نعيمة البخاري - المدلول الشعري في السيميائيات الدلائلية

تأتي دراسة جوليا كريستيفا Julia kristeva للمدلول الشعري في إطار أنه يحيل على مدلولات خطابية مغايرة، حيث إننا يمكن أن نقرأ خطابات متعددة داخل الملفوظ الشعري، بشكل يجعلنا نخلق فضاء نصيا متعددا حول المدلول الشعري. وإذا ما أخذنا الملفوظ الشعري داخل هذا التعدد أو التداخل، سيشكل مجموعة صغرى لمجموعة أكبر هي فضاء النصوص الموجودة في محيطنا الثقافي.
هذا ما يضفي على المدلول الشعري طابعا تعدديا، فهو مجال للتقاطع، ولعلاقات متبادلة. وهذا التقاطع بين عدة خطابات داخل النص في اللغة الشعرية، قد أشار إليه دوسسير De Saussure في “الجناسات" التي تساهم في بناء خاصية أساسية لاشتغال اللغة الشعرية، يعني امتصاص نصوص متعددة داخل الرسالة الشعرية التي تقدم نفسها من جهة أخرى باعتبارها موجهة من طرف معنى معين. ومن الواضح أنه لا يمكن اعتبار المدلول الشعري نابعا من سنن محدد إنما هو تقاطع لعدة شفرات تجد نفسها في علاقات متبادلة.
يسمح السيميائي بهذه التحولات داخل الممارسة النظرية ، بخرقه للنظري، وهذا ما تسميه جوليا كريستيفا بالإبداع. يبدو هذا الفيض السيميائي في اللغة الشعرية حيث تعاد نمذجة النظام الرمزي. إن اللغة كممارسة اجتماعية تستدعي صيغتي السيميائي والرمزي، التي تتركب لأجل تكوين أنماط للخطاب. فالخطاب العلمي يميل إلى اختزال السيميائي، بما أنه يستلهم الميتالغة.
ترى جوليا كريستيفا أنه عند امتلاك اللغة وممارستها عند البالغ يتمركز التلفظ على اعتباره يمثل تكونا للوحدة الذاتية من جهة، يعني انفصال الأنا عن جسد الأم ومرحلة المرآة، ووضعية الآخر كموضوع ومرسل إليه، وإدماج للسيرورات الغريزية السيميائية من جهة أخرى. فالإسناد أو التلفظ، يظهر كممارسة تناقضية، وهذا التناقض يوجد مع التناقض الذي يمثل الذات المتكلمة انطلاقا من الجسد. فالجسد هو نفسه يصبح حمولة توليدية متحركة، واستبدالا اجتماعيا، وموقعا للتغييرات الطبيعية والاجتماعية، بما أن الحمولة التوليدية هي تشكل تمفصلا سيميائيا لإجراء الذات، ومنطقا توزيعيا، يتجاوز الجسد داخل الفضاء الاجتماعي، ليخلق ذلك التحول في المواضيع وفي العلاقات بالآباء وبكل الشريحة الاجتماعية.

ومن هنا تأتي محاولة جوليا كريستيفا لإيجاد نظرية تحليلية حول الأنساق الدالة، يبقى خطابها يقظا مع أنماط المعنى والذات والبنية، نظرا لكون الأزمات تكون ملازمة للوظيفة الدالة، وبالتالي للفعل الاجتماعي من جهة، والفاعلية السياسية للقرن العشرين، التي تمثلها هذه الظواهر التي تبرز عبر اللغة الشعرية، وتتخذ أشكالا متعددة من حضارة لأخرى من جهة أخرى. فاللغة الشعرية تحرك وضعية المدلول والذات، وتطرح الجهاز الدال، كسيرورة خاصة وكإجراء بين المعنى واللامعنى، بين اللسان والإيقاع، يعني بين الرمزي والسيميائي.
تظهر اللغة الشعرية بشكل مغاير لما يمكن أن نستشفها انطلاقا من أفق فينومينولجي. وتوظف الوظيفة النظرية للفعل الدال عند هوسرل، خلافا لما هي عليه. إذن تطرح جوليا كريستيفا وجود تنافر للمعنى وللدلالة، وهذا التنافر يشتغل عبرها،نجده أولا في لغو الأطفال كإيقاع ونبر يستغل لمصلحة الذات المتكلمة، لكي تتأسس وتنتج كذلك داخل اللغة الشعرية الآثار الموسيقية، واللامعنى الذي لا يدمر فقط المعتقدات والدلالات المحركة، وإنما كذلك التجارب الفاعلة، بل التركيب نفسه الذي يضمن الوعي النظري للموضوع وللذات. يبدو مصطلح المتنافر كمبدإ منظم يخضع لإرغامات ولقوانين تركيبية. ويبرز هنا دور الحمولة التوليدية السيميائية، لتعبر عن السيميائي كصيغة قابلة للتمفصل، كغير مؤكد ولا محدد، بما أنه لا يحيل على موضوع. هذا المصطلح المتنافر، يظهر داخل الممارسة الدالة كأمر طبيعي، وتختص اللغة الشعرية بذلك، على اعتبارها خطابا قابلا للتواصل اجتماعيا. كذلك هذا التنافر السيميائي، كما تطرحه النظرية لا يمكن أن نفصله عن الوظيفة الرمزية للدلائلية.
«إن مثل هذه الصعوبات والمقاومة، التي تشكل عقبة أمام المرحلة النظرية لإجراء الدلالة، حين لا تستطيع أن تمنع تكون الرمزي، تعود في وضعيته وعبرها، ليس فقط لأجل أن تمركز الاستيهامات إنما لتحاول فك الرقابة الأولى ذات الطابع الاجتماعي: العارضة بين الدال والمدلول، وفي نفس الوقت الضمانة الأولى لوضعية الذات، يعني الدلالة والمعنى ذاتيا (الجملة وتركيبها)»( ). يقوم هذا الاشتغال السيميائي بالتالي، لتقدم لنا اللحظة النظرية، المعنى التاريخي. وتظهر اللغة الشعرية هنا، كممارسة خاصة، بممارستها الإجرائية لعمليات دلالية، حين لا تعمل على تدمير وحدة المعنى والذات المتكلمة، وبالتالي التعالي. وهنا يبدو طرح هوسرل صحيحا حين يفترض بأن كل فعل دال بقدر ما يبقى فعلا قابلا للتوضيح بالمعرفة، فهو يتماسك بالذات المتعالية.
تمثل الذات المتعالية، ذات الوعي الفاعل، مما يدل على أنها تتشكل داخل العملية الإسنادية، التي تسمى المرحلة النظرية، لأنها تطرح فرضية الوجود والذات في نفس الوقت. هكذا فالشيء المدلل المتعالي، والذات المتعالية، تمنح من قبل المرحلة النظرية، التي تمثل الإسناد أو الحكم. ويبين هوسرل أن كل فعل لساني، بما أنه يمثل المدلول داخل مرحلة ما، فهو يساند من قبل الذات المتعالية. ولا يتناول هوسرل هنا فقط اللسانيات الحديثة المهتمة بالذات، ذات التلفظ، وإنما يتطرق لكل العلوم الإنسانية التي تفهم كظاهرة دالة، قابلة لأن تنظم. وبما أن اللغة الشعرية تشتغل على المعنى وتحاول إيصاله، فهي تتقاسم خاصيات العمليات الدالة، التي يبينها هوسرل، كفرضية الموضوع والذات، والذات المتعالية. هكذا فالوظيفة النظرية للفعل الدال، كما تحدث عنها هوسرل، تسترجع هنا مع التحليل الدلائلي، لكن بشكل مغاير. إذا كانت اللغة الشعرية تخلخل وضعية المدلول والذات المتعالية، فهي تطرح فرضية جهاز دال، بدلا من فرضية الوجود والمعنى: هذا يعني أنها تطرح سيرورة إجراء ملتبس بين المعنى واللامعنى، بين اللغة والإيقاع، بين الرمزي والسيميائي. وتفترض اللغة كممارسة اجتماعية هاتين الصيغتين، التي تتركب بطريقة مختلفة لأجل أن تكون أنماطا من الممارسات الدالة، والاقتصاد الدال للغة الشعرية يتميز بكون السيميائي ليس فقط إرغامة، مثلما هو الرمزي، إنما يميل إلى أن يكون أكثر من ذلك، كإرغامة أساسية على حساب الإرغامات النظرية الإسنادية للوعي الحاكم للذات.
«إن البحث عن الشروط الحقيقية لإنتاج مثل هذه النظرية لا يعني الكشف عن حقائقها مثلها هي، إنما تحليلها، وتفكيكها. يبين ذلك التوالد الجدلي، لما يتمثل كـ«حقيقة». إن مثل هذا التناول نابع، من كوننا نطرح نظرية كفضاء متنافر، يشكل اقتصاد ذاتها، وكذلك الأساس الاقتصادي ـ الاجتماعي، جزءا منها، حيث تعرض ممارستها»( ).
هكذا، لنعرف اشتغال اللغة الشعرية هنا، يجب أن نتخلى عن حدود الملاحظة اللسانية. ونعتمد على تجربة الذات المتكلمة كقتل للذات المتعالية، التي تشكل أساسا لموضوع اللغة. وهذه الذات لكي تتلاءم مع تنافرها يجب أن تشتغل كإجراء. وتسمح لنا نظرية اللاوعي عند فرويد بالتفكير في مثل هذه الذات، مع تطورها مع لاكان، الذي سمح بإقامة بعض التصنيفات أو البنيات التي نجد داخلها نفس التفكير الفينومنولجي داخل الوعي الفاعل للذات المتعالية، وهو ما يشغل الوظيفة الدالة. يمكن أن نقول إن هدف هذه الممارسة سيكون هو طرح موسيقي وإيقاعي، عبر دلالة الرسالة. طبعا هذا ما يفرض على القارئ تفجير وعيه الحاكم، لكي يوجه داخله هذه الغريزة المنظمة من قبل الكبت.
تفترض جوليا كريستيفا أن التجارب التي وصلت إليها اللغة الشعرية في العصر الحديث، تبين أن الانشطار السوسوري دال/مدلول، يكون حتميا، إنما يحتاج إلى التماسك بانشطار آخر، يكون أكثر فاعلية، بين الجسد الغرائزي، المسمطق. ويمثل التناقض بين صيغتي السيميائي والرمزي، الذي يشهد عليه هذا الانشطار، ما يشكل انفجار للغة الشعرية ولدلالتها، فهذا «التمييز هو من جهة المعنى الغريزي الانفعالي المنظم بحسب السيرورات الأولية التي تكون موجهاتها الإحساسية دائما مختلفة عن اللغة، من الانسجام، والإيقاع، غير ذلك، هو ما أسميه السيميائي، ومن جهة أخرى الدلالة اللسانية، التي تتحقق داخل العلامات اللسانية وتنظيمها التركيبي ـ المنطقي. وهذا المستوى يتميز على المستوى السيميائي، ويتطلب شروطا بيولجية ونفسية إضافية لكي يشتغل»( ). لكن يبدو أن هذه النظرية التي تهدف إلى تحقيقها جوليا كريستيفا، تظهر فيها اللغة الموضوع، بشكل يختلف عما يمكن أن تبدو عليه انطلاقا من أفق فينومنولجي.
تظهر السيرورات السيميائية التي تدخل الغموض داخل اللغة الشعرية، من وجهة نظر تزامنية، كسمات غريزية اندفاعية (تملك/رفض ، حب/كره، حياة/موت إلخ)، ومن وجهة نظر تعاقبية ترجع إلى التقليد القديم للجسد السيميائي الذي يكون دالا، قبل التعرف على نفسه كمماثل في المرآة، ويكون مرتبطا بالأم. إذن تتشكل هنا اللغة كوظيفة رمزية، في مقابل الكبت والعلاقة المستمرة بالأم. وعلى العكس سوف تتماسك الذات كإجراء داخل اللغة الشعرية، بتفعيل هذا المكبوت، وحيث لا يمكن النظر إلى الكلمة كعلامة. وتؤكد جوليا كريستيفا على أنه لابد من المرور عبر المحرم، الذي يشكل العلامة، وذلك لكي نسجل أن هيمنة الإرغامة الدلالية على اللغة الشعرية، لا يمكن أن يؤول، إلا كإثارة للسيرورات الغريزية الخاصة بالبنيات الأولى، يعني تكون الجسد، والتماثل مع جسد الأم، وليس من باب الاهتمام بالعلامة والدال. كذلك، لكي تتضح العلاقة العميقة بين الأدب وقطيعة الاتفاق الاجتماعي، تظهر اللغة الشعرية مرتبطة بالألم، فالأدب والألم يجب أن يدرك كدفاع ذاتي للجسد الاجتماعي ضد الخطاب المحرم الذي يدمر ويولد للسان وللنزعة الاجتماعية. وهذا يعني أن الأدب هو تسامي، وإذا كانت جوليا كريستيفا تتوقف عند العلاقات الاجتماعية لهذا الفعل البنيوي ، يعني اللغة الشعرية ، فهي تقول إنه من الممكن أن نأخذ بعين الاعتبار علاقة الأدب ـ الابن، من وجهة نظر انثروبولجية للمجتمع. ونقبل بهذا المسار الذي يبحث عن الأصل الرمزي للمجتمع. و يبدو أن «الاجتماعي» و«الرمزي» يخضع للنظري، ولهذا لا نستطيع أن نتناول اللغة الشعرية دون أن نأخذ بعين الاعتبار هذه العلاقة القبل ـ رمزية والعبر ـ رمزية بالأم، التي تدمج الغموض داخل وحدة المتكلم وداخل الخطاب نفسه. وتشكل علاقة المتكلم بالأم عنصرا هاما حيث تدخل اللعب في بنية المعنى وكذلك داخل إجراء الذات والتاريخ. إذن ما تسميه جوليا كريستيفا "النظري"، هو ما بينه ليفي شتروس بنية القرابة واللغة كاتحاد رمزي. «انطلاقا من هنا، فما تتمكن الأنثروبولوجيا البنيوية من دراسته، سيكون هو إنتاجات نظرية (بالمعنى الهوسرلي): وضعيات تنظيمات، تركيبات، يعني العلاقات البنيوية. فالنظام الاجتماعي مثلما هو نظام اللسان، هو جهاز يمنح من طرف الرمزي، الذي يكون دائما نظري. ولن يغير شيئا من المسلمة الأساس، التي تكون حسبها العلاقات الاجتماعية رمزية، يعني نظرية، سواء تصورنا ذلك حسب اللسانيات البنيوية أو بحسب اللسانيات التوليدية»( ). ونتساءل مع جوليا كريستيفا هنا عن وضع السيميائي داخل التنظيم الرمزي، وعن قدرة التحريك السيميائية التي تؤسس اللغة والاجتماعي، وهل مسيرة الفكر الإنساني تتطلب معرفة كيف تفكك اكتمال الدال، النهائي، بإيجادنا له مدلولات مناسبة ؟ يظهر ان الأنثروبولوجيا نفترض ذلك، حين تتصور الثقافة كرمزية، ومبرمجة من قبل الرمزية، وموجهة للاتصال انطلاقا من الاقتحام الغير متواصل حين لحظة التعرف على اللغة، رغم أن ظهور اللغة يجب أن يعجل بتطور المعرفة. ويؤدي هذا التطور إلى ظهور اختلاف في تاريخ الفكر الإنساني بين الرمزية، التي تسمح بظهور اللاتماسك، وبين المعرفة المتسمة بالتماسك. وهذا يقود جوليا كريستيفا إلى استنتاج، يفيد أن الدال والمدلول يتشكل ككتلتين متكاملتين. فالدال يتوفر عليه الإنسان منذ اكتسابه الأول للغة، كما أن هذا الدال يحتاج إلى مدلول، يكون موجودا. و«هذا الدال العائم، هو إخضاع لكل فكر منته (بل هو ضمان لكل فن، ولكل شعر، ولكل خلق أسطوري وجمالي)، رغم كون المعرفة العلمية قادرة، على الأقل، على أن تنظمه جزئيا، إن لم تقطعه»( ).
فعلا، تمثل اللغة عند ليفي شتروس، حادثا نطقيا، جعل من الإنسان يقف أمام فيض من الدلالة كلما فكر في استجلاء هذا الغموض الذي يكتنف الكون. وهذا الدال العائم يضيف له ليفي شتروس، مهمة الخلق والإبداع. وبالتالي تبقى الانفعالات والتجارب ناقصة فكريا ما لم تدمج ذلك ثقافة الجماعة بتوضيع بعض الحالات الذاتية وصياغة بعض الانطباعات ودمج بعض التجارب الغامضة في النظام.
وعلى هذا الأساس، ستؤسس الأنثروبولوجيا أولا كلسانيات، تبحث على بنيات وعلاقات سابقة على فرض الرمزية. ثانيا إن الأجهزة الاجتماعية من بنيات القرابة إلى الأسطورة، تقوم على النظري، وتميل إلى تنظيم الدال المستنتج. ثالثا، لا يمكن النظر إلى أي شيء داخل النظام الرمزي، كرأي معاكس للقطيعة الرمزية. وهذا الاستنتاج نابع من كون الأنثروبولوجيا، ينظر لها كبحث في ميكانيزمات التواصل وأساليبه، ما دام المجال الإنساني لا يمكن أن يعتبر إلا عالما من التبليغات وكون من الرسائل، وبالتالي، سواء تعلق الأمر بالميتولجيا أو بالألسنية أو بالمجتمع، فالتحليل دائما يسعى للبحث عن الدلالة، مثلما أن المجتمع يعمل هو كذلك على التماس تقنيات التواصل بين أفراده على مستوى الخيرات والنساء. وهذا ما قاد شتروس إلى إدراك العقل بوصفه فعالية لا جوهرا، وبالتالي فالواقع لا يفرض، كما أن علامة الشعوب بأوضاعها ليست علاقة ميكانيكية.
من هذا المنظور، الأنثروبولوجي تلاحظ جوليا كريستيفا أن هناك نوعين من الأحداث الاجتماعية تشتغل عكس هذه اللحظة النظرية المؤسسة للرمزية. أولا نجد التضحية التي تؤسس الرمزي والنظام الرمزي في نفس الوقت، حيث أن الرمز يمثل ضحية جريمة معينة. وهذا الأخير يعمل على تمثيل العنف البنيوي باللغة كقتل للجسد وتحوله وإغراء للغريزة. وهكذا فهذا الفعل العنيف الممثل في التضحية، لا يشكل إلا اقتحاما للرمزي؛ كما أنه يمثل عرفا حيث يتأسس الرمزي والاجتماعي في آن واحد، ليتواجد هناك دال. وبالتالي تعتبر الجريمة نفسها كتحقق استيهامي وأسطوري للحظة المنطقية التي تلازم كل نظام اجتماعي. وتستنتج جوليا كريستيفا أن اختلاف أشكال التضحية لها عنصر يوحدها، ما دامت هي تكرار لكل بنية الرمز، وبالتالي فهي خزان للمادة اللغوية نفسها أو للمرجع، وتعاقد ولعب بالصور، وإقامة لاتحاد مثالي، ومدخل للموضوع اللذة.
بايجاز، تشكل التضحية سلطة للتغيير، للمجاز. وإذا كانت التضحية كذلك، فالطوطمية عند ليفي شتروس، على عكس ذلك، تكون نسقا للتأويل والتصنيف تبعا للأجهزة الاجتماعية، إنها التضحية تحتل البعد الآخر للرمزية، وتعيد إنتاج توالد النسق الموجود. ونصل إلى استنتاج، يرى أن التضحية تقترب من اللاوعي باعتباره شرطا غير مذكور في النسقية اللسانية. وهذا ما يفسر وجود التضحية في أول وآخر السنن الاجتماعي، حيث يمكن أن نعيد من خلالها إنتاج المكبوت. كذلك تؤكد هنا جوليا كريستيفا على أن المقدس ـ التضحية ـ يوجد مع كل مجتمع إنساني، وهو تقديس للنظري، الذي يكون ضروريا لموقف اللغة. ومن هذا الجانب يمكن اعتبار جريمة قتل الوالدين عند فرويد، هي في أصل كل تعاقد اجتماعي. ويمكن أن تدرك كأحد أشكال اللحظة النظرية، حيث يميل تأسيس الرمزي إلى تحريم اللذة.
يمكن النظر إلى التضحية تمثيلا للنظري في النطاق الذي يمكن اعتبارها شكلا من المنع الذي يؤسس النظام الرمزي. تؤكد جوليا كريستيفا أن هناك ممارسة تحيط بالتضحية، حيث يتأسس الاجتماعي والإنساني. إن الأمر يتعلق عندها بالتمثيل الذي يلي التضحية، وهو يشكل مختبرا للمسرح وللشعر...، يعني للفن. هذا الأخير يمثل فيض اللذة داخل اللغة، في حين أن التضحية تشير إلى هذا النظام.
إذن، تتدخل اللذة بحسب جوليا كريستيفا عبر النظام الاجتماعي الرمزي بمحاولة تغيير مفردات اللغة والتركيب والكلمات، لاستنتاج الغريزة من الاختلافات الصوتية والحركية. فالشعر يجد نفسه أمام التضحية لإدماج اللذة في النظام الاجتماعي، وتحصل هذه المواجهة حسب متطلبات استمرارية المجموعة الاجتماعية. ومن هنا يمكن اعتبار التضحية والفن مظهرين لوظيفة النظري، التي تتحقق عبر اللغة والبنية الاجتماعية. وتلاحظ جوليا كريستيفا أن ما تبحث عنه نظرية اللاوعي، تمارسه اللغة الشعرية داخل النظام الاجتماعي وضده. تشكل اللغة وسيلة للهدم وللثورة. هذا المنظورالسيميائي، يحمل في طياته تغييرا لوضعية السيميائي بما أنه يشتغل كملازم للرمزي. وبالتالي يجب أن يدرك الاشتغال السيميائي كجزء من ممارسة دالة تحتوي على المحفل الرمزي: إن الوصف السيميائي للنص لن يكتفي بتكوين نموذج مطابق لهذا الاشتغال، إنما يجب عليه أن يموقعه في علاقته مع الذات، ومع التلفظ ومع الإيديولوجيا. وتدرك جوليا كريستيفا الإيديولوجيا، بأنها «كل تركيب إدراكي يقوم من نظام الفكرة المنطقية، دون أن تقيم داخل هذا النظام "المعرفـة"، لأجل أن تقيم الإيديولوجيا، إنما نأخذ في الاعتبار أن الإيديولوجيا تكون متضمنة في كل تلفظ، وأن كل تمييز بين الإيديولوجيا "جيدة" و"رديئة" لا يمكنه أن ينشأ إلا من وضعية محددة داخل التناقضات الاجتماعية ـ الاقتصادية»( ).
إن مواجهة الشعر لعالم الخطاب بقوانينه، يجعله يمركز داخل النظام تراكما من المعاني، ويمكن التجربة الجدلية للذات من أن تشتغل داخل إجراء الدلائلية. إن الانطلاق من الاكتشاف الفرويدي وتطوره، سيمكن من إعطاء نفس للتجربة الشعرية، في نهاية القرن التاسع عشر، بنزع الغبار عن الجنسية. وهذا التحول في البحث، هو ما تدعو إليه جوليا كريستيفا لأجل بناء طور جديد من البحث لما أسمته الأدب ـ النص. ويمكن اعتبار الاكتشاف الفرويدي لنظرية اللاوعي منفذا يوفر الشروط الضرورية لتحقيق مثل هذه القراءة للغة الشعرية. إن الرهان المنطقي للشعر ما دام يمثل ممارسة للذات المتكلمة. ويفترض باعتباره كذلك، جدلا بين حد مدلل من جهة، ودال، والتنظيم الداخلي، فقط لإيقاع قبل ـ منطقي وغير ـ منطقي من جهة أخرى، يكمن في تحليل الإرغامة الاجتماعية للغة، الرقابة على هذا الاشتغال المعقد حيث تسجل جدلية الذات، أو ما نسميه اللغة الشعرية.
إن مصطلح الشعر لا يكتسب قيمته إلا باشتغاله انطلاقا من مفهوم اللغة والبنية الاجتماعية كحدين قابلين للهدم والتحويل. وهذا ما يجعل جوليا كريستيفا تعتبر الخطاب الشعري هو الخطاب التاريخي بامتياز، شرط أن نعطي له عقلنة جديدة. وهذا يعني أن لا نهرب أمام المفهوم الميتافيزيقي للتاريخ. كذلك، لا نقف عند الانغلاق الميكانيكي لهذا المصطلح داخل مشروع ينسى عنف التعاقد الاجتماعي، وأن التطور هو قبل كل شيء تهذيب لأشكال ضياع هذا المد الذي نسميه اللغة الشعرية. «إن الاستراتيجية الشعرية هي من جهة أكثر سلاسة، وأكثر شمولية، وأكثر هشاشة وتصعيدا إلى أبعد من ذلك، داخل ذاكرة الذهان المكون للذات المتكلمة»( ).

هوامش:

- Julia Kristeva, la Révolution du langage poétique, Editions Du SEUIL.1974. p.58
-2- نفسه ص 62
-3- نفسه
4 - Julia Kristeva, Polylogue,Editions Du SEUIL p. 296.
5 - Julia Kristeva, Les nouvelles maladies de l'âme, p. 158
6 - Julia Kristeva, la Révolution du langage poétique, , p.70 7 ,- نفسه ص 72
8- Julia Kristeva, La Révolution du langage poétique,.p 79 – Marge n° 117.
9- Julia Kristeva, Polylogue, p. 462.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى