أيمن مصطفى الأسمر - الوريث

ليس أشد وأكثر من حرمة الحاكم على المحكومين إلا حرمة وريثه عليهم، فقد ورث الملك سليمان الملك داود، وجاء يوسف من وراء يعقوب، ويعقوب من وراء إسحاق، الذي جاء بدوره من وراء إبراهيم، فالوراثة في الحكم والملك والنبوة أمر طبيعي لا غرابة فيه، بل أن الوريث قد يكون أكثر أحقية بالحكم من مورثه، فبمقتضى أنه نشأ في بيت حكم ورياسة، وخبر منذ صغره كيف يساس الناس وكيف يحكمون، وعرف مبكرا ما يصلحهم ويصلح أحوالهم، وما يفسدهم ويفسد أحوالهم، ما يرضيهم وما يثير سخطهم، كما أنه بحكم ما توفر له من حسن التربية والتأديب، وخير الدراسة والتعليم، وأرفع الثقافة وأنضجها، يملك بالضرورة المقومات التي لن تتوافر لغيره لوراثة الحكم وقيادة الناس، فهو أقدر من غيره على تدبر الأمور والنظر في دقائقها، يمتلك بصيرة ثاقبة وحسن إدارة ليستخلص من الشر خيرا، ومن الخراب عمارا، ومن القحط نماء وفيرا، وهو قد اعتاد التعامل مع الرؤساء والملوك منذ صغره، يعرف الألعاب والمناورات السياسية، كيف تدبر وكيف تدار، وهو خبير بأمور التجارة والاقتصاد، يعرف كيف تدار ثروات البلاد وكيف تستغل على أحسن وجه بما يعود بالنفع على البلاد والعباد، وهو قد عايش كيف تشكل الوزارات وكيف يتم التخلص منها عند الحاجة، وعرف منذ صغره كيف يقوم الناس رجالا ونساءً، وكيف يجعلهم يخضعون له ويطلبون رضاه، فمن يدعي ـ زورا أو بهتانا ـ أنه ند للوريث في حكمته ورجاحة عقله وسعة اطلاعه، فهو إما واهم غرته نفسه، أو طامع سال لعابه، أو جاهل وجب نصحه وإرشاده، وراثة الحكم إذن هي أمانة لا مفر للوريث من تحملها وإن كره الناس.
ولأنني أعلم يقينا استحقاقي للحكم وجدارتي به، وليس في ذلك تفاخر أو ادعاء، بل هو وضع للأمور في نصابها وإعطاء الحق لأهله، فلا يجوز في هذا الأمر التواضع الزائف أو الزهد في غير محله، لذلك فقد وضعت الأمر مبكرا نصب عيني، وخططت له منذ صغرى، ومهدت له داخل الأسرة أولا ولم يكن ذلك صعبا، ثم وضعت الخطط وبرامج العمل واستخدمت الأموال والرجال والنساء للتمهيد له بين الناس، ينشرونه ويقنعونهم به، فاقتنع به غالبية الناس وارتضوه وبات الأمر محسوما.
غير أن قلة حاقدة حاسدة تجرأت عليَّ فرفعت من الشعارات ورددت من المقولات ما لا يقبله إنسان ذو عقل سليم وفطرة سوية، ونسوا أنني كابن للحاكم ووريث له مكلف ومأمور بأن أعينه وأخفف عنه حمله الثقيل في إدارة شئون البلاد والعباد، فقد أفنى عمره وصحته من أجلهما، وأما وقد بلغ من العمر ما يلزمني إلزاما بتحمل عبء الحكم ومسئوليته عنه، فتجاهلوا ذلك واستشهدوا ـ عن جهل منهم ـ بما يحدث في دول وبلدان أخرى لها قيم وعادات وتقاليد وطبيعة تختلف عن بلادنا، فما يناسب بلد لا يناسب غيره، لكنهم أصروا على موقفهم رغم محاولاتي ومحاولات من اخترتهم وأعددتهم لمعاونتي لشرح الحقيقة لهم، فأفاضوا فيما لا يجب الإفاضة فيه من قضايا مثل تداول السلطة والثروة، وحرية التفكير والاختيار، والمساءلة والمحاكمة للجميع على قدم المساواة، جاهلين أن تلك المبادئ والشعارات حمالة أوجه، فإذا أسيئ استخدامها كانت وبالا على أصحابها وعلى الخاصة والعامة، فأشاعوا الفوضى والاضطراب في المجتمع، وأخرجوا الناس عن مألوف ما اعتادوه من سكينة ووداعة، وطاعة للحاكم ووريثه، وسمحوا لأعداء الوطن بالتدخل في شئونه الداخلية، فامتدت أصابع خارجية كثيرة لا تريد به خيرا لتعيث فيه فسادا وإفسادا، فاضطربت أحواله وتحكمت الأهواء فيه، ورغم أنني بحكمتي وفى ظل ما استجد من ظروف طارئة أوحيت لمن حولي أن يشيعوا بين الناس أنني لا أرغب في الحكم إلا كارها أو مضطرا، إلا أن الحاقدين ومن استغلوهم من أعداء الوطن استمروا في تهييج الناس وإثارتهم بالباطل، فأشاعوا عني وعن خاصتي حكايات وروايات ملفقة عن إساءة استغلال السلطة والثروة، ناسين ومتجاهلين أنه من حق طبقة الحكام أن تتمتع بسلطات وامتيازات لا جدال فيها تمكنها من بسط هيبة الدولة وإحكام سيطرتها في الداخل والخارج، فمن غير المعقول بل إنه من المضحك أن يكون الحاكم وأسرته ومعاونوه فقراء أو محتاجين، فالحكم له مقتضياته من مظهر وجوهر قوى عالم، ومستغنى قادر، لكن المهيجين لم يتفهموا ذلك أو أرادوا عمدا أن لا يتفهموه، وألحوا إلحاحا في أمر التوريث وجعلوه مبتدأ عصيانهم ومنتهاه، واستكبروا في الأرض بغير الحق، وكان يمكن لي بكل سهولة أن أقمعهم وأنكل بهم درء للفتنة وحفظا للوطن من عبثهم، غير أنني لم أفعل ذلك والتزمت حيالهم الصبر والحكمة، فازدادت الأمور اختلالا وعم التمرد والعصيان، ووقعت الواقعة بهياج العامة الجهلاء فسلم أبي الحاكم الأمر لهم، رحمة بهم ورأفة وحقنا للدماء، ورغم أنني وافقته على ما فعله، إلا أنني وأنا الذي لم أندم قط على أمر فعلته أو قرار اتخذته طوال حياتي كلها، ندمت على موافقتي له وكانت المرة الأولى والأخيرة التي أندم فيها على شيء، فاستخدام الحزم والقوة كان هو السبيل الوحيد لرد الناس إلى الصواب، وإنقاذ البلاد من الفوضى والخراب، وذلك درسي وتلك خلاصة تجربتي، أقدمهما راضيا لكل حاكم أو وريث عساه أن يستخلص العبر ويحسن التصرف، فلا يتهاون مع أي تمرد وإن صغر، ولا تأخذه بالمتمردين رحمة أو شفقة.

يوليو 2011
نص من كتاب لم يكتمل بعد
بعنوان "شخصيات من كتاب الثورة"

تعليقات

نص يسعى إلى تحقيق رهانه عن طريق ترك العنان لمنطق السارد، وإظهاره بمظهر الصادق المحق، حتى وإن كان غارقا في أوهامه، أسلوب يكشف عن انتقاد لموقف المستبد من خلال استبطان واستنطاق ذاته ..
تحيتي
 
نص يسعى إلى تحقيق رهانه عن طريق ترك العنان لمنطق السارد، وإظهاره بمظهر الصادق المحق، حتى وإن كان غارقا في أوهامه، أسلوب يكشف عن انتقاد لموقف المستبد من خلال استبطان واستنطاق ذاته ..
تحيتي
دمت بخير أخي الكريم
 
أعلى