بَن لوري - الشجرة

هناك شجرةٌ تنتصبُ في الغابةِ . تنتصبُ لسنوات عديدةٍ ، تراقبُ الحيوانات في سيرها، تراقب الناسَ وهم ينطلقون ، تراقبُ الطيورَ تطيرُ، تراقب الغيمَ يمرُ عِبر السماء .
تظلُ منتصبةً هناك ، لا تريمُ . تنتصبُ وتنتصبُ.
أخيراً ، في أحدِ الأيامِ ، تقررُ أن تتحركَ .
تقولُ : سأسيرُ .
وهذا هو ما تفعلُه .
تقلعُ جذورَها من التربةِ ثم تنفضُها ، جذراً بعد جذرٍ ، بعد ذاك تتقدمُ نحو الريفِ .
في بادئ الأمر تبدو المسيرةُ صعبةً الى حدٍ ما؛ بيد أنها تعتاد عليها بعد ذلك .
تتساءلُ الأشجارُ الأخرى : ماذا تفعلين؟
تجيبُ : سأرى العالمَ .
تسيرُ، تواصلُ السيرَ ، ترى أشياءً كثيرةً ممتعةً : ينبوعٌ ، دلوٌ ، زريبة قديمة ، وعلامة صدئة .
تجدُ طريقاً ، تواصلُ السيرَ فيه لمسافةٍ بعيدةٍ.
أخيراً، تأتي الى قمةِ تلةٍ
وترى مدينةً تنبسطُ أمام ناظريها.
تفكر ُ : مدينةٌ ؟ يجب أن تكـــون هذه مدينة !
وتأخذُ الطريقَ مسرعةً باتجاه المباني .
عندما تصلُ الى المدينةِ يخرج الناسُ للترحيب بها .
يقول الجميعُ : شجرةٌ ماشيةٌ ! شجرةٌ ماشية ٌ !
يُعبّرُ الجميعُ عن ابتهاجهِم بها وتغدو في غايةِ السعادةِ .
تقول الشجرةُ : مرحباً يا كلَّ الناسِ .
ثم تحرك أطرافها حولها .
يشاركها الناسُ في مرحها ، يضحكون ويرقصون .
يقولون: دعونا نقيمُ احتفالاً !
وهكذا تذهب الشجرةُ مع الناس الى المتنزه الكائن في وسط المدينة . كلُّ واحدٍ يضحكُ ويرقصُ ويغني ويحكي قصصاً حتى وقت متأخرٍ من الليلِ.
لكن حالما تستيقظُ الشجرةُ في الصباح، تجدُ نفسها وحيدةً يحيط بها سياجٌ من حديد .
تتساءل : ما هذا ؟
ترتفع الى الأعلى وتتمددُ للحصولِ على نظرةٍ أفضل . هناك شيء ما على واجهة السياج. شيء هو علامة معدنية ذات حروف كبيرة.
تقول الكتابةُ : شجرةٌ ماشيةٌ .
تسير ُ ذهاباً واياباً في المكانِ المغلقِ، تحاولُ اجتيازَ السياجِ المعدني بيد أنه متينٌ للغايةِ .
تقول بصوتٍ عالٍ: كيف حدث هذا ؟
بيد أن ليس هناك من جواب .
لا تعـــــرف مــا ينبغــــي عليها عمله . يأتي الناسُ ويحدقون بها كلَّ يومٍ . تتحدثُ اليهم، تسألهم لماذا هي مسجونة.بيد أن لا أحد منهم يعيرها اهتمامه.
يقـــول جميع الناس لصغارهم: انظروا، انظروا، إنها الشجرةُ الماشيةُ .
وكل ما يفعلونه هو تجاهل أيّ شيء عنها عدا كونها شيئا قائماً للتفرج عليه.
أخيراً تتخلى الشجرةُ عن كلِّ جهدٍ وتخضعُ . تذهبُ الى وسط المكانِ المغلقِ. تزلقُ جذورها في التربة، ثم تغلقُ عينيها.
تنامُ، وتنامُ ، وتنامُ، وتنامُ .
بعد ذلك تنامُ لمدةٍ أطول .
تمضي الأعوامُ . يصدأُ السياجُ. يتضاءلُ عددُ زائري الشجرةِ .
يقول الصغار : انها لا تمشي .
يقول الآباء : انها لا تقوم بالمشي في أغلب الأحيان .
في النهايةِ ينسى الناس في المدينة أن للشجرةِ قدرةً على المشي .
يقولون : إن " الشجرةَ الماشيةَ " مجرد اسمٍ يدعونها به الناس . وهي تكتفي بالجلوس هادئةً وحيدةً يحيطها سياجُ الحديد المرتفع. حتى العلامة المعلقة هناك التي تقول "الشجرة الماشية " تختفي... يأكلها الصدأ ، تهوي الى الأرض، تُدفَنُ ويطويها النسيان .
بعدئذٍ ، عقب أعوامٍ وأعوامٍ ، يتوصلُ عمدةُ المدينةِ الى قرارٍ .
يقولُ : ينبغي أن يُقلَعَ ذلك السياج القديم الصدئ ، فهو ليس بالمنظر اللائق وليس لبقائه سبب .
وهكذا يُقلَعُ السياجُ ، يُسحَبُ بعيداً ويُدَمّرُ ، ولا يبقى إلا الشجرة قائمةً في المتنزه .
تفتحُ الآن عينيها .
تقولُ : آه ، هي فرصتي الآن !
وتأخذ بقلع جذورها من الأرض .
بيد أنها ما أن تفعل ذلك حتى تجد نفسها غير قادرةٍ على اقتلاعها. —غير قادرةٍ على زحزحتها مطلقاً. تقولُ : ما هذا ؟ ثم تسحبُ وتسحبُ. بيد أن الجذورَ لا تتحركُ حتى لانجٍ واحدٍ .
لقد نبتت عميقاً وغاصت سريعاً.
تبتئسُ وتنظرُ من حولها .
يحدث ذلك عندما ترى على نحو مفاجئ أن المدينةَ قد اختفت على نحوٍ كاملٍ. في الواقع اختفت اليابسة ، هي الأخرى.
بعدئذٍ تنظر الى الأسفلِ .
هناك في الأسفل – بعيداً ، بعيداً ، بعيداً في الأسفلِ -- لا تقدر الشجرةُ على رؤيةِ المدينةِ ، فهي بعيدةٌ للغايةِ ، تبدو مجرد بقعةٍ صغيرةٍ.
وأنت ترى بأن الشجرةَ قد نبتت .
اكتمل نموها .غدت مُحكَمةً وقويةً. لحاؤها كثيفً ويانعً . أوراقها كثيرةٌ،عريضةٌ وخضراء . تحلقُ عالياً نحو السماء
والآن لا تقدر حتى على رؤية المدينة -- فتلك البقعة قد تكون صخرةً ، بعد كل شيء .
تلتفت بعيداً الى الجانب ، ترى نهراً، الى جانبه تلةٌ . ومن خلف ذلك هناك عددٌ من جبال قليلة الارتفاع ِ،
ووادٍ صغير ،و وهدة .
وما وراء ذلك تستطيع أن ترى الشاطئ ومن خلفِه المحيط الواسع وجزره المنتشرة بأعداد هائلة واليابسة الممتدة في الجانب الآخر .
تستطيعُ الشجرةُ أن ترى كلَّ ارجاءِ العالمِ الواسعِ ، كلَّ انجٍ ، كلّ ميلٍ . تنظرُ من حولها .؛ تتمددُ الى الخارج .
تقولُ الغيومُ العابرةُ : مرحباً
تردُّ التحيةَ وتبتسمُ ، ثم تنظرُ الى الأعلى وترى الشمسَ في السماء.تنالها، تمسكها
بينما يمكثُ الناسُ الواهنون في الأسفلِ.
[طباعة]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى