جار النبي الحلو - قد يكون مغلقا

حين مرت أربع وعشرون ساعة ولم أر أو أسمع صوت رفيق توءمي العجوز‏,‏ قلقت‏,وتلخبط كياني, افترقنا علي أن نلتقي في الصباح, شكي من آلام عموده الفقري ومشي .

ولم يأت. قلت لنفسي لابد راحت عليه نومة, وفي المساء قلت ربما شده فيلم في التليفزيون, وتناولت رغيف خبز أسمر وقطعة جبن وشربت الشاي, ولم أنم..
في اليوم الثاني لم يأت, فتحت شيش البلكونة فدخلت الشمس وفرحت قليلا بالحياة, وتراقصت وأنا أفتح الموبايل لأحدث العجوز الكسول, اتصلت, فسمعت صوت السيدة يقول; الهاتف الذي طلبته قد يكون مغلقا; ضحكت. أعرف أنه يقع في حيص بيص عندما يصيب موبايله أي عطل, حلقت ذقني ورششت الكولونيا اللاسعة, وشددت ظهري ونزلت, ولما صعدت إلي شقته كنت أجهز له مفاجأة وصولي ثم أعنفه علي سوء تصرفه, وفي النهاية سنجلس طبعا ونتناول الفطور ويشرب الشاي وأشرب النسكافيه, وربما نجلس في البلكونة بين زرعه الكثير و.. لم يفتح. بعد جرس طويل لم يفتح, هرشت شعري الخفيف وكورت يدي وطرقت الباب, ولم يفتح. غريب, لم يقل انه مسافر أو سيذهب لابنته, ربما هو في الطريق إلي, الغبي.. لماذا لم يتصل؟
أخرجت الموبايل, جاءني الصوت..; قد يكون مغلقا; لماذا لم يصلح الموبايل وهو في الطريق أو يشحنه أو يكلمني من أي مكان؟ نزلت الدرجات غاضبا, عبرت الشارع بالعرض, أطللت علي شقة رفيق وجدت البلكونة وقد أحكم غلق شيشها, ركبت توك توك ونزلت في الشارع الرئيسي, كاد ظهري يقصم, فردت ظهري بصعوبة ومشيت حتي البيت, اعترضت طريقي بابتسامتها الواسعة, وبدت أكثر سمنة, لم أستطع انتزاع ابتسامة ضئيلة, بادرتني ياسمين: خير يا أستاذ فايز؟ أشحت لها بيدي ومشيت, سمعتها تقول لابنها المشرئب برأسه من شباك الكشك..حد مات له!!
لا أعرف لماذا حط الصمت علي شفتي, وحل وخم ثقيل. أضأت كل المصابيح, وشغلت التليفزيون, وحاولت أن أفهم لماذا أنا حزين؟ فتوصلت لأنني وحيد, لجأت إلي الموبايل لحل الموضوع, ياللغباء لم أسجل رقم ابنة رفيق, تابعت الأرقام ليس سوي البقال والسباك والكهربائي وبائع السمك وأختي الوحيدة العجوز وابني في البلاد البعيدة وصانع كراسي الجريد, ما هذا؟ اشتريت كرسيين وانتهي الأمر, سأمسحه, مسح.. تم المسح..
بعد قليل سيطرق الباب, سأزغر له وأهتف غاضبا: كنت فين ياعم؟ سيبتسم رفيق ابتسامته العذبة ويقول: سأحكي لك حكاية لطيفة..
ما إن أشرب النسكافيه حتي يأتي, وشيش الماء في البراد علي البوتاجاز له صوت مرتفع, جريت, شغلت التليفزيون بالريموت توقفت عند محطة الأغاني, الونس يملأ المكان, سيأتي وألاعبه طاولة واهزمه كعادتي, وكعادته سيقول: انه يلاعبني بربع دماغ لأنه لا يكترث بهزائم الطاولة. صببت الماء المغلي علي النسكافيه, لم يأت, خرجت إلي البلكونة, لوح لي جاري المقابل بلا اهتمام, استغربت ولوحت له بلا اهتمام, أطللت علي كشك ياسمين أراه من هنا بصعوبة لأنه في ذات الصف مع البيت, لقد أغلقت الكشك, لابد أن الساعة الآن العاشرة والنصف.. فعلا وخمس دقائق, غالبا لن يأتي, هذا أفضل, قررت أن أقضي ليلة هانئة, فتحت صفحة; الفيس بوك; فوجدتني ووجدت الأصدقاء الافتراضيين, والتعليقات اللذيذة, والمضحكة, والقاسية. دهشت, الوحيد الذي ليس علي صفحتي هو; رفيق; لأنه لا يملك صفحة علي; الفيس بوك; ولأنه بالكاد يقرأ الجرائد علي الكمبيوتر, علي إذن التوغل في الصفحات الأخري علي الانترنت.
في الصبح راجعت الأرقام التي اتصلت بي علي الموبايل, لم أجد رقم رفيق;. قبل أذان الظهر سيأتي مهرولا حاملا في يده شنطة بها الطماطم والخيار والخبز. علي أي حال سأغسل فاكهة وأصفها في الثلاجة, وعندي الكثير من الشاي والسكر.
بعد الغروب صرت عصبيا, هل مات مثلا في الطريق العام؟ هاجس بشع, شددت بنطلون وقميصا كيفما أتفق وحشرت نفسي فيهما, هرولت إلي الشارع, أكاد أنكفئ علي وجهي, فيما أتصور أنه في لحظة ما سيخبط في كتفي فأتنفس الصعداء, بالضبط أتنفس الصعداء هو التعبير الدقيق, وقبل أن أثور في وجهه غاضبا سيضحك ضحكته العذبة وسيقول: سأحكي لك حكاية لطيفة. ويذوب كل شيء. آخر شارع محب علي الشمال وقبل بداية محلة البرج, الشارع الذي تسكن فيه ابنته, البواب لم ينهض من مكانه: الست سافرت مصر.. لا.. وحدها..العفو.
رجعت إلي شقتي بسرعة, عدوت فوق درجات السلم, كاد قلبي يتوقف من التعب وغمرني العرق. بعد أن دققت الجرس أكثر من مرة تصنت علي باب الشقة, لعله يئن, أو يستغيث, يصدمني الصمت, همست: رفيق.. رفيق.. أنت موجود.. رفيق.
انهرت جالسا علي درجة السلم, سألني ساكن من السكان فسألته عن رفيق رد أنه لم ير عم رفيق من حوالي أسبوع, مسحت عرقي, وهمهمت لنفسي: سافر. نزلت علي مهل, سألت البقال والمكوجي والقهوجي وبائع الجرائد وبائع عصير القصب. رفيق لم يره أحد, فقلت: مات.. رفيق مات.
جلست علي أقرب مقهي أمسح عرقي, ورسخ في ذهني أن رفيق هذا العجوز النحيل مات وحيدا, فبكيت. سألني صبي المقهي: أي خدمة يا أستاذ.. شاي.. قهوة. انحني وبص علي وجهي المغمور بالعرق وعينيي المحمرتين من البكاء, وهمس: أشوف لحضرتك دكتور... استسلمت للمحطات الفضائية وصار الريموت صديقي الوحيد, وكنت قد أخذت رقم موبايل; ياسمين; لأتصل بها كلما احتجت لشيء, وكان ابنها الذي أخشي نظرته هو الذي يرمي لي ما أريد ويتقافز فوق درجات السلم مثل جدي..
أربعة أيام كاملة مرت ولم يظهر عندك رفيق; خبر, هل يمكن أن يموت دون أن أعرف؟ يمكن طبعا من يعرفني أنا العجوز في هذه المدينة التي ازدحمت بشكل فظيع, صرت عجوزا والشبان في الشوارع بصخبهم واحتجاجاتهم وجرأتهم..
خمس وأربعون سنة مرت منذ رأيت رفيق أول مرة في المدرسة الثانوية, كان نحيلا يموت عشقا في لعب كرة القدم وأفلام هند رستم, وكان يحفظ قصة موت موظف لـ تشيكوف كان نحيلا وما يزال, سيموت في صمت وخفة. أعرف, لكنني وحيد, ضغطت علي رقم موبايل; ياسمين;, رد صوت الولد المتشرد: ألو.. مين.. أمي نايمة يا ابن...
مشيت حافيا حتي السرير وارتميت عليه وأنا أشعر بوخزة في ظهري, نسيت أدوية ما بعد العشاء لأنني لم أتناول العشاء..
بعد أسبوع من اختفاء رفيق أغلقت باب الشقة والشبابيك وأضأت المصابيح كلها, وأختلط علي أمر الليل والنهار وقررت أن أرتب حياتي من جديد, يمكنني مثلا أن أسافر لابني في البلاد البعيدة وألبس الجلباب الأبيض الضيق والطاقية وأرضي بالعيش في التكييف البارد, أو.. أتزوج.. لا يشترط السن أو الشكل وحتي لو عندها عيل متشرد أخشي نظرته, لا لا.. يمكنني أن أعيد قراءة الكتب التي أحببت, لا.. في البداية سأرتب كل ذكرياتي مع رفيق من صور وأوراق وأضعها في صندوق لأيامي العليلة القادمة. أسرعت ووضعت صورة تجمعنا بالحجم الكبير علي المكتب, كنا علي كوبري بديع في القناطر الخيرية وكان في الصورة فرح يغمر الأحجار والنهر والورد الأحمر ووجه رفيق كان يبتسم مثل عجوز محنك ومثل صبي خجول, ابتسمت فقد كنت فرحا أيضا وأضمه لي بيدي اليسري..
سمعت خطبا علي الباب, فتحته, فانسكبت شمس النهار في عيني, زررت عيني, وبصعوبة استقبلت المشهد المضيء, شهقت, رفيق, بابتسامته العذبة, فتحت فمي ولم أتكلم, فقال وهو يرفع يديه لأعلي: سأحكي لك حكاية لطيفة...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى