صفاء ذياب - ذاكرة بيضاء

شهقت إحدى الأمهات حينما طلب منها أحد الأطفال سرد حكاية له وقت الضحى: "بالنهار؟ هل تريد أن يكون لي أبناء قرع"، لم تكن هذه المرأة كاذبة أو تتهرب من الحكاية، لكن بعض الثقافات الشعبية ترى أن الحكاية لا تروى إلا في الليل، أما إذا حكيت نهاراً فهذا سيؤدي لولادة أطفال من دون شعر، ومن ثمَّ يرى الناقد عبد الفتاح كيليطو أن "موطن الخرافة هو الليل"، وهذا ما يؤكده أغلب الحكواتية الذين كانوا يسردون قصصهم على الملأ في المقاهي والحارات الشعبية في تونس والشام ومصر وغيرها من المدن.
يبحث الناقد المغربي محمد حجو في دراسته عن الحكي الشعبي، في أن الأمهات التونسيات يرفضن تماماً أن يحكين في النهار، لأنه وقت العمل، في حين يبقى الليل موطن العائلة ومدفئتها المتقدة على طول الفصول، لكن الحكايات تنقسم حسب الفصول، فهناك الصيفية والشتوية، وهناك الربيعية والخريفية. قصص الغول والحمار والذئب وحكايات الحيوان الأخرى لا تروى إلاّ في الشتاء، في حين تكون قصص بنت السلطان ومساعدة الأعمى وجحا وغيرها حكايات الصيف. لذا تختلف طرق السرد ومواعيده، ففي بعض المجتمعات يرتبط السرد بموسم الحصاد أو شهر رمضان، والآخر يرتبط بموسم الشتاء والتجمع حول الكانون، وهكذا حسب المجتمعات وثقافاتها وطرائقها الخاصة في الحكي.
ربما يبدو الأمر مختلف تماماً لدينا، فالقصص التي رويت على مدى سنوات طفولتنا لم تكن من باب التسلية أو التعليم أو الحكمة، جميعها تقريباً كان من باب الترهيب والترغيب لا أكثر. الترهيب من النهر والسباحة فيه؛ على سبيل المثال، أدى إلى اختلاق حكاية عبد الشط والرفش الذي يأكل البشر والنداهة التي تأخذ كل من يقترب من النهر شتاءً، أو ليلاً في الفصول جميعها، ومن ثمَّ بقيت حكايات الحوريات والجان والعمالقة ترتبط بالوعظ الديني والروايات التي تحكي عن الأنبياء والأولياء. فهل يمكن أن نعدَّ ما كنّا نسمعه حكياً شعبياً؟! وإذا كانت هذه القصص تروى؛ في بعض الدول العربية، في جلسات السمر الليلية أو في جو شبه طقوسي، حيث النار تتوسط جلسة العائلة، والألفة التي تجعل من الغرفة أكثر حميمية، فإن جلساتنا غالباً ما كانت هامشية، كل ما في الأمر أن الأم تروي ما تعرف وطفلها يتوسد فخذها وهي تمسّد على رأسه، أو حينما تحاول أن تقول له ما لا تستطيع شرحه بوضوح. أما آباؤنا فلم يكن لهم إلا همّ العمل نهاراً ولعب الدومينو في المقاهي ليلاً، ليتركونا عرضة لأي حادث طارئ يغير من مجرى حياتنا في لحظة واحدة.
إذا كانت أيام طفولتنا خالية من الحكايات، فكيف ستكون أيام شبابنا وكهولتنا؟ وماذا سنروي لأطفالنا؟ هل نحن شعب بلا قصص فعلاً؟ ربما يكون هذا التساؤل قاسياً بعض الشيء، لكن ذاكرتنا ككيس فارغ لا يملؤه إلا الهواء، الألوان بيضاء جميعها، ولا تتشكل إلا من خيالات باهتة لصور غير واضحة المعالم. لكن هذا التساؤل يجعلنا ندخل في وهم آخر: هل عشنا أياماً وردية لم نخف فيها من شيء، ولم نعرف الغول والجنيات والرفش الذي لم يخرج أبداً من النهر؟
إذن لندون حكاياتنا الآن، فلأطفالنا ذاكرة بيضاء، كسماء لا غيم فيها.. لنلونها قليلاً..



* عن الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى