظة ضحك غير مناسبة، أو أن نبكي في عيد وطني أو قومي، أو أن نمشي في مسيرة ولا نحمل صورة للرئيس ولا نقول بأننا مستعدون أن نقدم دماءنا وأرواحنا رخيصة من أجله.

– بالروح، بالدم، نفديك يا رئيس!

هذا عدا عن لعنة الوالد الذي يفرح دون سبب، وكذلك يحزن دون سبب، والمطلوب منا دائماً أن نفرح أو نحزن لنكون أولاداً مطيعين. احترنا في إرضاء الأَبَيْن؛ في الشارع والمدرسة “أبينا” القائد، وفي البيت أبينا زوج الأم، هذا الأب المستعد دوماً لمعاقبتنا بدءاً من الضرب إلى طردنا من البيت وحتى ضرب الأم إذا ما طاردنا ولم يستطع اللحاق بنا. ومن ناحية أخرى كان قد انتشر الخوف في كل الأنحاء من تماثيل الرئيس، وكذلك من صوره التي كانت تزين الدكاكين، الشوارع، الزوايا، الحيطان، زجاج السيارات والشاحنات وأبواب المنازل. تتسابق المدن والقرى والمناطق في إطلاق اسمه المقدس على الغابات، الشوارع، المحطات، والأماكن الحديثة، وفي إطلاق أسماء أبنائه على أبنائهم. ذبح أحد جيراننا بقرته، قرأ عليها “المولد”، ودعا كل موظفي البلدية والسجل المدني في المدينة، ليغير اسم ابنه الوحيد، ويطلق عليه اسم ابن الرئيس. الجار المسكين انتظر طويلاً لتضع زوجته مولوداً يطلق عليه اسم ابن الرئيس، إلا أن انتظاره باء بالفشل، لذا اضطر إلى تغيير اسم ابنه الوحيد المدلل، والذي لن يؤدي الخدمة العسكرية مادام وحيداً. سُرَّ الوالد، لكن سروره لم يدم. ابنه الوحيد المدلل والوسيم زرع خوفاً بلا حدود في قلب والده. فقد كان يغيب طويلاً عن البيت. ثم تناهى إلى سمعه لقب يُطلق على ابنه “زوجة عنتر”. عنتر زعران معروف في المنطقة، بسكينه المسننة يبث الرعب في قلوب الكبار والصغار. يهجم على خصمه، يمسكه، ويشبعه لكماً وركلاً، وحتى يشفي غليله لا يقتل خصمه، بل يدعه وسط الجروح والدماء. كما يفتخر عنتر بكثرة آثار الجروح على جسمه. ولقب “زوجة عنتر” يسيء إلى ابن الرئيس كونه يحمل اسمه. ما كان يخيف الأب أن يسمع رجال الرئيس بأن (عنتر ينكح ابن الرئيس) وأن يكون السبب ابنه الوحيد. لذا ربط الأب ابنه في الدار، وحمل مسدساً، لقّمه ووضع إصبعه على الزناد مخاطباً إياه:

– اسمعني يا عديم الشرف! قسماً برب العرش السابع، إذا ما أشيع عنك كلام من هذا القبيل ثانية، لن أكتفي بقتلك، في هذا المسدس طلقتان، سأقتلك بطلقة وبالثانية أقتل نفسي! هل فهمت يا حمار يا ابن الحمار؟!

تهالك الأب المسكين عند قدمي الابن المذهول باكيا متحشرجا في حسرات خائبة على ابن سخر لتربيته كل حياته لكي يكون قدوة للآخرين, ضحى من أجله بكل حياته في سبيل أن يراه كبيراً، ضحى ببقرته في سبيل أن يحمل اسم ابن الرئيس الخالد. هذا الرئيس العظيم الذي يزور الناس في منامهم كل ليلة، لأن صوره وتماثيله النصفية تملأ كل زاوية في الوطن. ملايين الناس قد حفظوا شكل رأسه، أنفه، عينه، ذقنه ورقبته. حفظوا دقائقها مع أن أحداً لم يره عن قرب. كل مشاكل وقضايا الشعب تحل عن طريق قصر الشعب. هذا القصر المبني في أعلى قمة جبل لا يصلها الشعب إلا بالحوامات. كل شيء يحل عن طريق تقارير “رجال الشم”. هؤلاء الرجال منتشرون في الأرض والسماء وما بينهما.

إننا خائفون مما قمنا وما نقوم وما سنقوم به.

إننا نخاف منهم، ومن بعضنا.

مخافة أن يزيد عدد المخبرين عن سكان البلد، فقد راح كل شيء يسبح بحمد الرئيس وبعصره الذهبي. يوم بدء هذا العصر المهم في تاريخ البلد عيد، في المدارس يختلط الحابل بالنابل، يدخل المعلمون من غرفة إلى أخرى يخرجون التلاميذ والطلاب إلى الشوارع. وعلى مدى اتساع الوطن، آلاف الحناجر تفدي بدمائها وأرواحها الرئيس المقدس.

صبيحـة ذلك اليوم، اجتمع المعلمون حول المدير الحزبي في المدرسة واستمعوا إلى أوامره، وانتشروا بين التلاميذ المجتمعين في باحة المدرسة. كان بينهم المعلم الأحدب صاحب الصوت القوي، المختص برفع الشعارات وامتطاء أكتاف كبار الحجم من التلاميذ. كان يرفع قبضته إلى الأعلى ويقول: “عاش الرئيس” وأولاد الرئيس، وأجداد أجداد الرئيس! آلاف الحناجر الصغيرة كانت تردد ما يقول دون أن يفهموا شيئاً. امتطى المعلم الأحدب كتفي أحد الطلاب وعاد إليه صراخه بحراً من أصوات الطلاب.

– بالروح بالدم نفديك يا رئيس!

في وسط الشارع كانت أرتال التلاميذ تتتالى، وعلى الجانبين كان الناس يتفرجون. فجأة انقطع صراخ المعلم الأحدب وسقط عن الأكتاف. وبدل الشعارات راح يطلق الشتائم، لم تبق شتيمة إلا ووجهها إلى الطالب المسكين الذي سقط تحته. اختلطت الشعارات ب الأعضاء الجنسية لوالدي الطالب:

– يا بن القحبة! يا بن الشرموطة! مادمت لا تستطيع حملي لم تجعل من نفسك محمد علي كلاي وتحملني؟!

تصادمت أمواج الصغار، حاول المعلم الأحدب جاهداً ليخلص نفسه من بين أمواج الأحذية، لكن سقوطه فتح باباً كبيراً أمام الصغار للتخلي عن الجدية والخوف. أحدهم امتطى المعلم الأحدب، واعتلى الثاني كتفه، وركله الآخر ركلة وهرب.وسط هذه الضجة الغريبة، سقطت صورة الرئيس، -المثبتة على العصا التي كان قادو يرفعها- على الأرض بين أقدام الصغار الذين لم يأبهوا بها وهي تتجعلك بين الأقدام بسبب انشغالهم بمعلمهم ذي الحنجرة الذهبية، الذي شق حنجرته وهو يهتف بحياة الرئيس. تَمَلّك المعلمين خوف كبير حين رأوا صورة الرئيس بين الأقدام. مدير المدرسة الذي يرتدي بذلة رسمية، حمل الصورة ومسحها بثيابه النظيفة باحثاً عن حاملها. وبعد بحث طويل أمسك قادو من أذنه وأخرجه خارج المسيرة، أخذ منه العصا التي بقيت دون صورة وبدأ بضربه، على يده، رأسه، مؤخرته ووجهه باكياً:

– أين الصورة يا رذيل؟ أبقيت هذه العصا كعير حمار في يدك!! أين رميت صورة الرئيس؟ غداً سأريك في المدرسة! بسيطة! كل الحق على فاقد الشرف الذي رباك هذه التربية؟!

حين رأى الصغار ما حل بقادو تملكهم خوف من أن تسقط الصور من عص يّهم. ينظرون إلى الصورة بعين وبالأخرى إلى المعلم الأحدب الذي كان يمسك عجيزته بيده ويخرج من المسيرة بتثاقل. جلس مستنداً إلى الحائط محدقاً بغضب في المسيرة. كان يرغب في استعادة قوته ليلعب دوره ثانية قبل أن يسلبه آخرون هذا الدور المقدس. طبعاً كانت هدية من الله له أن يسمعه مؤيدو الرئيس ورجاله في العلن والسر، وهو يبدي بسعادة ارتباطه بالرئيس وإخلاصه له، كما كان على استعداد للتضحية والفداء في سبيل رفعة الرئيس الخالد، ليعيش إلى الأبد.

صبيحة اليوم التالي جلبت معها للمعلم مفاجأة لا تخطر على بال. رجال الشم، وكتبة التقارير جاؤوا إلى غرفة الإدارة وطلبوه للتحقيق. قاسمو أيضاً كان هنا، حتى تلك اللحظة ما كان يعلم سبب دعوته كل ما يعلمه أن ابنه قادو قد قام بعمل سيئ، لكن رؤية رجال الشم زرعت بداخله خوفاً أحمر، ونسي حتى تلك الكلمات التي كان يعرفها من لغة المدرسة. اتجه إلى معلم يعرف لغته.

صدرت صرخة عالية عن المعلم الأحدب حين سألوه في التحقيق عن تلك الضجة التي أحدثها في المسيرة، لأنهم يعلمون أن للمسيرة معانيَ وطنية وقومية، وأي إساءة إلى المسيرة إنما هي إساءة للوطن ولهذه المعاني السامية. هذا العمل يشكل خدمة للأعداء، إنه بمثابة الخيانة. شعر المعلم الأحدب أن إهانة كبيرة توجه إليه؛ إذ كيف يصبح حبه للرئيس وارتباطه به موضعاً للشك؟! وهو المستعد أن يفدي الرئيس بالدم وبالروح. أقسم حينئذ أنه سينتحر إذا ما بقي موضعاً للشكوك. حين علت قهقهة رجال الشم أجاب المعلم باختصار وبشيء من اللامبالاة:

– قريباً سأبين عملياً مدى محبتي لسيادة الرئيس وارتباطي به سيدي.

كانت هذه كلماته الأخيرة لرجال الشم.

بعد يومين تحولت قصته إلى علكة بين الأسنان. كانت غرفة المعلم الأحدب مليئة بصور الرئيس وتماثيله. ربط حبلاً قوياً بسقف الغرفة وسط هذه الصور والتماثيل، وضع الحبل في رقبته، وبهدوء ضرب برجله الكرسي من تحته. في هذه اللحظة اتجهت إليه زوجته كالبرق، اعتلت الكرسي وقطعت الحبل الغليظ بالسكين، فسقط المعلم على الأرض فاقد الوعي. بعد هذه الحادثة تحول المعلم الأحدب إلى إنسان آخر، حزين الملامح، لا يبـرح المسجد، وبدل الشعارات راح يستخدم حنجرته الذهبية في تلاوة القرآن. بقي قاسمو تحت رحمة لكمات رجال الشم هؤلاء، وكلما تلقى ضربة منهم أو من عصاهم مدببة الرأس أعلن استغفاره. كان يهز رأسه مع كل كلمة يوجهونها إليه دون أن يفهم ما يقال. كان المعلم المترجم يخشى أن يترجم ما يقال بصوت عال، بل كان يكتفي بإفهام قاسمو باقتضاب. كان قاسموا يفهم الكلمات البذيئة بحق زوجته وأمه وأخته فقط.

عقد الخوف لسانه من جذوره.

كان يقول بأنه يحب الرئيس وأنه مرتبط به، ويدعو له دائماً، كي يديمه الله فوق رؤوسنا، ليستطيع حماية الوطن من ديناصورات الأعداء. وكان يقسم على أنه لم يعلم ابنه القيام بهذا العمل الحقير، وإنما كان دوماً يعلمه حب الرئيس العظيم، والدنا الخالد، هذا ما كان يزرعه في ابنه. ثم مَن هو هذا العبد الفقير، حتى يحقد على حامي الوطن والشعب من الأعداء والخونة. وعاهدهم على أن يؤدب ابنه في البيت. سقطت غترته، التي كانت على رأسه ككوفية إثر صفعة نالها، عند قدم رجل الشم، نظر بعينين حمراوين وداس عليها بالقدمين، وأمره أن يحمل كوفيته هذه ويضعها فوق رأسه. ثم أفهمه بأنه فعل ذلك ليدرك سوء عمل ابنه، تلويث هذه الكوفية البيضاء كتلويث صورة الرئيس تحت أقدام الصغار.

– ربما تستطيعون أن تخفوا ما تقومون به عن الله، وقد لا يعلم بما تفعلون، ولكننا نعلم كل شيء، كل شيء…. هل فهمت؟

هز قاسمو رأسه ناظراً إلى المعلم المترجم. جرجر خلفه قادو المرعوب وخرج :

– أترى يا قادو؟! يا حمار، يا بغل! “على كلٍّ” سنصل إلى البيت، وسأعلمك ما يجب عمله في المدرسة بعد اليوم!..

في البيت، لم تجرؤ زوجة قاسمو على الدخول إلى الغرفة التي كان قادو مربوطا فيها من يديه وقدميه، حيث تورمت قدماه من أثر العصي.

– من تظننا يابن الكلب؟! أنا إنسان فقير أعمل ليل نهار كي تأكل أنت وأمك لقمة سم! وأنت تقوم برمي صورة الرئيس… أين نحن من الرئيس يابن تلك العنـزة؟!

بعد عودة قادو إلى المدرسة طلبه المدير ثانية، ولقنه درساً في النظام ومحبة الوطن. ولأن المدير كان يشرح بغضب وانفعال فإن قادو لم يفهم منه شيئاً وعاد إلينا باكياً مرتعشاً خائفاً.

منذ ذلك اليوم وهو يخاف من صورة الرئيس.

كانت رسوماته تخفي تحتها خوفاً غير واضح، خوفاً غير مفهوم. معظم الأحيان كان يملأ الصفحات البيضاء بمزيج من الخطوط السوداء الملتوية والمتداخلة. كلما أراد إثارة غضبي وانفعالي فإنه كان يرسم أشكالاً مربعة، لأنه كان يعلم أني أنفر من الأشكال المربعة. كانت أمي تقول بأنها حين كانت تضعني في دركوش* مربع الشكل فإني كنت أبكي، ولا أنام. ظنتني مريضاً. وحين لم تستفد من زياراتها إلى الأطباء، خطر لها أن تبدل الدركوش، وقتها ما عدت أبكي. مازلت حين أغمض عيني وأرى في منامي هذا الحلم؛ الحلم الذي يتكرر منذ سنوات، تسيل الدموع من عيني، هدير الطائرات الحربية يشق عنان السماء، تحملني أيد خفية وترميني في فضاء سماء خرساء. وحين أتقلب في السماء يُرمى إليّ من بعيد بقطعة حديد مربعة الشكل. أمسك بكل ما أوتيت من قوة بتلك القطعة. يدخل رأسي في وسط الحديد المربع الذي يضيق شيئاً فشيئاً على رقبتي، يضغط على حنجرتي، وقبل أن أختنق أجفل من نومي مرعوباً.

خوف في النهار، وفي الليل خوف.

أتذكر أن خوفاً أزرق تسلل إلى كياني حين جلست في ذلك الكوخ المربع وسط الأذيال المقطوعة. مرت من أمام عيني كل الحيوانات المقطوعة الأذيال، إنها الآن أمام الباب، ستهاجمني معاً، وكأنني مرمي بين أذيال وأنياب حيوانات هائجة غضبى. تلك القصة الغريبة التي كانت جدتي ترويها لنا عن مجيئنا إلى هذه الأرض المربعة، كما كان يدعي مدرس الجغرافيا، زادت من نشر الخوف في دمائي. في ذلك اليوم البعيد، حيث كان مدرس الجغرافيا يقول لنا إن الأرض مربعة. استغربت حين علمت أنه لا يمزح. ما أعلمه هو أن كل الناس آمنوا أن الأرض كروية. تملكني خوف حقيقي من أن تصبح الأرض مربعة، إلى أين سأهرب حينئذ؟! كمن لم يؤمن رفعتُ يدي. صرخ فيّ المعلم وطلب مني أن أسمع وأتعلم كغيري، لا أن أعيد له الأساطير القادمة من البلاد البعيدة. وكي لا يصير والدي خائناً، وكي لا تحمرّ يداي وقدماي من أثر العصي، فقد بلعْتُ ريقي في صمت. حينها تسلقت كلمات جدتي كغيمة عجوز سماءَ ذاكرتي.

– كانت السماء في ذلك اليوم تمطر وحلاً، تبعثر الناس بسرعة إلى سقوف بيوتهم يحتمون بها من الوحل المتساقط بدل المطر، ينظرون بحَيْرَةٍ إلى السماء الهائجة. تُرى، ماذا سيصيب العالم لو أن السماء أمطرت كل يوم مثل هذا الوحل؟!

في الوقت الذي كان الظلام الطيني يسيل مع حلول الليل، كانت فرائص العجوز حسينة ترتعد خوفاً. حسينة المرمية في غرفة ضيقة من أحد زوايا وطن منسي. الأب غائب عن البيت، والأم في حال ولادة في هذه الليلة الظلماء والطينية، ثم أنجبت فأراً. أقسمت حسينة أغلظ الأَيْمان أن ما نزل من بين فخذي رَوْشي في تلك الليلة لم يكن طفلاً، بل كان فأراً. صفق بجناحيه بدل يديه، وكأنه يحتضر. ولأن الناس كانوا مشغولين بتساقط الوحل، فإنهم لم يأبهوا بالمصيبة التي حلت في هذه الغرفة الصغيرة. ولا أحد يعلم كيف طوى النسيان تلك الحادثة، وأخذ الفأر شيئاً فشيئاً يأخذ هيئة طفل مُتَكَوِّم على نفسه كقبضة يد مغلقة. هذا الطفل لم يبكِ، كما يفعل كل الأطفال الذين يخافون من نور هذا العالم الغريب ويصرخون باكين. لقد تطلع حوله بعيني الكبار. لم يخطر في بال العجوز حسينة أنه سيقضي بقية عمره –بدل هذه اللحظة – في بكاء طويل مرير. لم تفارق ذاكرة العجوز حسينة قط ذلك الكسر في وسط أحد عوارض السقف الخشبية في لحظة الولادة، وكأن مجيء هذا الفأر إلى الحياة سبب كسر العارضة الخشبية، العارضة التي كادت أن تكون سبباً في هدم المنـزل كله. مازالت خائفة من هذا الفأر البشري. ها هو يكبر، يصرخ، يقول لا، ينجو من الحرائق، يشعل الحرائق، يحترق ويهرب، يغضب، يبول واقفاً على حيطان البيوت حائطاً، حائطاً.

هذا الفأر الجهنمي، الفأر المنحوس والذي عُرِف مؤخراً باسم موسى، هو أنا.

موسى الذي يتقلب وسط جحيم مربع؛ جحيم سُيِّج بدول يعد فيها القتل أبسط الأعمال.

كثيراً ما كنت أسأل نفسي، تُرى، هل تراءى لجدتي أنني فأر أم أنني حقيقة فأر؟! لكني فأر عنيد، معارض دوماً لقطط رجال الشم؟ كل الناس تحكي عن ذاك الرجل القامشلوكي وقصته مع البرق. ضربه البرق في العراء، شقه إلى نصفين، لم ينـزف نقطة دم واحدة. بقي مرمياً هناك دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه. والذي أدهشهم هو تحوله إلى عمود من دخان ارتفع ببطء نحو السماء. وكثرت فيه الأقاويل؛ بعض يقول هذا جزاء تارك الصلاة الذي لا يخاف الله، أخذه الله تعالى إليه ليحاسبه وليكون عبرة لغيره. وبعض يقول إنه ولي من أولياء الله، وقد صعدت روحه إلى السماء على شكل عمود متطاول من رائحة إلهية كالمسك والعنبر آخذة شكل دخان. وكغيري، كنت أنا أيضاً خائفاً من لعنة الشتاء.

كان جدي قد زرع في نفسي حب الربيع، خاصة بعد أن كشف لي أحد أسرار الطبيعة.

كان يقول، هناك الكثير من الورود تتكلم كالبشر. عندما تحب الوردة شاباً، في البدء تحادثه، ثم تتحول إلى فتاة جميلة. وحين تحقق غايتها تنفتح شيئاً فشيئاً وينمو في قلبها حب خالد. منذ ذلك اليوم وأنا أخرج وحيداً، بعيداً عن أنظار سمكو وقادو، إلى البرية باحثاً حيناً عن وردتي العاشقة، وحيناً عن وردتنا تلك التي كانت محور حديث جدي ورواها لي قبل هذا الانكسار الأخير الذي أوصله إلى حالته هذه؛ يحدق في الجدار باحثاً عن سلّم من نور يصعد إلى السماوات أو يهبط. لابد وأنه في بحثه الطويل ذاك قد صادف مثل هذه الوردة، لذا يقول إنه خاطر واجتاز حدود دول وجيوشاً، جبالاً وسهولاً وأودية خطرة من الصعب أن يخرج المرء منها حياً. دون شك، فإن وردتي هي ليلى بنة حَسَنو، وليلى نفسُها هي الوردة. لا أعلم ل ِمَ يأخذ وجهها مكاناً له في وسط الوردة دوماً! هل ستتحول الوردة يوماً إلى ليلى، أم أن ليلى ستتحول إلى وردة وسأقطفها؟ لا أعرف كيف تسللت تلك المشاعر العذبة إلى داخلي.

أخاف أن ينبت ذيل مكان البثرة في مؤخرتي.

أحياناً أشعر أن شيئاً ما استطال من خلفي، وحين أمد يدي أقبض على الفراغ. معظم الأحيان أجد نفسي وكأنني في حديقة حيوانات كبيرة، وكل شخص مشروعُ تحوّلٍ إلى حيوان، حيوان غير مكتمل. يشبه الحيوان، أو أنه يبدو أمام ناظري حيواناً يمكن أن يلحق الضرر بالجميع. كيف سأرمي هذه الخيالات السيئة من رأسي؟ لم أعد أعرف إن كان خيالاً أ م أنه حقيقة أعيشها ولا أرغب تصديقها.

آه، إن الوجع ينبعث من مكان البثرة، وأنا خائف.

كيف ستعشقني ليلى إذا ما كان لي ذيل طويل؟!

الآن، حياة جديدة تطرق بابي. يسحبني والدي بالقوة إلى عالم الكبار، لأتعلم منهم. ولولا أنني سألتقي والد حبيبتي، هذه الحبيبة التي تسكن خيالي ليل نهار دون أن تعلم، لكانت رغبتي فاترة في قبول طلبه في أن أعمل في دكانه الذي اشتراه حديثاً شراكة مع حسنو. وكان هذا سبباً أساسياً لأن أبدي موافقتي على طلب والدي. مع أنني لا أحب هذه السوق، ولا هذه الضجة اليومية، إلا أنه علي أن أساعد والدي وشريكه حَسَنو في الدكان قبل بدء دوامي في المدرسة وبعد العودة منها. سكان مدينتنا يطلقون على هذه السوق اسم «سوق الحرامية»، والكل يرتادونها دون انقطاع. كان والدي يشير إلى السوق ويقول:

– هذا قلب المدينة…

كنت أقول في سري، ما هذه المدينة التي يمتلئ قلبها باللصوص والنشالين وبالرجال الذي يقسمون بأغلظ الأَيْمان من أجل قليل من النقود! علي ألا أشغل رأسي الصغير بهذه الأفكار والهموم الكبيرة. كل ما يهمني هو أن دخولي السوق بصحبة والدي سيمكنني من الإمساك برأس الخيط الذي سيوصلني إلى ليلى، ليلى هذه القادمة من بعيد، رؤيتها البديعة يبعث النار في قبور أجداد أجدادي.

خطرَ لي الآن أن أعود إلى قراءة عدة صفحات من مخطوطة «تاريخ الخوف» اليتيمة، لأروي لكم بعدها قصتي مع الرجل الملثم. كان من ساكني القبور. كان يتبعني دوماً بعينيه الصفراوين. من عينيه الغائرتين تحت جبينه كان يبدو أن وجهه جاف، قبيح، وذو تجاعيد. أحياناً، كانت تنبعث شرارات من عينيه الصفراوين الغامقتين. تحمرّ عيناه ويرسل باتجاهي ضوءاً عجيباً. أحياناً كنت أحاول الالتفاف عليه وإزالة اللثام عن وجهه ورأسه، ولكنني لم أنجح، ومع ذلك لم أفقد الأمل. علي أن أعرفه. ربما يعرف أحدنا الآخَرَ جيداً. يبدو أن حكايتي مع ذاك الرجل ذي العينين الصفراوين طويلة وشائكة. ولا أدري إلى أين ستأخذني وإياكم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى