عبد القادر وساط - عن قاضي القضاة و هلال العيد

حدثنا أبو الفضل النجداني عن الشيخ سحبان بن قيس الأوسي ، قال:
كنتُ يوما مع جماعة من أصحابنا في دار وزير الشمس و القمر ، الشيخ المغيرة بن حامد العقيلي ، الملقب بواسطة العقد ، و ذلك لليلة بقيَتْ من شهر رمضان ، فجرى الحديث حول الهلال و كيف وصفه الشعراء على مر العصور، و كيف جاؤوا بالأبيات العجيبة والتشبيهات الغريبة ، فمنهم منْ شَبّهَه بالمنْجَل ، كما في قول الطغرائي :
هذا هلالُ الشهر قدْ جاءنا = بمنْجَلٍ يَحْصدُ شهْرَ الصيامْ
و منهم من رأى فيه نصْفَ سوار، كما فعل تميم بن المعز لدين الله الفاطمي، حين قال :
و انجلى الغيمُ عنْ هلالٍ تَبَدّى = في يَد الأفق مثلَ نصْف سوارِ
و منهم من رأى فيه نُونا من فضة ، كما في قول السري الرفاء :
و كأنَّ الهلالَ نُونُ لُجَيْنٍ = غَرقَتْ في صحيفة زرقاء
غير أن الحاضرين أجمعوا على أن أجمل بيت في وصف الهلال هو قول ابن المعتز :
انظرْ إليه كزورقٍ منْ فضّة = قد أثقَلتْهُ حُمُولة منْ عَنْبَرِ
قال الشيخ سحبان بن قيس :
فبينما نحن في ذلك الحديث ، إذ سمعنا طرقا على الباب ، ثم دخل علينا الشيخ الفقيه العالم الأوحد ، قاضي قضاة نجدان ، أبو مروان أحمد بن الحسن القلعي ، فسلم و توجه بالكلام إلى وزير الشمس و القمر ، يعْلمه أن رؤية الهلال لم تثبت في سماء نجدان ، و أن عيد الفطر لن يكون غدا و إنما بعد غد، بنعمة الله المنان .
إثر ذلك توجه كل من الوزير و قاضي القضاة على عجل إلى قصر الطاغية ليخبراه بالأمر ، فلما دخلا عليه و قاما بالانحناء أمامه ثلاث مرات ، وفق ما تقتضيه تحية الطغاة ، بادرهما المستبد بقوله:
- رحم الله القاضي الفاضل ، فأنا أتذكره دائما في مثل هذا اليوم .
فانقبض صدر الشيخ المغيرة ، وزير الشمس و القمر ، بعد أن أدركَ مغزى كلام المستبد بالله . ثم إنه سكتَ قليلا قبل أن يخاطبه بقوله :
- حفظ الله سيدَنا الهمام . هذا قاضي القضاة جاء مبشرا برؤية الهلال و بحلول عيد الفطر غدا بحول الله ، فهنيئا لك العيد الذي أنتَ عيده، يا مولانا المستبد ، و أدام الله عليك فرحة الأعياد، و نعمة الطغيان و الاستبداد .
فحرك الطاغية رأسه دون أن ينطق بكلمة ، ثم أشار لهما بالانصراف ، فلما صارا بمبعدة عن القصر ، قال قاضي القضاة لوزير الشمس و القمر :
- ما حملك على ما فعلت ، أيها الشيخ الوزير ؟ كيف هنأتَ الطاغية بالعيد ، مع أنه لم تثبتْ لدينا رؤية الهلال ؟
قال الشيخ الوزير :
- لقد كان واضحا ، من العبارة التي نطقَ بها في البداية ، أنه يريد العيدَ غداً. و إنما كان يشير بعبارته تلك إلى قصيدة مشهورة للقاضي الفاضل ، وزير صلاح الدين الأيوبي ، رحمه الله ، يصف فيها سروره بذهاب شهر الصوم . و هي القصيدة التي يبدأها بقوله ( قضى نَحْبَهُ الصومُ بعد المطال / و أطلقَ منْ قيد فتر الهلال) .
فوضع قاضي القضاة يده اليمنى على كتف صديقه الوزير و قال له :
- لا حول و لا قوة إلا بالله . أذكرُ جيدا تلك القصيدة ، و أذكر من أبياتها قول القاضي الفاضل رحمه الله :
أغالطُ بالكأس حكمَ الزمان = فيومٌ عليّ و يومٌ بها لي
و قوله ، في وصف العاشق السكران ، بعد انقضاء شهر رمضان
فَسُكْرُ الشراب و سُكْر الشباب = و سُكْرُ الصدود و سُكْرُ الوصال
ثم إن قاضي القضاة عاد يسأل الوزير عما ينبغي القيام به ، بعد أن كان الذي كان ، فأجابه وزير الشمس و القمر :
- ستعلن يا قاضي القضاة عن رؤية الهلال في حاضرة نجدان و سيكون العيد غدا بمشيئة الخالق تعالى و برغبة مولانا الهمام ، المستبد بالله ، طاغية نجدان .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى