صفاء ذياب - أعواد عرجاء..

كان سفيان الثوري يقول:‏‏ ما رأيتُ الزهد في شيء أقلَّ منه في الرئاسة، ترى الرجلَ يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة تمسّك بها وعادى الناس.‏‏ حدّث عطاء بن مسلم قال:‏ لما تولّى المهدي الخلافة بعث إلى سفيان الثوري. فلما دخل عليه، خلع المهدي خاتمه فرمى به إليه وقال:‏ يا أبا عبد الله! هذا خاتمي، فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسُّنة.‏ ‏ فردّ سفيان الخاتم وقال:‏‏ تأذن في الكلام يا أمير المؤمنين؟‏‏ قال: نعم.‏‏ قال: لا تبعث إليّ حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك.‏‏ فغضب المهديّ غضباً شديداً وصرفه. فلما خرج سفيان حفَّ به أصحابه فقالوا:‏‏ ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسُّنة؟‏‏ قال:‏‏ إني لا أخاف إهانة الأمراء لي، وإنما أخاف إكرامهم لي حتى لا أرى سيئاتهم سيئات. ولم أَرَ للعلماء والسلاطين مثلاً إلا مثلاً ضُرِب على لسان الثعلب، قال: عرفتُ نيفا وسبعين حيلة للتخلص من الكلب، ليس منها حيلة أفضل من أن لا أرى الكلب ولا يراني!
حينما يروي الذهبي هذه الحكاية في كتابه "سير أعلام النبلاء"، كان يحاول أن يتحدث عن سيرتين في آن واحد، الأولى سيرة سفيان الثوري، الذي كان إمام عصره حتى وفاته في العام 161 هـ، وثالث الخلفاء العباسيين المهدي بالله الذي توفي في العام 158 ه. هذا الحديث دمج به الذهبي بين عالمين مختلفين: الدين والسياسة، وهو بذلك يبحر في أهم مقومات الدولة الإسلامية التي أسست على الدين من ثمَّ دخلت السياسة بين جبتها لتذهب بعيداً حيث الدولة الحديثة التي تداخلت فيها أكثر من بنية دينية وفكرية وحتى أدبية.
هذا التداخل شتت هذه البنى جميعاً، فتدّخل السياسة بمفاصل المجتمع يجعلها على شفا سقوط محتمل في أية لحظة ممكنة، ومن ثمَّ ستنهار البنى الأخرى واحدة تلو الأخرى، وهو ما رفضه الثوري، في سعيه للمحافظة على شكل رجل الدين وإبقائه بعيداً عن تدخل السياسي به.. وفي الوقت نفسه يحاول أن يعطي درساً للسياسي بأن ما يهبوه لرجل الدين يمكن أن يحرق الاثنين معاً بدلاً من سيرهما في طريق واحد، متوازيين، لا أحد يبعد الآخر عن مكانه الصحيح.
ربما هذه الفكرة لم تعد صحيحة في العصر الحديث، فالمؤسسات يجب أن تعمل معاً من أجل الوصول إلى غاية واحدة، وهي بناء مجتمع متكامل، غير ان سياساتنا العربية عموماً، والعراقية على وجه الخصوص تمسخ كل ما يقترب إليها، وتحوله لفزاعة تبعد بها المخاوف التي تحيط بها أولاً، ومن ثمَّ تكون هذه المؤسسات؛ الدينية والثقافية والاجتماعية وغيرها، مجبرة على تلبية أهواء السياسيين ومطالبهم التي لا تصبّ إلا في خدمتهم بشكل أو بآخر.
الرؤساء كُثر، لكن الآخرين قلائل، أقصد سفيان الثوري. ولا أقصد من يجتمعون مع تسلم كل رئيس جديد ووزير جديد كأعواد مربوطة يطرقون الأبواب من أجل مطالب كان على السياسي أن يأتي إليهم، يطرق أبوابهم وينفذها من أن يكون لديه أية شروط.



* نقلا لكل فائدة عن صحيفة الزمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى