علي الشوك - أبيات شعر نحفظها

تعلق في ذاكرة كل منا أبيات من الشعر الكلاسيكي، أو العمودي، بحكم موسيقيته في المقام الأول. فنحن لا نحفظ النثر إلاّ في نطاق ضيق. وأنا هنا لا أريد أن أزج نفسي في معمعة الصراع بين أنصار المحافظين وأنصار المجددين في الشعر، ومن هم بين المنزلتين. ولا أريد أن أدلي بشهادة الى جانب هذه أو تلك من مدارس الشعر أو اتجاهاته. لكنني أحببت أن أتحدث عن طبيعة تلقي أو رسوخ الشعر الكلاسيكي في ذاكرتي، كمثال لأي متلقٍ للشعر: هناك أبيات نحفظها لسلاسة ايقاعها وموسيقاها، أو لبساطة كلماتها، مثل:
"رباب ربة البيت/ تصب الخل في الزيت"،
الخ. ومثل:
"خبروني أن سلمى = خرجت يوم المصلى
فإذا طير مليح = فوق غصين يتفلى
قلت من يعرف سلمى = قال ها، ثم تحلى
قلت يا طير ادنُ مني = قال ها، ثم تدلى
قلت هل أبصرت سلمى = قال لا، ثم تولى".

وهذه الأبيات للوليد بن يزيد بن عبدالملك الخليفة الأموي. وأنا أحسبها من أظرف الشعر. وأمثال ذلك كثير، مثل قول امرئ القيس:
"يتمنى المرء في الصيف الشتا = فإذا جاء الشتا أنكره
لا بذا يرضى، ولا يرضى بذا = قُتل الإنسان ما أكفره".

لكننا نحفظ أيضاً نماذج أخرى من الشعر، يمكن أن تندرج في باب الحوشي منه، على سبيل المثال:
"وقارفت وهي لم تجرب وباع لها = من الفصافص بالنُمّيّ سفسير".
وهو بيت علق في ذاكرتي عندما كنت أقرأ رسالة الغفران. والبيت يتحدث عن نعجة اشترى لها صاحبها كلمة "باع" تفيد معنى الشراء أيضاً برسيماً الفصافص بنقود ذلك ان النُمّيّ تعني نقوداً، وهي مفردة لاتينية الأصل، والسفسير هو السمسار، وقد أحببت أن أحفظ هذا البيت لغرابة ألفاظه... وفي رسالة الغفران أبيات أخرى كثيرة، علق في ذاكرتي بعضها، مثل:
"اذا أُمّ الوليد لم تطعني = حنوت لها يدي بعصا حماط".
أعجبني هذا البيت لأنه يضلل القارئ، فيخاله يفتقر الى الوزن ما لم يُحرَّك، أو ان موسيقاه مكسورة في كلمة "الوليد"، في حين أنه موزون، وقد امتحنت به صديقين شاعرين طبعاً دون أن أحركه، فقرأه أحدهما مكسوراً، أما الآخر فكانت قراءته له صحيحة، لأنه ضم الواو في كلمة "الوليد"، وشدد الياء، وعند ذاك استقام الوزن!

ومن بين ما قرأت في رسالة الغفران، البيت الآتي:
"الفقر في أوطاننا غربة = والمال في الغربة أوطان".
وهو ليس لأبي العلاء. وقد حفظته تواً لأنني وجدته مذهلاً في مضمونه، الى حد أنني أحسبه يصلح ان يُصدَّر به كتاب رأس المال لكارل ماركس.

وتتداعى في ذاكرتي أبيات أخرى من رسالة الغفران، مثل:
"ستِّ إن أعياك أمري = فاحمليني زقفونة".
وقد حفظته لغرابة كلمة زقفونة، التي وردت في سياق جميل في رسالة الغفران، حين كان المحدّث يهمّ بعبور الصراط المستقيم، فوجد نفسه لا يستمسك، "فقالت فاطمة الزهراء ص، لجارية من جواريها: فلانةُ أجيزيه. فجعلت تمارسني وأنا أتساقط عن يمين وشمال، فقلت: يا هذه، إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة: "ست إن أعياك أمري، فاحمليني زقفونة"، فقالت: وما زقفونة؟ قلت: أنْ يطرح الانسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك الحاملُ بيديه، ويحمله وبظنه الى ظهره...".

ونحن نحفظ لأبي العلاء أبياتاً كثيرة متألقة، مثل:
"جسدي خرقة تُخاط الى الأرض = فيا خائط العوالم خطني".
وقد وقفت على هذا البيت في احد مؤلفات أدونيس. وأذهلني أيضاً بيت للمتنبي، قرأته في نص للكاتب الفلسطيني الشاب الراحل حسين البرغوثي، نشر في مجلة الكرمل، بهذه الصيغة:
"يظل يجيء الذي قد مضى = لأن الذي سوف يأتي ذهب".
وسألت صديقاً شاعراً من كبار شعرائنا: أصحيح أن هذا البيت للمتنبي، فأنا لا أذكر أن له قصيدة بائية مسكّنة مع أن محفوظاتي الشعرية لا يُعتدّ بها. فأطرق صديقي الشاعر، ثم قال: لعل البيت من مقصورة المتنبي، وعند ذاك ينبغي أن يُقرأ على النحو الآتي:
"يظل يجيء الذي قد مضى = لأن الذي سوف يأتي مضى".
ولا شك أن ديوانه، الذي لم يكن تحت متناول أيدينا، هو الحكم الفصل... وأنا أحفظ بيتاً نادراً من شعر المتنبي العاطفي أو الغزلي، هو:
"شامية طالما خلوت بها = تُبصر في ناظري محياها"...

وقد طربت لصورة شعرية جميلة في بيت لابن الرومي:
"حبر أبي حفص لعاب الليل = يسيل للاخوان أي سيل"
فكتبت يومها مقالاً من وحيه بعنوان تقاسيم على خاطرة تفنطزت فيه، وتحدثت عن شركات تتنافس وتحترب من أجل احتكار الليل لصناعة الحبر!

ومَنْ منا لا يحفظ البيت الآتي، الذي جاء على لسان امرأة من الخوارج أو زوجة خارجي:
"أيا شجر الخابور مالك مورقاً = كأنك لم تحزن على ابن طريف"
وبهذه المناسبة، أعني مناسبة الحديث عن شعر المرأة، أود أن التمس من المحافظين من بين أصدقائي القراء أن يتحلوا بروح التسامح لدى قراءة البيتين الآتيين، اللذين جاءا على لسان احدى نسائنا العربيات القديمات "اللبراليات":
"هل من سبيل الى خمر فأشربها = أو هل سبيل الى نصر بن حجاج
الى فتى ماجد الأعراق مقتبل = سهل المحيا كريم غير ملجاج".

ويقال ان الصين كانت أغزر أمة في قول الشعر، وتليها أمة العرب. لكن ما يعلق في ذاكرتنا من شعرنا العربي نزر قليل جداً. ولا شك أن ما تستعذبه أذواقنا قليل أيضاً، بحكم تغير الأزمان والأهواء. ثم اننا لا ينبغي أن نتوقع أن كل الكلام أو كل الشعر، على غرار:
"صاحِ هذي قبورنا تملأ الرحب = فأين القبور من عهد عاد"
لذلك نحن لا نحفظ الا بعض الالتماعات، مثل:
"تمتع من شميم عرار نجدٍ = فما بعد العشية من عرار"
ومثل"وغريب الدار لو كان بطوبى لم ترقْ له" أو
"ولو طار جبريل بقية عمره = من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر"

وأرجو أن لا يضيف المنضّد تاءً الى كلمة"اسطاع"، لئلا يختل الوزن.

وتنزع الذاكرة الى المزيد من الايجاز، فتخترم شطراً وتُبقي شطراً آخر، وذلك لأسباب معروفة. فنحن نحفظ الشطر الثاني فقط من البيت الآتي:
"أوردها سعْدٌ، وسعد مشتمل = ما هكذا تورد يا سعد، الإبل"
مع أن الشطر الأول يعزز المعنى، ولا يقل جمالاً. ونحفظ الشطر الثاني أيضاً من قول الشاعر:
"سألتني عن أناس هلكوا = أكل الدهر عليهم وشرب"
وكذلك قول المتنبي: "مصائب قوم عند قوم فوائد"، وشطره الأول: "بذا قضت الأيام ما بين أهلها". وهو منحول؟ من أبي الحسين الناشئ، معاصر المتنبي، في قوله:
"فلا تذكروا منهم مثالب إنما = مثالب قوم عند قوم مناقب".

وأنا قارئ شعر مقل جداً، لم أقرأ في حياتي كلها سوى ديوان شعر واحد من ألفه الى يائه من بين دواوين شعرنا القديم، هو ديوان أبي تمام، وذلك لأجل اقتناص أبياته السريالية، على غرار:
"كانوا برود زمانهم فتفرقوا = فكأنما لبس الزمان الصوفا".

وثمة أبيات كثيرة أخرى تحفظها ذاكرتي، لكنني أخشى أن الحيز المتاح لهذه الكلمة لا يتسع لها... على أنني أود أن أختتم هذه الكلمة بمستهل قصيدة مالكِ بن الريب، التي يمكن اعتبارها من نوادر الشعر العربي الكلاسيكي الوجداني:
"ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة = بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عرضه = وليت الغضا ماشى الركاب لياليا".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى