براين ديتمير - إلغاء الحدود بين الرسم والنحت.. ت: زياد جسام

الخامة هي اساس العمل الفني التي يصنع بها الفنان أفكاره ويبني عليها عمله، وبها يتضح إتجاهه الفني المطروح. خامات ليست بجديدة، موجودة امام اعيننا منذ سنين لكن رأيناها من خلال هذا الفنان كأنها خلقت اليوم.
الكتب القديمة.. هي الخامة التي اشتغل عليها الفنان الاميركي براين ديتمير، ليحولها الى اعمال نحتية تحمل افكاراً الفها وخرج بها عن المألوف وعن ظروف الزمان و المكان فأصبحت نتاجات يمكننا ان نصفها بالسهل الممتنع، ومن خلالها ادركنا ايضاً أن النحت لم يعد محكوما بخامات الكرانيت او الحجر والمعدن او ما شابه ذلك، فقد تغيرت المفاهيم الجمالية والبصرية مع تغير العصر لدى الفنان والمتلقي معاً.
مغزى الفن

تحفزنا أعمال الفنان الاميركي براين ديتمير، على التساؤل عن مغزى الفن الحقيقي وبكل جوانبه التعبيرية والمعرفية، اذ تميزت فيها الرؤية الفنية عن الرؤية التقليدية التي تعودنا عليها عن طريق الحواس، وهذا النوع من الإبداع الفني وحده يستطيع ترجمة الرؤية المختلفة وايصالها إلى المتلقي.
المادة أو الخامة هي موضوع بحثه الاساسية اذ اتجه في ابداعاته إلى الكتب واحالها الى منحوتات تعبيرية، وركز على دراسة خصائص وإمكانيات الخامة ووصل بها إلى فهم اكبر، ساعده على تطويعها لفكرته وجعلها أكثر قوة في التعبير كما امتازت اعمال الفنان ديتمير بخصوبة الرؤية وحرية التعبير والاعتماد على معايير جمالية وابداعية معاصرة في التشكيل لانها تحمل لمسة شخصية في الخامة واختيار الموضوع، وهو بذلك يتعمق بإبداعاته فى عوالم عدة من تعبيرية الى تجريدية، يلتقط من الواقع كخبير في اختراق المجهول، ما فتح له مجالا اوسع، وامكانيات أكبر وبدائل تمكنه من التعبير بحرية تامة، وبما يتفق مع رغبته واتجاهه الفني الواسع.

ثورة الابداع

هكذا قادتني أعماله للوهلة الأولى، فهو نقل لنا عالماً تعبيرياً برؤية بصرية حديثة لها ابعاد تبنى على اشكال اسطورية تتشابك داخل اعماقها، استطاع من خلالها ان يجبر المشاهد على النظر الى تلك التقنية التي بالغ بها حيث الوصول الى قمة معاني التعبير الشكلي.
الطرح الجمالي لـهذا الفنان لا يعد جديدا على مستوى التشكيل العالمي، فالعالم اليوم يواجه ثورة كبيرة في الابداع والتقنيات على جميع الاصعدة، لكن لا ننكر بأن رؤية الفنان ديتمير متسلسلة بالمقارنة مع تجارب اخرى ثرية، وهو يعد من الفنانين الشباب المعاصرين، وان حسه البصري جعله ينتج بغزارة، ولاعماله طابعا مميزا في جميع الاوساط التشكيلية في العالم.
لا شك ان التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي تتيح للفنان التمرد على الأنماط الفنية السائدة، باتاحة الفرصة لحلول متعددة.
يبدو ان البحث هو الوسيلة التي اوصلت اعمال هذا الفنان إلى الغاء الحدود بين الرسم والنحت مع انه يحمل خصوصيته الذاتية، وأنه اسس لنفسه كياناً ومنطقاً خاصاً به، فأصبحت مادته البنائية مستعارة من مواد موجودة ومستهلكة من الحياة اليومية ( الكتب).

تداخل المدارس

المدارس المعاصرة متداخلة تداخلاً واضحاً في طرق العمل، وفي التبسيط والتجريب بالخامات المختلفة الحديثة، فمنذ مطلع قرننا هذا أصبح من العسير للمختصين في النقد او المثقفين، تمييز إتجاهات الفنانين بأعمالهم، خاصة وأن الفنان قد يبدأ بمدرسة ثم يغادرها الى اتجاه آخر من دون ان يعلم احياناً.
بما أن المشغول الفني هو شكل من أشكال العمل الفني، اذن مجال الفن هو مجال قائم على التعبير بالخامات، كل ذلك دافع للبحث عن وجود خامة وتوليفة تستغل في تلك الفنون لما بعد الحداثة ومحاولة الاستفادة منها لتقديم مشاهدة جديدة للقطعة الفنية التي حاول البعض على تصورها على أنها نوع من الحرفة.
لبصيرة هذا الفنان رؤية اخرى قد يكون من خلالها متفرداً في طرحه البنائي اذ صار ينحت بشفافية ومرونة غريبة اعطت لاعماله طابعاً مميزا في مجال النحت و بدت كتله النحتية المسطحة كأنها قطعة هندسية تتحرك في انسيابية عالية، ربما يصنع عبرها روحا لشخوصه ورمزه المكتظ داخل مشغله .
كما يبدو لي بأنه اشتغل على فلسفة خاصة في تأويل اعماله اذ يؤكد بانه لا يتخلى عن الحس الانساني والبصري الجمالي في نتاجاته الابداعية منذ بداياته الفنية.

تطويع المادة

يمزج بين الاصالة والحداثة مختزلاً جميع الملامح الدقيقة للاشكال ويحول اشكاله الى نوتات موسيقية او ابتكارات ينحني لها المتلقي، اذا يحفر ويضيف ويتعامل مع هذه الكتب ويطوعها كيفما يشاء.
اسلوبه النحتي يندرج في قائمة جماليات الحس البصري ذات الشحنات التعبيرية، تمثلت بحالات من الاحاسيس والانفعال اعماله تستوقف الجميع وهي ليست بحاجة الى الاعلان المسبق، لها معان ودلالات كثيرة وهي في حركة ديناميكية تنطلق نحو الاعلى لتحاكي كل ما هو مثالي.
الشكل كلمة نستعملها كثيراً إرتبطت طوال تاريخ الفن بقضايا فكرية متنوعة، واندرجت تحت تعاريف شديدة التعقيد، وفق الاتجاهات والمدارس الفنية الكثيرة، وربما سبب ذلك لان الشكل والخامة لفظان مترابطان، ويكمل كلاهما وجود الآخر، فالخامة دائماً من خلال العمل تحمل شكلاً ما.
هذا التداخل بين طبيعة الخامة، يسهم في تحديد الشكل للعمل الفني واجبرنا على البحث عن وسائل وطرق تحقيق هذا الشكل، لان استخدام أي مادة يخلق بالضرورة وسائل معينة من حيث معاملتها عند التنفيذ، ويجب على الفنان أن يكون على دراية بالتقنية التي يريد أن يتعامل معها، وخاصة الخامات الحديثة منها، كما عند الفنان الأميركي ديتمر والتي يمكن أن تحدث تأثيرات غير متوقعة او مقصودة تؤدي الى تغيير مسار النشاط الابداعى لديه، ما يجعله جاهزاً للاستفادة من عنصر الصدفة الذي صادفه خلال ممارسته للعملية الإبداعية، وعثر على هذه المادة لينتج من خلالها ابداعاً مميزاً، وهذا مؤكد سيدفعه للاكتشاف من خلال مرونته، ويدفع بفكرته الى افضل صورة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى