جار النبي الحلو - ذبول

من يرد البصر، ومن يعيد النور؟ هي الألوان تهرب منه، والوجوه.

جلس، وضغط على شفته السفلى، كاد يقطعها. ارتجفت. رفع رأسه لأعلى، وسأل: ما العمل يا أولاد؟

الأرض تهرب من تحتنا، ونبحث عن الشقوق لنختبئ فيها. تراجع أخي الأكبر وخرج دون إبداء رأي، لكنه كان يسبنا جميعا وهو خارج لحظة كان يتحسس علبة سجائره، فيما تنحنح أخي معلم اللغة، فاللغة تقضي على وقته ويظل حبيس التلاميذ العام كله. وأنا أيضا كنت خارج اللعبة فأنا لا أعرف حتى جيراننا أو أولاد الأخوال، وصلتي مبتورة بعائلتي الكبيرة، وثيقة بآخرين محبوسين في الخزانة أفرج عنهم وأجلس بينهم حين أشاء وأتركهم للتراب والعناكب حين يتعكر مزاجي.

في تلك اللحظة التاريخية من زمن بعيد نظرت أمي لأختي الأصغر مني، فرمت أختي شعرها للخلف، وقالت إنها تعرف طريق السلخانة، وتعرف ماذا كان يعمل الأب. وهزت كتفها: كان يشعل ماكينة الجاز الضخمة ويملأ الحلة التي تتسع لرءوس البهائم. ونظرت لرءوسنا وقالت: شيء بسيط.

انسلت من بيننا. وضعت يدها السمراء الدقيقة على كتف أبي، وقالت بحماس:

- سأكون ذراعك اليمين، سأكون عينيك يا أبي. في صباح ليس كمثله الأصباح أمسك بذراعها اليمنى ومضى بجوارها كأنه يرى بألف عين. وذهبت به إلى كل الأمكنة: السلخانة والسوق ومبنى البلدية، وتعاملت مع الجزار والطبيب والصبي.

كانت ترجع بملابسها مبقعة بالدم وبرائحة نعرفها عن أبي.

وسارت الأمور طيبة، وكنا نأكل الكبد واللحم في سعادة. ونسينا نور عيني أبي الذي راح ولم يبق له سوى الذاكرة.

وحين تعب أبي ذات يوم وشكا من قدمين لا تساعدانه على المشي، قالت هي بحماس:

- أعرف كل السكك.

وفي الصباح الباكر خرجت وحدها وبيدها صفيحة الجاز، ومشت مرفوعة الرأس كرجل فرحان، قامتها مشدودة قوية، تبدو عنيفة رغم بساطتها، وأدت كل ما يقوم به أبي: قابلت رئيس البلدية، وناقشت ضابط الشرطة، وسددت رسوم العوائد، وحصلت الرسوم من الجزارين، وجمعت في حجرها الخضراوات والكتاكيت، وأتت لنا باللحم والكبد وكنا نأكل في سعادة. ونسينا صحة أبي التي فرت منه وجعلته قعيدا.

وحين أصبح أبي قعيدا، وجرت من عينيه الدموع، وجريت إلى تذكرة داود أستجديها، فتهرأت الأوراق الصفراء في يدي، وبحث أخي عن معنى قعيد في اللغة، بينما هي تقدمت وقالت ببساطة:

- أعرف السجل المدني، ومكتب الصحة ..

سأكون رجليك يا أبي أمشي كيفما تشاء.

وأصبحت وحيدة مع الصباحات الباردة والدافئة والعاصفة. تخرج من دارنا في آخر المدينة وتمشي إلى أولها. ولكن في كل مرة تزيد الأحمال .. صفيحة الجاز كبرت وكبرت، فاضطرت هي إلى أن تحني ظهرها قليلا ... وازدادت هموم البيت وجف خيالها كثيرا. اشتد البرد واشتد فاضطرت هي إلى أن تكح طويلا. تراكمت سنوات العمر فاضطرت هي إلى أن تبدو فتاة فاتها قطار الزواج. ولم تحزن .. كانت فقط تتعب.

والآن .. عندما أمشي بجوارها وهي محنية الظهر كعجوز، وأربت عليها خانقا دموعي ترمقني بعين أغشت وتضحك وهي تشير بإصبع مرتجف إلى الذين يجرون في الشارع وتهمس لي:

- لماذا يتعجلون؟

وتضغط على شفتها السفلى وهي تتوجع:

- يا ظهري.

وأخجل أنا.


اكتوبر 1996



جار النبي الحلو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى