صفاء ذياب - أطراف زائدة..

اندهش العرب من حكاية رواها الأبشيهي في كتابه "المستطرف"، لم تكن الحكاية فريدة عصرها، إلا أن أسلوب كتابتها وسردها الذي اقترب من الواقع، أدخل الغرابة والعجب في نفوس سامعيها، فقد نقل عن أحدهم: "دخلت بلدة من بلاد اليمن، فرأيت بها إنساناً من وسطه إلى أسفله بدن واحد، ومن وسطه إلى أعلاه بدنان مفترقان، برأسين ووجهين وأربع أيدٍ، وهما يأكلان ويشربان ويتقاتلان ويتلاطمان ويصطلحان، قال: ثم غبت قليلاً، ورجعت فقيل لي: أحسن الله عزاءك في أحد الشقين. فقلت: وكيف صُنع به؟ فقيل: رُبِط في أسفله حبل وثيق وترك حتى ذَبُل ثم قطع. ورأيت الجسد الآخر بالسوق ذاهباً وراجعاً...".
أحد رواة ذلك العصر قرأ هذه الحكاية في مطلع عمره، وكان مستمتعاً بها، إلا أنه حينما كبر بدأ يفكر بالمبالغات التي تزيد من قصص العرب وحكاياتهم غرابة وجمالاً، في الوقت نفسه رأى أن في هذه المبالغات تزوير مفضوح على الطبيعة، "كنت أريد أن أتأمل المخلوق الشاذ على أني أتمثله اليوم إنساناً واحداً من وسطه إلى أسفله، وإنسانين اثنين من وسطه إلى أعلاه وبدلاً من أن أُعجب منه أراني أُعجب من نفسي كيف كنت أجده تزويراً على الطبيعة، وكل إنسان هو في الحقيقة واحد من وسطه إلى أسفله، ثم هو اثنان من وسطه إلى أعلاه!"، يورد هذه التعليقات رئيف خوري في كتابه الذي صدر في العام 1942 (مع العرب في التاريخ والأسطورة)، كردٍ على حكاية هذا الإنسان العجيب.
حاول العرب؛ بحسب الأبشيهي، أن يقدموا نماذج مختلفة لطبيعة البشر، لكنهم لم يسردوا هذه الحكايات لمجرد المتعة أو اللغو، بل كان لهم في هذا المخلوق قراءة واعية للمجتمع حينها، فغالباً ما يتحدثون عن النفاق والحديث بوجهين، لهذا خلقوا تفاصيل إضافية للإنسان الطبيعي من أجل أن يمرروا ما يريدون من خلاله. من جانب آخر كانت لهم وجهات نظر في انفصام الشخصية، وربما هذه الوجهة اقرب للوصف الذي قدموه، فهالوا عليها أوصافاً لا تختلف كثيراً عن الأوصاف التي يتحدث بها علماء النفس عن المصابين بهذا المرض النفسي، فضلاً عن إضافات كثيرة لا يمكن إحصاؤها هنا، إضافة إلى التعبيرات التي ترافق حكايات العرب؛ من جانب، والأطباء النفسيين من جانب آخر.
يرى رئيف خوري في راوية هذه الحكايات، لو أنه يوم رأى المخلوق اليمني ذاهباً وراجعاً في السوق، وقد قُطِعَ عنه شقه الآخر، لو أنه انتظر هنيهة لرأى شقاً آخر ينبت في موضع الشق المقطوع.
ثمَّ لرأى رأساً جديداً ينمو، ووجهاً جديداً ينمو، ويدين جديدتين تنموان، ولرأى الشخص يعود إلى ازدواجه وانقسامه على نفسه. فقال: سنّة في الحياة، سُخِّر لها حتى الموت! ولن تجد لسنة الحياة تبديلاً.
لا تختلف هذه الأمراض عن الكبد كثيراً، كلما قطعنا جزءاً منه، عاد لحجمه الطبيعي بعد مدة؛ طالت أم قصرت، أمراضنا دفينة في دواخلنا، ننقلها من جيل لآخر، هكذا من دون أي مسببات نموت وتبقى دائماً، فمتى نتخلص من أطرافنا الزائدة التي نقطعها مع كل حياة جديدة، لنعيش بسلام؟

- عن صحيفة الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى